کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 40
و الثالثة: افتتح «1» اللّه سبحانه و تعالى كتابه الكريم بالبسملة؛ إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، و قد ورد في الحديث: «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر»؛ أي: مقطوع الذّنب ناقص. و قد كان العرب قبل الإسلام، يبدؤون أعمالهم بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات، أو باسم العزّى، و كذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا؛ مرضاة لملك، أو أمير يقول: أعمله باسم فلان، إنّ ذلك العمل لا وجود له، لو لا ذلك الملك، أو الأمير.
و إذا: فمعنى ابتدىء عملي باسم اللّه الرحمن الرحيم: أنني أعمله بأمر اللّه، و للّه، لا لحظّ نفسي و شهواتها، و يمكن أن يكون المراد: أنّ القدرة التي أنشأت بها العمل هي من اللّه، و لو لا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمدّ القوة و العون منه، و لو لا ذلك لم أقدر على عمله. و إذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم: أنّ جميع ما في القرآن من الأحكام، و الشرائع، و الأخلاق، و الآداب، و المواعظ هو للّه، و من اللّه، ليس لأحد غيره فيه شيء.
و كأنّه قال: اقرأ يا محمد! هذه السورة ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ؛ أي:
اقرأها على أنّها من اللّه لا منك، فإنّه أنزلها عليك؛ لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم، و سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و كذلك كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، يقصد من تلاوتها على أمّته؛ أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم اللّه لا باسمه؛ أي: أنّها من اللّه لا منه، فإنّما هو مبلّغ عنه تبارك و تعالى، كما جاء في قوله: وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ .
و الرابعة: ندب «2» الشرع إلى ذكر البسملة في أوّل كلّ فعل، كالأكل،
(1) المراغي.
(2) القرطبي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 41
و الشرب، و النحر، و الجماع، و الطهارة، و ركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال. قال اللّه تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، و قال: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها . و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أغلق بابك، و اذكر اسم اللّه، و اطفىء مصباحك، و اذكر اسم اللّه، و خمّر إناءك، و اذكر اسم اللّه، و أوك سقاءك، و اذكر اسم اللّه»، و قال: «لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم اللّه اللهم جنبنا الشيطان و جنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنّه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضرّه شيطان أبدا».
و قال لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام سمّ اللّه، و كل بيمينك، و كل مما يليك»، و قال: «إنّ الشيطان ليستحلّ الطعام إلّا أن يذكر اسم اللّه عليه»، و قال:
«من لم يذبح باسم اللّه». و شكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك و قل: بسم اللّه ثلاثا، و قل سبع مرّات: أعوذ بعزّة اللّه و قدرته من شرّ ما أجد و أحاذر»، هذا كلّه ثابت في الصحيح.
و روى ابن ماجه، و الترمذي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ستر ما بين ما أعين الجنّ و عورات بني آدم إذا دخل أحد الكنيف أن يقول: بسم اللّه». و روى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، إذا مسّ طهوره سمّى اللّه تعالى ثمّ يفرغ الماء على يديه».
الخامسة: روي عن عليّ بن أبي طالب- كرم اللّه وجهه «1» -: أنه قال: في قوله: بِسْمِ اللَّهِ شفاء من كلّ داء، و عون على كلّ دواء، و أمّا الرحمن:
فهو عون لكلّ من آمن به، و هو اسم لم يسمّ به غيره تعالى، و أمّا الرحيم: فهو لمن تاب، و آمن، و عمل صالحا.
و قد فسّره بعضهم على الحروف. فروي عن عثمان بن عفّان- رضي اللّه عنه-: أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، عن تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ؟ فقال:
(1) قرطبي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 42
أمّا الباء: فبلاء اللّه، و روحه، و نصره، و بهاؤه، و أمّا السين: فسناء اللّه، و أما الميم: فملك اللّه، و أمّا اللّه: فلا إله غيره. و أما الرحمن: فالعاطف على البرّ و الفاجر من خلقه. و أمّا الرحيم: فالرفيق بالمؤمنين خاصّة. و روي عن كعب الأحبار: أنّه قال: الباء: بهاء اللّه، و السين: سناؤه، فلا شيء أعلى منه، و الميم: ملكه، و هو على كلّ شيء قدير، فلا شيء يعازّه.
