کتابخانه تفاسیر
تفسير الكاشف
الجزء الأول
سورة البقرة
الجزء الثاني
سورة آل عمران
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
تفسير الكاشف، ج1، ص: 34
و على القراءة الأولى يكون «مالك» وصفا، و على القراءة الثانية يكون «ملك» بدلا.
و في نهج البلاغة: إنّا لا نملك مع اللّه شيئا، و لا نملك الا ما ملّكنا، فمتى ملّكنا ما هو أملك به منا كلّفنا، و متى أخذه منا وضع تكليفه عنا.
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ :
إياك ضمير منفصل، و محله النصب مفعولا للفعل الذي بعده، و قدم للحصر و الاختصاص .. و المعنى نعبدك، و لا نعبد سواك، و نستعين بك، لا بغيرك، و خاطب العبد ربه بضمير المفرد إخلاصا في التوحيد، و تنزيها عن الشريك، و من أجل هذا لا يخاطب الواحد القهار بصيغة الجمع .. أما ضمير نحن في نعبد و نستعين فللمتكلم و من معه، لا للتعظيم.
و تتحقق العبادة بالصوم و الصلاة، و الحج و الزكاة لوجه اللّه تعالى، و أيضا تتحقق بكل عمل انساني يسد حاجة من حاجات الناس، فلقد جاء في الحديث:
«أهل المعروف بالدنيا أهل معروف في الآخرة .. خير الناس أنفع الناس للناس».
و ليس معنى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ان اللّه أهل للعبادة و كفى، بل تدل الآية أيضا على ان الإنسان مخلوق كريم حرره اللّه من العبودية و الخضوع إطلاقا إلا للحق الذي يعلو على كل شيء، و لا يعلو عليه شيء .. و بديهة ان الحرية التي لا يحدها الحق تنعكس الى فوضى .. و مما قرأته في هذا الباب قول جان بول سارتر: «ان التحرر الحقيقي ان يلتزم الإنسان بوضع نفسه و حريته في خدمة الآخرين» «1» .
(1) معنى الوجودية التي كان يقول بها سارتر ان كل فرد من افراد الإنسان هو في عزلة و استقلال عن غيره، و انه لا شيء بالنسبة اليه إلا وجوده وحده، و لا يتحقق له وجود إلا إذا انطلق مع حريته، دون قيد أو شرط ... أما الدين و المبادئ و المعايير و المقاييس فكلام فارغ، فلا خير إلا خير الفرد نفسه، و لا شر إلا شره بالذات ... و يستدل سارتر على ذلك بأن الإنسان أتى من عالم مجهول، و يذهب إلى عالم مجهول و انه وجد قبل القوانين العقلية و الدينية، و من استسلم لدين من الأديان، أو لمبدإ من المبادئ فقد قيد نفسه، و تنازل عن حريته، و بالتالي عن وجوده .. ثم عدل سارتر عن فلسفته هذه، و اعتنق «حرية أعظم، و هي الحرية من أجل الملايين، و ان الإنسان يكسب نفسه حينما يضعها في خدمة الآخرين، و ان الإنسان الحقيقي هو الذي يلتزم بهذا المبدأ» .. و بعد أن كان سارتر يتكلم عن الفرد و يدافع عنه أصبح يتكلم عن الشعوب و يدافع عنها.
تفسير الكاشف، ج1، ص: 35
و قيل: ان اثنين كانا يتنزهان في حديقة، و مع أحدهما قضيب يلعب به، فمس طرف القضيب أنف الآخر، و لما اعترض هذا قال صاحب القضيب: أنا حر، فقال له صاحبه: لحريتك حد ينتهي عند أنفي.
و لا أعدو الحقيقة إذا حددت الحرية بالايمان باللّه، و التعبد له وحده لأن من تعبد للحق دون سواه فقد تحرر من الباطل و من تحرر من عبادة الحق فقد عبد الباطل حتما، و التفكيك محال إلا عند فوضوي، لا يؤمن بحلال و لا بحرام، و لا بشيء على الإطلاق إلا بنفسه وحدها لا شريك لها.
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ :
الصراط في اللغة الطريق المحسوس، و فيه قراءتان بالسين و الصاد، و السين هي الأصل، و المستقيم المعتدل الذي لا عوج فيه و هو صفة للصراط، و المراد بالصفة و الموصوف هنا الحق.
و ليس المراد بالهداية مجرد العلم، بل العلم مع التوفيق الى العمل، فمن دعا لك بالهداية فقد دعا لك بالخير كل الخير، و من دعا لك بالعلم فقد دعا لك ببعض الخير .. و الغريب ان أكثر الناس يثقل عليهم الدعاء بالهداية، بخاصة العلماء و الكبراء مع العلم بأن الرسول الأعظم (ص) كان يكرر الدعاء بها ليل نهار في صلواته و غيرها.
