کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 70
الشروع فيه، فلم أخّر الاستعانة عن العبادة؟
قلت: ذكروا فيه وجوها:
أحدها: أنّ هذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل، و نحن بحمد اللّه نجعل التوفيق و الاستطاعة مع الفعل، فلا فرق بين التقديم و التأخير.
الثاني: أنّ الاستعانة نوع تعبّد، فكأنّه ذكر جملة العبادة أولا، ثمّ ذكر ما هو من تفاصيلها ثانيا.
الثالث: كأنّ العبد يقول: شرعت في العبادة فأنا أستعين بك على إتمامها، فلا يمنعني من إتمامها مانع.
و الرابع: أنّ العبد إذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حصل له الفخر، و ذلك منزلة عظيمة، فيحصل بذلك العجب، فأردف ذلك بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة.
و في «النسفي»: و أطلقت الاستعانة؛ لتتناول كلّ مستعان فيه، و يجوز أن يراد الاستعانة به و بتوفيقه على أداء العبادات، و يكون قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ بيانا للمطلوب منه المعونة، فكأنّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... الخ. اه.
و المجيء بالنون في الفعلين «1» ؛ لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه و عن جنسه من العباد. و قيل: إنّ المقام لمّا كان عظيما، لم يستقلّ به الواحد؛ استقصارا لنفسه، و استصغارا لها، فالمجيء بالنون؛ لقصد التواضع لا لتعظيم النفس، و تقديم المعمول على العامل في الفعلين؛ لقصد الاختصاص. و قيل:
للاهتمام، و الصواب أنّه لهما، و لا تزاحم بين المقتضيات.
و كرّر «2» إِيَّاكَ للتنصيص على اختصاصه تعالى بالاستعانة أيضا، و الاستعانة: طلب العون، و يعدّى بالباء و بنفسه؛ أي: نطلب العون على عبادتك،
(1) الشوكاني.
(2) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 71
أو على ما لا طاقة لنا به، أو على محاربة الشيطان المانع من عبادتك، أو في أمورنا بما يصلحنا في ديننا و دنيانا، و الجامع للأقاويل: نسألك أن تعيننا على أداء الحقّ و إقامة الفروض، و تحمّل المكاره و طلب المصالح. و الضمير المستكن في نَعْبُدُ ، و كذا في نَسْتَعِينُ للقارىء، و من معه من الحفظة و حاضري صلاة الجماعة، أو له و لسائر الموحدين، أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم، و خلط حاجته بحاجتهم، لعلّها تقبل ببركتها، و تجاب، و لهذا شرعت الجماعة.
ثمّ قوله نَعْبُدُ يحتمل أن يكون من العبادة، كما عليه تفسيرنا السابق، أو من العبودة. و العبادة: هي العابدية، و العبودة: هي العبدية، فمن العبادة:
الصلاة بلا غفلة، و الصوم بلا غيبة، و الصدقة بلا منّة، و الحج بلا إراءة، و الغزو بلا سمعة، و العتق بلا أذيّة، و الذّكر بلا ملالة، و سائر الطاعات بلا آفة. و من العبودة: الرضى بلا خصومة، و الصبر بلا شكاية، و اليقين بلا شبهة، و الشهود بلا غيبة، و الإقبال بلا رجعة، و الإيصال بلا قطيعة.
و خلاصة ما في الآية: أنّ اللّه سبحانه و تعالى «1» قد أمرنا أن لا نعبد أحدا سواه. لأنّه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، و لا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا أن لا نستعين بمن دونه، و لا نطلب المعونة المتّمّمة للعمل، و الموصلة إلى الثمرة المرجوّة إلّا منه فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها و تحصيلها.
