کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 21
الخالق، و من الحاجة التّامّة لنفسه، إلى الغنى التام بالحق في تحصيل كلّ الخيرات و دفع كلّ الآفات، ففيه سرّ قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ، و فيه دلالة:
على أن لا وسيلة إلى القرب من حضرة الربّ إلّا بالعجز. و العجز منتهى المقامات، انتهى.
فائدة: و في الأثر: و أوّل ما نزل به جبريل عليه السلام، على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الاستعاذة، ثمّ البسملة، ثمّ قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الآيات، هكذا ذكره صاحب «روح البيان».
و اللّه أعلم
***
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 22
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
و لمّا فرغنا من مباحث الاستعاذة شرعنا في مباحث البسملة، و قلنا:
[مباحث البسمله]
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . (1)
حكمة تأخيرها عن الاستعاذة «1» : الإشعار بأنّ باب التحلية (بالمهملة)، مؤخرّ عن باب التخلية (بالمعجمة)، و بأنّ الإقبال على اللّه سبحانه، و التوجه إليه، مؤخر عن الإعراض عمّا سوى اللّه تعالى، و الأصحّ المقبول عند متأخري الحنفية: أنّ البسملة آية فذّة ليست جزءا من السورة، أنزلت للفصل بين السور و التبرّك بالابتداء بها، كما بدىء بذكرها في كلّ أمر ذي بال، و هي: مفتاح القرآن، و أول ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، و أول ما نزل على آدم عليه السلام.
و حكمة الابتداء بها «2» : أنّه كانت الكفّار يبدؤون بأسماء آلهتهم، فيقولون:
باسم اللات و العزّى، فوجب أن يقصد الموحّد معنى اختصاص اسم اللّه عزّ و جلّ بالابتداء، و ذلك بتقديمه و تأخير الفعل، فلذلك قدّر المحذوف متأخرا؛ أي:
باسم اللّه أقرأ، أو أتلو، أو آكل، أو أشرب، أو غير ذلك مما جعلت التسمية مبدأ له.
(1) روح البيان.
(2) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 23
فصل [فى مباحث البسمله]
و في البسملة أبحاث:
[البحث الأول: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، و غيرها]
الأول منها: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، و غيرها، سوى (سورة براءة). فذهب أبو هريرة «1» ، و عليّ، و ابن عباس، و ابن عمر، و بعض التابعين، كسعيد بن جبير، و عطاء، و الزهري، و ابن المبارك، و بعض فقهاء مكة، و قرّائها، و منهم: ابن كثير، و بعض قرّاء الكوفة، و فقهائها، و منهم:
عاصم، و الكسائي، و الشافعيّ، و أحمد، إلى أنّ البسملة آية من كلّ سورة من سور القرآن الكريم، و من أدلّتهم على ذلك:
- إجماع الصحابة و من بعدهم، على إثباتها في المصحف أوّل كل سورة عدا (سورة براءة)، مع الأمر بتجريد القرآن عن كلّ ما ليس منه، و من ثمّ لم يكتبوا (آمين) في آخر (الفاتحة).
- و ما ورد في ذلك من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في «صحيحه» عن أنس- رضي اللّه عنه- أنّه قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه قال: «نزلت عليّ آنفا سورة»، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)، و ذكر الحديث، و سيأتي بكماله في سورة الكوثر إن شاء اللّه تعالى. و روى أبو داود عن ابن عباس: (أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كان لا يعرف إنقضاء السورة حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . و روى الدارقطنيّ عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا قرأتم «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فاقرؤوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، فإنها أمّ القرآن و أمّ الكتاب و السبع المثاني، و بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إحدى آياتها».
- و إجماع المسلمين على أنّ ما بين الدفّتين كلام اللّه تعالى، و البسملة
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 24
بينهما، فوجب جعلها منه.
- و قول أمّ سلمة رضي اللّه عنها: (قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم (الفاتحة)، و عدّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ آية)، و من أجل قولها اختلف في أنها آية برأسها، أم بما بعدها. و ذهب مالك و غيره من علماء المدينة، و الأوزاعي، و جماعة من علماء الشام، و أبو عمرو، و يعقوب من قرّاء البصرة- و هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة- إلى أنّها آية مفردة من القرآن، أنزلت لبيان رؤوس السور و الفصل بينها، فليست بآية من (الفاتحة) و لا من غيرها، و لم يختلفوا في أنها بعض آية في (سورة النمل). و ذهب عبد اللّه بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا، و هو رأي بعض الحنفية، و من أدلّتهم على ذلك: حديث أنس رضي اللّه عنه، قال: صلّيت خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و أبي بكر، و عمر، و عثمان، و كانوا يستفتحون بالحمد للّه ربّ العالمين، لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في أوّل قراءة، و لا في آخرها.
و عبارة الشوكاني هنا: اختلف أهل العلم، هل هي آية مستقلة في أول كلّ سورة كتبت في أولها؟ أو هي بعض آية من أول كلّ سورة، أو هي كذلك في (الفاتحة) دون غيرها، أو أنّها ليست بآية في الجميع، و إنّما كتبت للفصل، و الأقوال و أدّلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك.