و قد قيل: إنّ كلّ حرف هو افتتاح اسم من أسمائه، فالباء: مفتاح اسمه بصير، و السين: مفتاح اسمه سميع، و الميم: مفتاح اسمه مليك، و الألف: مفتاح اسمه اللّه، و اللام: مفتاح اسمه لطيف، و الهاء: مفتاح اسمه هادي، و الراء:
مفتاح اسمه رازق، و الحاء: مفتاح اسمه حليم، و النون: مفتاح اسمه نور، و معنى هذا كلّه: دعاء اللّه تعالى عند افتتاح كلّ شيء.
إلى هنا انتهى ما يتعلّق بالاستعاذة، و البسملة في تاريخ: 28/ 2/ 1417 ه.
و الآن نريد الشروع في تفسير (الفاتحة) بعون اللّه سبحانه، و توفيقه، إن شاء اللّه تعالى، و صلّى اللّه و سلّم، على سيدّنا محمد، خاتم النبيين، و على آله، و صحبه أجمعين، و الحمد للّه ربّ العالمين. آمين.
و اللّه أعلم
***
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 43
سورة الفاتحة
[نزولها]
سورة الفاتحة مكية، نزلت بعد المدّثّر، و هو قول أكثر العلماء، و قيل:
نزلت بالمدينة، و هو قول مجاهد، و قيل: نزلت مرّتين: مرّة بمكة، و مرّة بالمدينة.
و سبب تكرار نزولها؛ الدلالة على شرفها و فضلها. و قيل: نزل نصفها بمكة و نصفها بالمدينة، حكاه أبو الليث السمرقندي في تفسيره، و القول «1» الأول أصحّ؛ لقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، و هذه الآية في سورة الحجر و (الحجر) مكية بالإجماع، و لا خلاف أنّ فرض الصلاة كان بمكة، و ما حفظ أنّه كان في الإسلام قطّ صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يدلّ على هذا قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».
و هي سبع آيات، و سبع و عشرون كلمة، و مائة و أربعون حرفا. و قال القرطبي: أجمعت الأمّة على أنّ فاتحة الكتاب سبع آيات، إلّا ما روي عن حسين الجعفي: أنّها ستّ آيات، و هذا شاذّ، و إلّا ما روى عن عمرو بن عبيد:
أنّه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية، و هي على هذا ثمان آيات، و هذا شاذ أيضا، و يردّ هذين القولين قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ، و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يحكيه عن ربّه: «قسمت الصلاة».
و أجمعت الأمة أيضا على أنّها من القرآن، فإن قيل: لو كانت من القرآن لأثبتها ابن مسعود في مصحفه، و لمّا لم يثبتها دلّ على أنّها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده. فالجواب: ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب بسنده، عن إبراهيم قال: قيل لعبد اللّه بن مسعود: لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها مع كلّ سورة. قال أبو بكر: يعني:
(1) القرطبي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 44
أنّ كلّ ركعة سبيلها أن تفتح بأمّ القرآن قبل السورة المتلوّة بعدها، فقال:
اختصرت بإسقاطها، و وثقت بحفظ المسلمين لها، و لم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كلّ سورة، إذ كانت تتقدّمها في الصلاة.
أسماؤها:
و لها نحو عشرين اسما:
الأول: فاتحة الكتاب؛ لأنّها مفتتحه، و مبدؤه، فكأنّها أصله و منشؤه؛ و لذلك تسمّى أساس القرآن؛ أو لأنّها تشتمل على ما فيه من الثناء على اللّه، و التعبّد بأمره، و نهيه، و بيان وعده، و وعيده.