بيان هذا: أنّ الأعمال يتوقّف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبّباتها، و جعلتها موصلة إليها، و على انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، و قد أوتي الإنسان بما فطره اللّه عليه من العلم و المعرفة، كسب بعض الأسباب، و دفع بعض الموانع بقدر استعداده الذي أوتيه، و في هذا القدر أمرنا أن نتعاون، و يساعد بعضنا بعضا، كما قال تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 72
الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ . فنحن نحضر الدواء مثلا؛ لشفاء المرضى، و نجلب السلاح و الكراع، و نكثر الجند؛ لغلب العدوّ، و نضع في الأرض السماد، و نرويها و نقتلع منها الحشائش الضارّة؛ للخصب و تكثير الغلّة.
و فيما وراء ذلك مما حجب عنّا من الأسباب: يجب أن نفوّض أمره إلى اللّه تعالى، فنستعين به وحده، و نفزع إليه في شفاء مريضنا، و نصرنا على عدونا، و رفع الجوائح السماوية و الأرضية عن مزارعنا، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه، و هو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا، كما قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، و أرشد إلى أنّه قريب منّا، يسمع دعاءنا، كما قال: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .
و في ذكر الاستعانة باللّه: إرشاد للإنسان إلى أنّه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد خالف الفطرة، و نبذ هدي الشريعة، و أصبح مذموما مدحورا لا متوكلا محمودا، و كذلك فيها إيماء إلى أنّ الإنسان مهما أوتي من حصافة الرأي، و حسن التدبير، و تقليب الأمور على وجوهها، لا يستغني عن العون الإلهيّ، و اللطف الخفي.
و الاستعانة «1» بهذا المعنى ترادف التوكّل على اللّه، و هي من كمال التوحيد و العبادة الخالصة له تعالى، و بها يكون المرء مع اللّه عبدا خاضعا مخبتا، و مع الناس حرّا كريما لا سلطان لأحد عليه لا حيّ و لا ميّت، و في هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء، و الدجّالين المخرّفين، و إطلاق العزائم من قيود الأفاكين الكاذبين.
إيّا «2» : تلحقه ياء المتكلم، و كاف المخاطب، و هاء الغائب، و فروعها، فيكون ضمير نصب منفصلا لا اسما ظاهرا أضيف، خلافا لزاعمه، و هل الضمير
(1) المراغي.
(2) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 73
هو مع لواحقه، أو هو وحده و اللواحق حروف تبيّن المراد به؟ أو هو و اللواحق أسماء أضيف هو إليها، أو اللواحق وحدها، و إيّا زائدة لتتصل بها الضمائر.
أقوال ذكرت في كتب النحو.
و أما لغاته: فبكسر الهمزة و تشديد الياء، و بها قرأ الجمهور، و بفتح الهمزة و تشديد الياء، و بها قرأ الفضل الرقاشيّ، و بكسر الهمزة و تخفيف الياء، و بها قرأ عمرو بن فائد، عن أبيّ، و بإبدال الهمزة المكسورة هاء، و بإبدال الهمزة المفتوحة هاء، و بذلك قرأ ابن السوّار الغنويّ، و ذهاب أبي عبيدة إلى أنّ (إيّا) مشتق ضعيف، و كان أبو عبيدة لا يحسن النّحو، و إن كان إماما في اللّغات و أيّام العرب.
و إضافة (إيّا) إلى الظاهر نادر، نحو: و إيّا الشوابّ، أو ضرورة، نحو:
دعني و إيّا خالد، و استعماله تحذيرا معروف، و إياك و الأسد. و قرأ الحسن، و أبو مجلز، و أبو المتوكل إيّاك يعبد بالياء مبنيا للمفعول، و هذه القراءة مشكلة؛ لأنّ إيّاك ضمير نصب و لا ناصب له، و توجيهها أنّ فيها استعارة و التفاتا، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع، فكأنّه قال: أنت، ثمّ التفت فأخبر عنه إخبار الغائب؛ لمّا كان إِيَّاكَ هو الغائب من حيث المعنى فقال: يعبد، فكأنّه قيل: هو يعبد؛ أي: ربّ العالمين الموصوف بما ذكر يعبد، و غرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة.