و قد اتفقوا على أنّها بعض آية في (سورة النمل)، و قد جزم قرّاء مكة و الكوفة بأنها آية من (الفاتحة)، و من كلّ سورة، و خالفهم قرّاء المدينة، و البصرة، و الشام، فلم يجعلوها آية لا من (الفاتحة)، و لا من غيرها من السور. قالوا:
و إنّما كتبت للفصل، و التبرّك. و قد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس:
(أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، و أخرجه الحاكم في المستدرك. و أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أمّ سلمة: (أنّ رسول اللّه، قرأ البسملة في أول (الفاتحة) في الصلاة و غيرها آية)، و في إسناده عمرو بن هارون البلخيّ، و فيه ضعف. و روى نحوه الدارقطنّي مرفوعا عن أبي هريرة.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 25
و كما وقع الخلاف في إثباتها، وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة، و قد أخرج النسائي في «سننه»، و ابن خزيمة و ابن حبان في «صحيحيهما»، و الحاكم في «المستدرك»، عن أبي هريرة: (أنّه صلّى فجهر في قراءته بالبسملة، و قال بعد أن فرغ: إنّي لأشبهكم صلاة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم)، و صحّحه الدارقطني، و الخطيب، و البيهقي، و غيرهم.
و روى أبو داود، و الترمذي، عن ابن عباس: (أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كان يفتح الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم)، قال الترمذي: و ليس إسناده بذاك، و قد أخرجه الحاكم في المستدرك، عن ابن عباس بلفظ، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، ثم قال: صحيح.
و أخرج البخاريّ في صحيحه، عن أنس، أنّه سئل عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: (كانت قراءته مدّا، ثمّ قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يمدّ بِسْمِ اللَّهِ ، و يمدّ الرَّحْمنِ ، و يمدّ الرَّحِيمِ .
و أخرج أحمد في «المسند»، و أبو داود في «السنن»، و ابن خزيمة في «صحيحه»، و الحاكم في «مستدركه» عن أمّ سلمة أنّها قالت: (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقطّع قراءته بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)، و قال الدارقطني: إسناده صحيح. و احتجّ من قال: بأنّه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، بما في «صحيح مسلم» عن عائشة قالت: (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، يفتتح الصلاة بالتكبير، و القراءة بالحمد للّه رب العالمين).
و في «الصحيحين»، عن أنس قال: (صليت خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و أبي بكر، و عمر، و عثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد للّه ربّ العالمين)، و لمسلم لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في أوّل قراءة، و لا في آخرها.
و أخرج أهل السنن نحوه، عن عبد اللّه بن مغفّل، و إلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة، و جماعة من الصحابة.
و أحاديث الترك و إن كانت أصحّ، و لكن الإثبات أرجح مع كونه خارجا من
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 26
مخرج صحيح، فالأخذ به أولى، و لا سيّما مع إمكان تأويل الترك، و هذا يقتضي الإثبات الذاتي، أعني: كونها قرآنا، و الوصفي أعني: الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة. انتهى من الشوكاني.
و البحث الثاني في فضلها:
و ورد في فضلها أحاديث.
منها: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، و ابن خزيمة في كتاب البسملة، و البيهقي، عن ابن عباس قال: (استرق الشيطان من الناس، أعظم آية من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).
و أخرج نحوه أبو عبيد، و ابن مردويه، و البيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا.
و أخرج الدارقطني بسند ضعيف، عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كان جبريل إذا جاءني بالوحي، أوّل ما يلقي عليّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .
و أخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره»، و الحاكم في «المستدرك»، و صحّحه، و البيهقي في «شعب الإيمان»، عن ابن عباس أنّ عثمان بن عفّان، سأل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ؟ فقال: «هو اسم من أسماء اللّه تعالى، و ما بينه و بين اسم اللّه الأكبر، إلّا كما بين سواد العين و بياضها من القرب».
و منها: ما أخرجه ابن مردويه، و الثعلبيّ، عن جابر قال: (لمّا نزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هرب الغيم إلى المشرق، و سكنت الريح، و هاج البحر، و أصغت البهائم بآذانها، و رجمت الشياطين من السماء، و حلف اللّه بعزّته، و جلاله أن لا تسمّى على شيء، إلّا بارك اللّه فيه).
و منها: ما أخرجه أبو نعيم، و الديلمي، عن عائشة قالت: لمّا نزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ضجّت الجبال، حتى سمع أهل مكة دويّها، فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث اللّه دخانا، حتى أظلّ على أهل مكة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ موقنا، سبّحت معه الجبال، إلّا أنّه لا يسمع ذلك منها».
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 27
و منها: ما أخرجه الديلميّ، عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتب اللّه له بكلّ حرف أربعة آلاف حسنة، و محا عنه أربعة آلاف سيئة، و رفع له أربعة آلاف درجة».
و منها: ما أخرجه الخطيب في الجامع، عن أبي جعفر، محمد بن عليّ قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مفتاح كلّ كتاب. اه. من «الشوكاني».
و منها: ما أخرجه ابن العربي بسنده، عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: باللّه العظيم، لقد حدّثني محمد المصطفى، و قال: «باللّه العظيم، لقد حدّثني جبريل»، و قال: باللّه العظيم، لقد حدّثني إسرافيل، و قال: قال اللّه تعالى: يا إسرافيل! بعزّتي، و جلالي، وجودي، و كرمي، من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، متصلة بفاتحة الكتاب مرّة واحدة؛ فاشهدوا أنّي غفرت له، و قبلت منه الحسنات، و تجاوزت عنه السيئات، و لا أحرق لسانه في النار، و أجيره من عذاب القبر و عذاب النار و الفزع الأكبر، و يلقاني قبل الأنبياء، و الأولياء أجمعين. اه. من المناوي على «الجامع الصغير».
و هذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها، و الكلام عليها، بما يتبيّن به حكمها بعد البحث عنها إن شاء اللّه تعالى. و قد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بينها الشارع.
منها: عند الوضوء، و عند الذبح، و عند الأكل، و الشرب، و عند الجماع، و غير ذلك.
و هذا كلّه مما يدلّ على فضلها، و مما ورد في فضلها أيضا.
حديث: «من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إجلالا له و لاسمه عن أن يدنّس، كان عند اللّه من الصديقين، و خفّف عن والديه و إن كانا مشركين».