و الثاني: سورة الكنز؛ لأنها نزلت من كنز تحت العرش.
و الثالث: الوافية.
و الرابع: الكافية؛ لأنّها وافية كافية في صحة الصلاة عن غيرها، عند القدرة عليها، و قيل: سمّيت وافية؛ لأنها لا تقبل التنصيف؛ لأنّه لو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة و نصفها الآخر في ركعة لأجزأ، و لو نصفت (الفاتحة) في ركعتين لم يجزىء.
و الخامس: الشافية.
و السادس: سورة الشفاء؛ لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «هي شفاء من كلّ داء».
و السابع: السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات تثنّى في كلّ ركعة و تكرّر.
و الثامن: أمّ القرآن.
و التاسع: سورة النور.
و العاشر: سورة الرّقية.
و الحادي عشر: سورة الحمد و الشكر.
و الثاني عشر: سورة الدعاء.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 45
و الثالث عشر: سورة تعليم المسألة؛ لاشتمالها على ذلك.
و الرابع عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها عليه.
و الخامس عشر: سورة المناجاة.
و السادس عشر: سورة التفويض.
و السابع عشر: أمّ القرآن.
و الثامن عشر: أمّ الكتاب.
و التاسع عشر: سورة السؤال.
و العشرون: سورة الصلاة؛ لخبر: «قسمت الصلاة- أي: الفاتحة- بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل، يقول العبد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، يقول اللّه: حمدني عبدي» الحديث، و كثرة الأسماء يدلّ على فضلها و شرفها.
و السورة: طائفة من القرآن، مترجمة باسم مخصوص تتضمّن ثلاث آيات فأكثر، و فاتحة الشيء: أوّله، و هي مصدر بمعنى المفعول، أو صفة جعلت اسما للسورة، و التاء: للنقل كالذبيحة، و إضافة السورة إلى (الفاتحة)، أو إلى غيرها من إضافة العام إلى الخاص، كشجر الأراك، و علم النحو و هي؛ أي: إضافة (الفاتحة) إلى الكتاب لاميّة؛ لأنّ المضاف إليه ليس ظرفا للمضاف و لا جنسا له، و هو؛ أي: القرآن يطلق على مجموع ما في المصحف، و على القدر المشترك بينه و بين أجزائه.
و اللّه أعلم
***
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 46
فصل في ذكر فضائلها
فقد دلّ على فضلها أحاديث كثيرة.
فمنها: ما أخرجه البخاري، عن أبي سعيد بن المعلّى قال: كنت أصلّي في المسجد، فدعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فلم أجبه ثمّ أتيته فقلت: يا رسول اللّه! إنّي كنت أصلّي، فقال: «ألم يقل اللّه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ؟ ثمّ قال لي:
لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد، ثمّ أخذ بيدي»، فلمّا أراد أن يخرج قلت له: يا رسول اللّه! ألم تقل: لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن؟ قال: « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني، و القرآن العظيم الذي أوتيته». رواه مالك في الموطأ عنه، و قال فيه: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، نادى أبيّ بن كعب، و هو يصلّي، و ذكر نحوه.
و منها: ما روي عن أبي بن كعب قال: قال رسول اللّه: «ما أنزل اللّه في التوراة، و لا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، و هي السبع المثاني، و هي مقسومة بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل»، أخرجه الترمذي، و النسائي.
و منها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أمّ القرآن، و أمّ الكتاب، و السبع المثاني»، أخرجه أبو داود و الترمذي، و قال: حديث حسن صحيح.
و منها: ما روي عن ابن عباس قال: «بينا جبريل قاعد عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السماء، فتح اليوم و لم يفتح قطّ إلّا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم و قال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة» لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته، أخرجه مسلم. قوله: (سمع نقيضا) بالقاف و الضاد المعجمة؛ أي: صوتا كصوت فتح الباب.