کتابخانه تفاسیر
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 14
قيل بار و بر و قيل مصدر وصف به و يطلق الرب على اللّه وحده و بقيد الاضافة على غيره نحو رب الدار و قرىء رب بالنصب على المدح و يضعف الخفض الصفات بعدها إلا أن فرع على أن الرحمن علم.
«الْعالَمِينَ» العالم لا مفرد له كالأنام و اشتقاقه من العلم أو العلامة و المختار أنه كل مصنوع و جمع لاختلاف أنواع المصنوعات بالواو و الياء على جهة الشذوذ و رب و الرحمن و الرحيم صفات مدح لأن ما قبله علم لم يعرض بالتسمية فيه اشتراك فيتخصص و بدىء بالرب لأن له التصريف في المسوّد و المملوك و العابد بما أراد من خير أو شر و اتبع بالرحمانية و الرحيمية لينبسط أمل العبد في العفو إن زل و إن كان الرب بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعرا بعلة الاصلاح لأن الحامل للشخص على إصلاح العبد العمل رحمته له و معنى سياق هذه الأوصاف ان المتصف بها مستحق للحمد و قرىء بنصب الرحمن الرحيم و رفعهما و إذا قلنا بأن التسمية من الفاتحة كان تكرار هاتين الصفتين تنبيها على قدر عظمهما.
قرىء في السبعة.
«مالِكِ» و ملك و قرىء (؟ ملك) على وزن سهل و ملكي بإشباع كسرة الكاف و ملك على وزن عجل و برفع الكاف و مالك بنصب الكاف و مالكا بالألف و النصب و التنوين و بالرفع و التنوين و مليك و ملاك و مالك بالامالة المحضة و ملك فعلا ماضيا فينتصب بعده و بعد المنون يوم و هذه القراءات بعضها راجع لمعنى الملك و بعضها لمعنى الملك و كلاهما قهر و تسليط فالملك على من تأتت منه الطاعة باستحقاق و راجع بغيره و الملك على من تأتت منه و من لا تتأت و ذلك باستحقاق فبينهما عموم و خصوص. و اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس و يطلق أيضا على مطلق الوقت.
«و الدِّينِ» الجزاء دناهم كما دانوا و القضاء و لا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه و الطاعة في دين عمرو و العادة كدينك من أم الحويرث قبلها.
و الملة و رضيت لكم الاسلام دينا و الاضافة إلى يوم الدين اتساع إذ متعلق الملك و الملك غير اليوم و الاضافة على معنى اللام و الظاهر تغاير ملك و مالك فقيل هما بمعنى واحد كالفره و الفاره و اليوم هنا زمان يمتد إلى أن ينقضي الحساب فيستقر كل فيما قدر له من جنة أو نار و متعلق الملك، أو الملك هو
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 15
الأمر أي ملك أو مالك الأمر في يوم الدين و فائدة الاختصاص بهذا اليوم و إن كان ملكا أو مالكا للأزمنة كلها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه و لما اتصف تعالى بالرحمة انبسط أمل العبد فنبه بالصفة بعدها ليكون من عمله على وجل و ان لعمله يوما تظهر له فيه ثمرته من خير أو شر.
«إِيَّاكَ» ضمير نصب منفصل و فيه خلاف مذكور في النحو و قرىء بفتح الهمزة و شد الياء و كسرها و تخفيف الياء و بإبدال الهمزة المفتوحة هاء و القول باشتقاق أيا ضعيف و الكلام على وزنها فضول.
«نَعْبُدُ» العبادة التذلل عبدت اللّه تذللت له و قرىء نعبد بكسر النون و نعبد مبنيا للمفعول و هي قراءة مشكلة و توجيهها أن فيها استعارة و التفاتا فالاستعارة إحلال المنصوب موضع المرفوع فكأنه قال أنت ثم التفت فأخبر عنه اخبار الغائب فقال نعبد و غرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة.
«نَسْتَعِينُ» و الاستعانة طلب العون و الطلب أحد معاني استفعل و هي اثنا عشر معنى و قرىء نستعين بكسر النون و إياك مفعول مقدم و التقدم للاعتناء و التهمم.