و لست أعرف هداية و توفيقا أفضل و أعظم من أن يكتشف الإنسان عيوب نفسه بنفسه، و يشعر بالتأنيب و وخز الضمير من أجلها .. و بهذا الشعور يمكن النجاة و الخلاص، أعاذنا اللّه من الغرور و أسوائه.
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
جاء في بعض الروايات ان المغضوب عليهم هم اليهود، و الضالين هم النصارى، و لكن لفظ الآية عام لا تخصيص فيه، و لا استثناء، فكل مطيع تشمله نعمة اللّه و رحمته، و كل عاص ضال و مغضوب عليه.
تفسير الكاشف، ج1، ص: 36
و مهما يكن، فان الغرض من هذه الآية، و من سورة الفاتحة بكاملها ان يقف العبد بين يدي سيده مؤمنا موحدا، و شاكرا حامدا، و مخلصا و داعيا ان يوفقه لمرضاته علما و عملا.
و كل انسان واجد عند خالقه ما قدم من عمل، أما الأقوال فلا أثر لها إلا ان تقرّب من طاعة، أو تبعد عن معصية.
تفسير الكاشف، ج1، ص: 37
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
فواتح بعض السور، و القرآن و العلم الحديث:
قال صاحب مجمع البيان هي مدنية كلها الا قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ .
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم :
اختلفوا فيما هو المقصود منها، و من فواتح بعض السور، مثل الر، و كهيعص، و حم، و ما اليها .. فقيل: هو من علم الغيب الذي لم يظهر اللّه عليه أحدا.
و يلاحظ بأن اللّه سبحانه لا يخاطب الناس بأشياء لا يريد أن يعرفوها و يطلعوا عليها .. كيف، و الغيب هو السرّ المكنون؟! بالاضافة إلى انه قد ندد بالذين لا يتدبرون القرآن في الآية 24 من سورة محمد: «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» .
و قيل: ان هذه الفواتح أسماء للسورة و قيل: بل هي أسماء للّه. و قيل:
بل لمحمد (ص). و قيل غير ذلك.
و أقرب الأقوال إلى الواقع و الفهم ان اللّه سبحانه بعد أن تحدى بالقرآن الجاحدين و المعاندين و عجزوا عن الإتيان بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة
تفسير الكاشف، ج1، ص: 38
واحدة، بعد هذا أشار بذكر هذه الحروف (الم) و نحوها إلى ان هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف التي هي في متناول الأطفال و الجهال ..
فعجزكم- اذن- دليل قاطع على ان هناك سرا و لا تفسير لهذا السر الا ان هذا القرآن من وحي السماء، لا من صنع الأرض.
[سورة البقرة (2): آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
ذلِكَ الْكِتابُ الآية 2:
ذلك اسم اشارة، و محله الرفع بالابتداء، و الكاف للتعظيم، لا للبعد، كقولك: أنا ذلك الرجل .. و المراد بالكتاب القرآن. و بنفي الريب عنه انه كتاب حق و صدق .. و عجزهم عن صياغة مثله يستدعي ان لا يرتابوا فيه إطلاقا لو كانوا طلاب حقيقة.
القرآن و العلم الحديث:
قوله تعالى: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» فيه دلالة واضحة على ان القرآن لا يلتمس فيه علم التاريخ، و لا الفلسفة، و لا العلوم الطبيعية و الرياضية، و ما اليها، و انما يلتمس فيه هداية الإنسان، و إرشاده الى صلاحه و سعادته في الدارين .. و بكلمة ان القرآن كتاب دين و أخلاق و عقيدة و شريعة.
و تسأل: و ما ذا أنت صانع بالآيات الكونية: «و الشمس تجري لمستقر».
و القمر قدرناه منازل .. و ما إلى ذلك من عشرات الآيات؟.
الجواب: لم يكن الغرض من هذه الآيات ان يبين اللّه لنا ما في الطبيعة من حقائق علمية، كلا، فان ذلك موكول الى عقل الإنسان و تجاربه، و انما الهدف الأول من ذكرها أن نسترشد بالكون و نظامه الى وجود اللّه سبحانه، و انه لا شيء من هذه الكائنات وجد صدفة، و من غير قصد كما يزعم الماديون، بل وجد بارادة عليمة حكيمة، و قد بين اللّه ذلك صراحة في قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ - 53 حم السجدة». أي سنكشف للكافرين باللّه عن تدبير الكون و أحكامه ما يعلمون معه انهم على ضلال ..
