کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 43
سورة الفاتحة
[نزولها]
سورة الفاتحة مكية، نزلت بعد المدّثّر، و هو قول أكثر العلماء، و قيل:
نزلت بالمدينة، و هو قول مجاهد، و قيل: نزلت مرّتين: مرّة بمكة، و مرّة بالمدينة.
و سبب تكرار نزولها؛ الدلالة على شرفها و فضلها. و قيل: نزل نصفها بمكة و نصفها بالمدينة، حكاه أبو الليث السمرقندي في تفسيره، و القول «1» الأول أصحّ؛ لقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، و هذه الآية في سورة الحجر و (الحجر) مكية بالإجماع، و لا خلاف أنّ فرض الصلاة كان بمكة، و ما حفظ أنّه كان في الإسلام قطّ صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يدلّ على هذا قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».
و هي سبع آيات، و سبع و عشرون كلمة، و مائة و أربعون حرفا. و قال القرطبي: أجمعت الأمّة على أنّ فاتحة الكتاب سبع آيات، إلّا ما روي عن حسين الجعفي: أنّها ستّ آيات، و هذا شاذّ، و إلّا ما روى عن عمرو بن عبيد:
أنّه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية، و هي على هذا ثمان آيات، و هذا شاذ أيضا، و يردّ هذين القولين قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ، و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يحكيه عن ربّه: «قسمت الصلاة».
و أجمعت الأمة أيضا على أنّها من القرآن، فإن قيل: لو كانت من القرآن لأثبتها ابن مسعود في مصحفه، و لمّا لم يثبتها دلّ على أنّها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده. فالجواب: ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب بسنده، عن إبراهيم قال: قيل لعبد اللّه بن مسعود: لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها مع كلّ سورة. قال أبو بكر: يعني:
(1) القرطبي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 44
أنّ كلّ ركعة سبيلها أن تفتح بأمّ القرآن قبل السورة المتلوّة بعدها، فقال:
اختصرت بإسقاطها، و وثقت بحفظ المسلمين لها، و لم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كلّ سورة، إذ كانت تتقدّمها في الصلاة.
أسماؤها:
و لها نحو عشرين اسما:
الأول: فاتحة الكتاب؛ لأنّها مفتتحه، و مبدؤه، فكأنّها أصله و منشؤه؛ و لذلك تسمّى أساس القرآن؛ أو لأنّها تشتمل على ما فيه من الثناء على اللّه، و التعبّد بأمره، و نهيه، و بيان وعده، و وعيده.
و الثاني: سورة الكنز؛ لأنها نزلت من كنز تحت العرش.
و الثالث: الوافية.
و الرابع: الكافية؛ لأنّها وافية كافية في صحة الصلاة عن غيرها، عند القدرة عليها، و قيل: سمّيت وافية؛ لأنها لا تقبل التنصيف؛ لأنّه لو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة و نصفها الآخر في ركعة لأجزأ، و لو نصفت (الفاتحة) في ركعتين لم يجزىء.
و الخامس: الشافية.
و السادس: سورة الشفاء؛ لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «هي شفاء من كلّ داء».
و السابع: السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات تثنّى في كلّ ركعة و تكرّر.
و الثامن: أمّ القرآن.
و التاسع: سورة النور.
و العاشر: سورة الرّقية.
و الحادي عشر: سورة الحمد و الشكر.
و الثاني عشر: سورة الدعاء.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 45
و الثالث عشر: سورة تعليم المسألة؛ لاشتمالها على ذلك.
و الرابع عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها عليه.
و الخامس عشر: سورة المناجاة.
و السادس عشر: سورة التفويض.
و السابع عشر: أمّ القرآن.
و الثامن عشر: أمّ الكتاب.
و التاسع عشر: سورة السؤال.
و العشرون: سورة الصلاة؛ لخبر: «قسمت الصلاة- أي: الفاتحة- بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل، يقول العبد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، يقول اللّه: حمدني عبدي» الحديث، و كثرة الأسماء يدلّ على فضلها و شرفها.