قال الزمخشري: التقدم للتخصيص و قد تقدم الرد عليه في بسم اللّه و إياك التفات من غيبة إلى خطاب و من أعرب ملك منادى فلا التفات لأنه خطاب بعد خطاب و دعوى الزمخشري ثلاث التفاتات في تطاول ليلك و ما بعدها خطأ إنما هما التفاتان و فائدة الالتفات أنه لما ذكر أن الحمد للّه المتصف بالربوبية و الرحمة و الملك لليوم المذكور أقبل على المحمود و أخبر أنه و غيره يعبده و يخضع له و لذلك أتى بالنون لانها تكون له و لغيره فكما أن الحمد يستغرق الحامدين كذلك العبادة تستغرق المتكلم و غيره و قرنت العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى اللّه و بين ما يطلبه من جهته و ليكون ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا و قدمت العبادة على الاستعانة لتقدم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الاجابة إليها و أطلق العبادة و الاستعانة ليتناول كل معبود به و مستعان عليه و كرر و إياك ليكون كل من العبادة و الاستعانة سيقا في جملتين و كل جملة منهما مقصودة و للتنصيص على أن الذي يطلب العون منه هو تعالى.
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 16
«اهْدِنَا» الهداية هنا الإرشاد و الدلالة و تتعدى إلى الثاني بالى و باللام و هنا تعدى بنفسه.
«و الصِّراطَ» الطريق و أصله السين و قرىء به و بين الزاي و الصاد و بالزاي خالصة و هي لغة لعذرة و كعب و بني القين و الصاد لغة قريش و عامة العرب على اشمام الصاد الزاي و تذكير الصراط أكثر من تأنيثه و يجمع في الكثرة على صراط و قياسه في القلة أصرطة ان كان مذكرا و اصرط إن كان مؤنثا.
«الْمُسْتَقِيمَ» اسم فاعل من استقام و هو استفعل بمعنى الفعل المجرد و هو قام و القيام هو الانتصاب و الاستواء من غير اعوجاج.
«و
الَّذِينَ» اسم موصول و الخلاف في لغته و فيما يعرف به الموصول مذكور في كتب النحو و الذين يخص العقلاء و ما أجرى مجراهم.
«أَنْعَمْتَ» و النعمة لين العيش و نعم الرجل إذا كان في نعمة و الهمزة في أنعمت لجعل الشيء صاحب نعمة و هو أحد المعاني التي لأفعل و ضمّن معنى التفضيل فعدي بعلى و أصله التعدية بنفسه أنعمته جعلته صاحب نعمة و التاء في أنعمت ضمير المخاطب المذكر المفرد و على حرف جر عند الأكثرين ظرف عند سيبويه و جماعة و معنى على الاستعلاء حقيقة أو مجازا و قرىء.
«عَلَيْهِمْ» : بضم الهاء و سكون الميم و بكسر الهاء و الميم بغير ياء و كذا بياء بعدها و بكسر الهاء و ضم الميم بواو بعدها و بضمهما و واو بعدها و بضمهما بغير واو و بكسر الهاء و ضم الميم بغير واو و بضم الهاء و كسر الميم بياء بعدها و كذلك بغير ياء.
«اهْدِنَا» صورته صورة الأمر. و معناه الطلب و الرغبة و لما أخبر المتكلم أنه و من معه يعبدون اللّه تعالى و يطلبون منه العون سأل له و لهم الهداية إلى الطريق الواضح لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة.
«صِراطَ الَّذِينَ» بدل عين المبدل منه إذ فيه بعض إبهام ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين و صار يذكر البدل منه حوالة على طريق من أنعم اللّه عليهم فكان ذلك أثبت و أؤكد، و البدل على الصحيح على نية تكرار العامل فكأنهم كرروا طلب الهداية و فسر المنعم عليهم بأقوال أولاها الأنبياء و من ذكر
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 17
معهم في قوله فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين، الآية. و لم يقيد الانعام ليعم جميع المنعم به على سبيل البدل و بناء أفعل للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك فمن إنعامك إجابة سؤالنا و مضمون الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم عليهم لأن من صدر منه حمدا للّه و أخبر بأنه يعبده و يستعينه فقد حصلت الهداية له لكنه يسأل استمرارها.
«غَيْرِ» مفرد مذكر دائما و مدلوله المخالفة بوجه ما و أصله الوصف و يستثنى به و يلزم الاضافة لفظا أو معنى و إدخال أل عليه خطأ و لا يتعرف و ان أضيف إلى معرفة.
«الْمَغْضُوبِ» و الغضب يغير الطبع كما يروه.
«عَلَيْهِمْ» و عليهم الأولى في موضع نصب و الثانية في موضع رفع و غير بدل من الضمير في عليهم أو من الذين. و هو ضعيف و ان قاله أبو علي أو نعت على مذهب سيبويه إذ قد تتعرف غير إذا أضيفت إلى معرفة أو على مذهب ابن السراج في أنها تتعرف إذا وقعت على مخصوص لا شائع و قرىء غير و هو حال من الضمير في عليهم.
و قال المهدوي من الذين و الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له من رفع أو نصب، المشهور أنه لا يجوز.