و عن بعض أهل مكة نَعْبُدُ بإسكان الدال. و قرأ زيد بن عليّ، و يحيى بن وثّاب، و عبيد بن عمير الليثيّ و نعبد بكسر النون. و قرأ الجمهور نَسْتَعِينُ بفتح النون الأولى، و هي لغة الحجاز، و هي الفصحى. و قرأ عبيد بن عمير الليثيّ، و زرّ بن حبيش، و يحيى بن وثّاب، و النخعيّ، و الأعمش بكسرها، و هي لغة قيس، و تميم، و أسد، و ربيعة، و كذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل و ما أشبهه. و قال أبو جعفر الطّوسيّ: هي لغة هذيل. و انقلاب الواو ألفا في استعان و مستعان و ياء في نستعين و مستعين و الحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف، فراجعه.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 74
و كرر إِيَّاكَ ليكون كلّ من العبادة و الاستعانة سيقا في جملتين، و كلّ منهما مقصودة، و للتنصيص على طلب العون منه، بخلاف ما لو قال: إيّاك نعبد و نستعين، فإنّه كان يحتمل أن يكون إخبارا بطلب العون؛ أي: و ليطلب العون من غير أن يعيّن ممن يطلب منه، و في قوله: نَعْبُدُ قالوا: ردّ على الجبرية، و في نَسْتَعِينُ ردّ على القدرية، و قالوا: في قوله: إِيَّاكَ ردّ على الدهرية، و المعطلة، و المنكرين لوجود الصانع، فإنه خطاب لموجود حاضر، و اللّه أعلم بأسرار كتابه.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، أي: أرشدنا إلى الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه، الذي هو دين الإسلام، و ثبتنا على المنهاج الواضح الذي رضيته لنا، و هذا بيان للمعونة المطلوبة أوّلا، فكأنّه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا.
و إفراد لما هو المقصود الأعظم الذي هو الهداية و هي الدلالة بلطف.
و المراد زدنا هداية إليه، أو أدمنا مهديّين إليه، و إلا فنحن مهديّون بحمد اللّه تعالى. و في «السمين»: و أصل هدى أن يتعدّى إلى الأول بنفسه، و إلى الثاني بحرف الجرّ، و هو إمّا إلى أو اللام، كقوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، ثمّ قد يتّبع فيه، فيحذف الحرف فيتعدى للثاني بنفسه، كما هنا، فأصل اهْدِنَا الصِّراطَ : اهدنا للصراط، أو إلى الصراط، ثم حذف الحرف و وصل الفعل إلى المفعول بنفسه، و وزن اهد:
إفع، حذفت لامه و هي الياء؛ حملا للأمر على المضارع المجزوم، و المجزوم تحذف لامه إذا كان حرف علّة. و الهداية: الإرشاد، و الدلالة، و التبيين، كقوله:
وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي: بيّنا لهم، و الإلهام: كقوله: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ؛ أي: ألهمه لمصالحه، و الدعاء: كقوله: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ؛ أي:
داع. و قال الراغب: الهداية دلالة بلطف، و منه: الهديّة؛ لأنّها تمال من مالك إلى مالك. و الصراط: الطريق المستهل، و بعضهم لا يقيده بالمستهل، و منه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوجّ الموارد مستقيم
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 75
أي: على طريقة حسنة، و المراد به هنا: دين الإسلام كما قاله ابن عباس.
و قيل: هو القرآن، و روي ذلك مرفوعا. و قيل: السنة و الجماعة «1» . و قيل: معناه:
اهدنا صراط المستحقّين للجنة.