و السورة: طائفة من القرآن، مترجمة باسم مخصوص تتضمّن ثلاث آيات فأكثر، و فاتحة الشيء: أوّله، و هي مصدر بمعنى المفعول، أو صفة جعلت اسما للسورة، و التاء: للنقل كالذبيحة، و إضافة السورة إلى (الفاتحة)، أو إلى غيرها من إضافة العام إلى الخاص، كشجر الأراك، و علم النحو و هي؛ أي: إضافة (الفاتحة) إلى الكتاب لاميّة؛ لأنّ المضاف إليه ليس ظرفا للمضاف و لا جنسا له، و هو؛ أي: القرآن يطلق على مجموع ما في المصحف، و على القدر المشترك بينه و بين أجزائه.
و اللّه أعلم
***
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 46
فصل في ذكر فضائلها
فقد دلّ على فضلها أحاديث كثيرة.
فمنها: ما أخرجه البخاري، عن أبي سعيد بن المعلّى قال: كنت أصلّي في المسجد، فدعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فلم أجبه ثمّ أتيته فقلت: يا رسول اللّه! إنّي كنت أصلّي، فقال: «ألم يقل اللّه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ؟ ثمّ قال لي:
لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد، ثمّ أخذ بيدي»، فلمّا أراد أن يخرج قلت له: يا رسول اللّه! ألم تقل: لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن؟ قال: « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني، و القرآن العظيم الذي أوتيته». رواه مالك في الموطأ عنه، و قال فيه: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، نادى أبيّ بن كعب، و هو يصلّي، و ذكر نحوه.
و منها: ما روي عن أبي بن كعب قال: قال رسول اللّه: «ما أنزل اللّه في التوراة، و لا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، و هي السبع المثاني، و هي مقسومة بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل»، أخرجه الترمذي، و النسائي.
و منها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أمّ القرآن، و أمّ الكتاب، و السبع المثاني»، أخرجه أبو داود و الترمذي، و قال: حديث حسن صحيح.
و منها: ما روي عن ابن عباس قال: «بينا جبريل قاعد عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السماء، فتح اليوم و لم يفتح قطّ إلّا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم و قال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة» لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته، أخرجه مسلم. قوله: (سمع نقيضا) بالقاف و الضاد المعجمة؛ أي: صوتا كصوت فتح الباب.
و منها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن؛ فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام». قال:
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 47
فقلت: يا أبا هريرة! إنّا أحيانا نكون وراء الإمام، فغمز ذراعي و قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسيّ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «قال اللّه تبارك و تعالى»:
(قسمت الصلاة بيني و بين عبدي) الحديث، أخرجه مسلم.
و قال ابن عبد البرّ: «1» الصحيح من القول: إلغاء تلك الركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، و يأتي بركعة بدلا منها، كمن أسقط سجدة سهوا، و هو اختيار ابن القاسم. و قال الحسن البصري: و أكثر أهل البصرة. و المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأمّ القرآن مرّة واحدة في الصلاة أجزأه، و لم يكن عليه إعادة؛ لأنّها صلاة قد قرأ فيها بأمّ القرآن، و هي تامّة؛ لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:
«لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن»، و هذا قد قرأ بها. قلت: و يحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كلّ ركعة، و هو الصحيح، و يحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، و هذا هو سبب الخلاف. و قال أبو حنيفة و الثوريّ، و الأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلّها، و قرأ غيرها أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. و قال أبو يوسف، و محمد بن الحسن: أقلّه ثلاث آيات.
وجه تسميتها:
سمّيت بفاتحة الكتاب: إمّا لافتتاح المصاحف، و التعليم، و قراءة القرآن، و الصلاة بها؛ و إمّا لأنّ الحمد فاتحة كلّ كلام؛ و إمّا لأنها أوّل سورة نزلت؛ و إمّا لأنّها أوّل ما كتبت في اللوح المحفوظ؛ و إمّا لأنّها فاتحة أبواب المقاصد في الدنيا و أبواب الجنان في العقبى، و قيل: غير ذلك.
و هذه السورة الكريمة كلّها محكم، لا ناسخ فيها و لا منسوخ.