و قال الأخفش و الزجاج: نصب على الاستثناء المنقطع و المغضوب عليهم اليهود لأنهم كفروا عن علم و عاندوا و النصارى ضالون أي كفروا جهلا فلهذا خص كل بوصف و لا في قوله «وَ لَا الضَّالِّينَ» حرف خلافا للكوفيين و دخلت لتأكيد معنى النفي الذي تدل عليه غير أنه كأنه قيل لا المغضوب عليهم و لا الضالين و أشعر أن الضالين هم غير المغضوب عليهم و إن كان كلهم قد اشتراك في الغضب و الضلال، و لتقارب معنى غير و لا أجاز الزمخشري أنا زيدا غير ضارب قال: كما جاز أنا زيدا لا ضارب فأوردهما مورد الوفاق و في المسألتين خلاف. «و الضلال» سلوك سبيل غير القصد. ضل عن الطريق سلك غير جادتها، و الضلال: الهلاك و الضلال الحيرة و الغفلة و كانت صلة الذين فعلا
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 18
ماضيا و صلة أل اسما لأن المقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام اللّه عليهم وصله أل بالاسم ليشمل سائر الأزمان و بناه للمفعول لأن من طلب منه الهداية و نسب الانعام إليه لا يناسب أن يواجه بوصف الانتقام و ليكون المغضوب توطئة للختم بالضالين فيعطف موصول بال على موصول بال مثله و المراد بالانعام الانعام الديني.
و روي عدي بن حاتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إن المغضوب عليهم هم اليهود و إن الضالين هم النصاري. و الغضب من اللّه تعالى إن كان إرادة الانتقام من المعاصي فهو من صفات الذات و إن كان إحلال العقوبة به كان من صفات الفعل و مناسبة ذكر الغضب أثر النعمة لأن الغضب يقابل الانتقام لا الضلال فبينهما تطابق معنوي. و أيضا تشجيع فقد جمعت هذه الصورة حسن الافتتاح و براعة المطلع إذ كان مفتتحا باسم اللّه تعالى. و المبالغة في الثناء بعموم أل في الحمد للّه، و الاختصاص باللام في للّه، و بالإضافة في ملك يوم الدين، و حسن التقديم و التأخير في نعبد و نستعين و المغضوب عليهم و الضالين، و التفسير بعد الابهام في صراط الذين، و الالتفات في إياك نعبد و ما بعده، و طلب الشيء و المقصود استدامته. و سرد الصفات لبيان خصوصيته في الموصوف أو مدح أو ذم، و التشجيع في الرحيم و المستقيم و في نستعين و الضالين.
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 19
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«الم» حروف التهجي هذه التي في أوائل السور اختلف الناس في المراد بها اختلافا كثيرا و لم يقم دليل على تعيين شيء مما ذكروه و الذي اختاره هو ما ذهب إليه الشعبي و الثوري و جماعة من المحدثين قالوا: هي سر اللّه في القرآن و هي من المتشابه الذي انفرد اللّه تعالى بعلمه نؤمن بها و نمرها كما جاءت و إلى هذا ذهب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الظاهري رحمه اللّه تعالى قال: هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه و سائر كلامه تعالى محكم «انتهى». و هذه الحروف أوردت مفردة من غير عامل و لا عطف فاقتضت أن تكون مسكنة كأسماء الأعداد إذا أوردت من غير عامل و لا عطف فلا محل لها من الاعراب و قال الكوفيون: ألم و نظائرها آية في خلاف لهم في بعضها.
و قال البصريون و غيرهم: ليس شيء من ذلك آية و لم ينضبط لي ما سمى العادون في القرآن آية و لا عرفت مقدار ما لحظوا في ذلك و وقف أبو جعفر على كل حرف من حروف التهجي وقفة وقفة و أظهر النون من طسم، و يس، و عسق و ن الامن طس تلك فلم يظهر ذلك.
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 20
«ذلِكَ» اسم إشارة و اللام مشعرة ببعد المشار إليه و الكاف للخطاب و إذا كان على موضوعه من البعد فأقوال كثيرة مضطربة: الأولى: أن تكون إشارة لما نزل بمكة من القرآن أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي هي بين المنزل، و المنزل إليه.
و سمعت شيخنا الأستاذ أبا جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول ذلك إشارة إلى الصراط المستقيم كأنهم لما سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب و بهذا الذي ذكره الأستاذ يتبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد و هذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر و قد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله.
«ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» و الذي اختاره أن يكون ذلك الكتاب جملة مستقلة لأنه متى أمكن حمل الكلام على الاستقلال دون إضمار و لا افتقار كان أولى.