تفسير الكاشف، ج1، ص: 39
ان القرآن حين يدعو الى النظر في الكون فانه يقول بلسان مبين ان دلائل الكون أصدق حجة، و أقوى دلالة على وجود اللّه من كل شيء، حتى من الدور و التسلسل. قال بعض الحكماء: ان للّه كتابين: كتابا يتلوه اللسان، و كتابا يتلوه العقل، و هو الكون.
أجل، ان القرآن حث على دراسة العلوم الطبيعية، و كل علم يعود على الانسانية بالخير و الهناء، و لكن حثه على العلم شيء، و كونه كتابا في العلوم شيء آخر.
و أيضا لا يشك عارف بالقرآن و آياته ان معانيه لا تحصيها كثرة، و لا يحيط بها عقل بالغا ما بلغ من العظمة، و انما يدرك منها كل عالم ما تتسع له مؤهلاته و مواهبه، و هي عميقة إلى أبعد الحدود، فإذا اكتشف عالم معنى منها فانه يكتشف طرفا من أطرافه، وجهة من جهاته يستعين بها على معرفة بعض ما يحويه الكون ..
و لكن هذا شيء، و الحقائق العلمية التي يستنتجها الاخصائيون في مختبراتهم شيء آخر.
«ملحوظة»: اني ما مضيت في تفسير القرآن إلا قليلا، حتى أيقنت ان أي مفسر لا يأتي بجديد لم يسبق اليه، و لو بفكرة واحدة في التفسير كله يخالف فيها من تقدمه من أهل التفسير، ان هذا المفسر لا يملك عقلا واعيا، و انما يملك عقلا قارئا يرتسم فيه ما يقرأه لغيره دون محاكمة، أو تقليم و تطعيم، تماما كما يرتسم الشيء في المرآة على ما هو من لون و حجم .. و أيضا اكتشفت من تفسيري للقرآن ان معانيه لا يدركها، و لن يدركها على حقيقتها إلا المؤمن حقا الذي اختلط الإيمان بدمه و لحمه .. و انسجم مع أهداف القرآن انسجاما كاملا. و هنا يكمن السر في قول الإمام أمير المؤمنين: ذلك القرآن الصامت، و أنا القرآن الناطق.
و مما يعزز و يؤيد ان القرآن أولا و قبل شيء هو كتاب هدى و دين و شريعة و أخلاق و انه أنزل لأجل هذه الغاية قوله تعالى:
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .
و قوله: «هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ» .. و كفى دليلا على ذلك قول الرسول الأعظم (ص) انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. و قال الإمام
تفسير الكاشف، ج1، ص: 40
أمير المؤمنين (ع) في الخطبة 174 من خطب النهج: «ان في القرآن شفاء من أكبر الداء، و هو الكفر و النفاق، و الغي و الضلال». و بهذا نجد تفسير قوله تعالى: «وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً - 82 الأسرى» .. و عسى أن يتعظ بقول الإمام (ع) من يطلب الشفاء لأوجاعه الجسمية بتلاوة هذه الآية إلا أن يضيف اليها (روشتة) الطبيب.
و تسأل مرة ثانية و ما ذا تقول بهذه الآية: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ - 38 الانعام». حيث دلت بظاهرها على أن في القرآن جميع العلوم؟.
الجواب: ان عموم كل شيء بحسبه، فإذا قلت: هذا البيت فيه كل شيء فهم منه ان فيه ما تدعو اليه حاجة المقيم فيه من مؤنة و أثاث .. و إذا قلت عن كتاب فقهي: فيه كل شيء. فهم منه جميع المسائل الفقهية .. و القرآن كتاب دين، و عليه يكون معنى ما فرطنا في الكتاب من شيء يتصل بخير الإنسان و هدايته.
سؤال ثالث: و ما قولك في هذه الكتب التي تحمل اسم القرآن و العلم الحديث، و الإسلام و الطب الحديث، و ما الى هذا؟.
الجواب: أولا ان كل من يحاول الملاءمة بين مستكشفات العلم قديما كان أو حديثا، و بين القرآن الكريم فانه يحاول المحال .. ذلك ان علم الإنسان محدود بطاقته العقلية، و القرآن من علم اللّه الذي لا حد له .. فكيف تصح الملاءمة بين المحدود، و غير المحدود؟.
ثانيا: ان علم الإنسان عرضة للخطأ، لأنه عبارة عن نظريات و فروض تخطئ و تصيب. و كم رأينا العلماء يجمعون على نظرية، و انها صحيحة مائة بالمائة ثم اكتشفوا، أو من جاء بعدهم من العلماء انها خطأ مائة بالمائة .. و القرآن معصوم عن الخطأ .. فكيف تصح الملاءمة بين ما هو عرضة للخطأ، و بين المعصوم عنه؟ ثم هل نستمر في تأويل نصوص القرآن، و نحملها ما لا تتحمل كلما نسخت أو عدلت فروض العلم و نظرياته؟