و أصله «2» : السين، و قرأ بها قنبل حيث ورد، و إنّما أبدلت صادا؛ لأجل حرف الاستعلاء؛ أي: ليطابق الطاء في الإطباق. و السراط: من سرط الطعام إذا ابتلعه، فكأنّه يسرط السابلة، و لذلك سمّي لقما؛ لأنّه يلتقمهم، و جمعه: سرط ككتب، و قد تشمّ الصاد في الصراط زايا، و به قرأ خلف، و قرىء بالزاي المحضة، و لم يرسم في المصحف إلّا بالصاد مع اختلاف قراءتهم فيها، كما سيأتي. و الصراط يذكر و يؤنّث كالطريق، فالتذكير: لغة تميم، و التأنيث: لغة الحجاز. و المستقيم: اسم فاعل من استقام، و معناه: استوى من غير اعوجاج، و أصله: مستقوم، ثم أعلّ كإعلال نَسْتَعِينُ ، كما سيأتي في مباحث الصرف.
و في «أبي السعود»: و الصراط: جمعه صرط، ككتاب و كتب، و هو كالطريق و السبيل، في التذكير و التأنيث. و المستقيم: المستوي، و المراد به: طريق الحقّ، و هي الملّة الحنيفيّة السّمحة المتوسّطة بين الإفراط و التفريط. اه. و أصل الصراط: السراط بالسين.
و قرأ قنبل، و رويس «3» : الصراط بإبدال سينه صادا، و هي الفصحى، و هي لغة قريش، و بها قرأ الجمهور، و بها كتبت في مصحف الإمام. و الزراط:
لغة رواها الأصمعيّ، عن أبي عمرو، و إشمامها زايا: لغة قيس، و به قرأ حمزة بخلاف و تفصيل عن رواته. و قال أبو عليّ. و روي عن أبي عمرو السين و الصاد، و المضارعة بين الزاي و الصاد. و قال أبو جعفر الطّوسي في تفسيره:
الصراط بالصاد: لغة قريش، و هي اللغة الجيّده، و عامّة العرب يجعلونها سينا،
(1) الفتوحات.
(2) البحر المحيط.
(3) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 76
و الزاي: لغة لبني عذرة، و كعب، و بني القين، و قال أبو بكر بن مجاهد: و هذه القراءة تشير: إلى أنّ قراءة من قرأ بين الزاي و الصاد تكلّف حرف بين حرفين، و ذلك صعب على اللسان، و ليس بحرف يبنى عليه الكلام و لا من حروف المعجم، لست أدفع أنّه من كلام فصحاء العرب إلّا أنّ الصاد أفصح و أوسع.
و قرأ زيد بن علي، و الضحاك، و نصر بن علي، عن الحسن اهدنا صراطا مستقيما بالتنوين من غير لام التعريف، كقوله: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ . و قرأ جعفر الصادق في صراط مستقيم بالإضافة.
و اعلم «1» : أنّ هداية اللّه للإنسان على ضروب.
1- هداية الإلهام: و تكون للطفل منذ ولادته فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء، و يصرخ طالبا له.
2- هداية الحواسّ: و هاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان و الحيوان الأعجم، بل هما في الحيوان أتم منهما في الإنسان، إذ إلهامه و حواسّه يكملان بعد ولادته بقليل، و يحصلان في الإنسان تدريجا.
3- هداية العقل: و هي هداية أعلى من هداية الحسّ و الإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره، و حواسّه و إلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلا بدّ له من العقل الذي يصحّح له أغلاط الحواسّ. ألا ترى الصّفراويّ يذوق الحلو مرّا، و الرّائي يبصر العود المستقيم في الماء معوجّا.
4- هداية الأديان و الشرائع: و هي هداية لا بدّ منها لمن استرقّت الأهواء عقله، و سخّر نفسه للذّاته و شهواته، و سلك مسالك الشرور و الآثام، و عدا على بني جنسه، و حدث بينه و بينهم التّجاذب و التدافع، فبها يحصل الرشاد، إذا غلبت الأهواء العقول، و تتبينّ للناس الحدود و الشرائع، ليقفوا عندها، و يكفّوا أيديهم عمّا وراءها إلى أنّ في غرائز الإنسان الشعور بسلطان غيبيّ متسلط على الأكوان،