و اللّه أعلم
(1) القرطبي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 48
قال اللّه سبحانه و تعالى:
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
التفسير و أوجه القراءة
استدراك في بحث البسملة: و الباء «1» في بِسْمِ اللَّهِ : حرف خافض يخفض ما بعده، مثل: من و عن، و المتعلق به مضمر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، تقديره: أبدأ باسم اللّه أو باسم اللّه أبدأ أو أقرأ. و إنما طوّلت الباء في بِسْمِ اللَّهِ ، و أسقطت الألف؛ طلبا للخفة، و قيل: لمّا أسقطوا الألف عوضوا طولها عن الألف المحذوفة، و أثبتت الألف في قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، و قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ؛ لقلّة استعماله. و قيل: إنّما طوّلوا الباء؛ لأنّهم أرادوا أن يستفتحوا كتاب اللّه بحرف معظم. و قيل: الباء حرف منخفض الصورة، فلمّا اتصل باسم اللّه ارتفع و استعلى، و قيل: إنّ عمر بن عبد العزيز كان يقول لكتّابه: طوّلوا الباء من بِسْمِ اللَّهِ و أظهروا السين، و دوّروا الميم؛ تعظيما لكتاب اللّه تعالى.
و الاسم: هو المسمى عينه، و ذاته، قال اللّه تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ، ثمّ نادى الاسم فقال: يا يَحْيى ، و قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، و تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ، و هذا القول ليس بقوي. و الصحيح المختار: أنّ الاسم غير المسمى، و غير التسمية، فالاسم: ما تعرف به ذات الشيء، و ذلك؛ لأنّ الاسم هو الأصوات المقطّعة، و الحروف المؤلّفة على ذات ذلك الشيء، فثبت بهذا أنّ الاسم غير المسمى، و أيضا: قد تكون الأسماء كثيرة، و المسمّى واحد، كقوله
(1) الخازن.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 49
تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، و قد يكون الاسم واحدا، و المسمّيات به كثيرة، كالأسماء المشتركة، و ذلك يوجب المغايرة، و أيضا فقوله: فَادْعُوهُ بِها أمر أن يدعى اللّه تعالى بأسمائه، فالاسم آلة الدعاء، و المدعو هو اللّه تعالى، فالمغايرة حاصلة بين ذات المدعو، و بين اللفظ المدعو به.
و أجيب عن قوله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى بأنّ المراد: ذات الشخص المعبّر عنه بيحيى، لا نفس الاسم. و أجيب عن قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ و تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ : بأنّ معنى هذه الألفاظ: يقتضي إضافة الاسم إلى اللّه تعالى، و إضافة الشيء إلى نفسه محال. و قيل: كما يجب تنزيه ذاته تعالى عن النقص فكذلك يجب تنزيه أسمائه.
و كون الاسم غير التسمية، هو أنّ التسمية: عبارة عن تعيين اللفظ المعيّن؛ لتعريف ذات الشيء، و الاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة، و الفرق ظاهر مما ذكرنا. و اختلفوا في اشتقاق الاسم كما مرّ، فقال البصريون: من السموّ، و هو العلوّ، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر به، و علا عليه، فكأنه علا على معناه، و صار علما له. و قال الكوفيون: من السمة، و هي العلامة، فكأنّه علامة لمسمّاه.
و حجة البصريين: لو كان الاسم اشتقاقه من السمة؛ لكان تصغيره و سيما، و جمعه أو ساما، و أجمعوا على أنّ تصغيره سميّ، و جمعه أسماء، و آسام.
اللَّهِ : هو اسم «1» خاص للّه تعالى، تفرّد به البارىء سبحانه و تعالى، ليس بمشتقّ، و لا يشركه فيه أحد، و هو الصحيح المختار. دليله قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا . و قيل: هو مشتق من أله يأله إلاهة من باب فتح، مثل: عبد الرجل يعبد عبادة. دليله قوله تعالى: وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ ؛ أي: و عبادتك على قراءة قرّاء كسر الهمزة. و معناه: المستحق للعبادة دون غيره. و قيل: من الوله، و هو الفزع؛ لأن الخلق يولهون إليه؛ أي: يفزعون إليه في حوائجهم. قال بعضهم:
و لهت إليكم في بلايا تنوبني
فألفيتكم فيها كرائم محتد