کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 91
فمنها: حسن الافتتاح و براعة المطلع، فإن كان أوّلها بسم اللّه الرحمن الرحيم على قول من عدّها منها، فناهيك بذلك حسنا، إذ كان مطلعها مفتتحا باسم اللّه، و إن كان أولها الحمد للّه فحمد اللّه و الثناء عليه بما هو أهله، و وصفه بما له من الصفات العليّة، أحسن ما افتتح به الكلام، و قدم بين يدي النثر و النظم، و قد تكرّر الافتتاح بالحمد في كثير من السور. و المطلع ينقسم إلى حسن و قبيح، و الحسن إلى ظاهر و خفيّ على ما قسم في علم البديع.
و منها: المبالغة في الثناء على اللّه؛ و ذلك لعموم أل في الْحَمْدُ على التفسير الذي مرّ.
و منها: تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنّه ذكر أنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ صيغته صيغة الخبر، و معناه الأمر، كقوله: لا ريب فيه و معناه: النهي؛ أي: لا ترتابوا فيه.
و منها: الاختصاص باللام التي في للّه، إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصّة به تعالى، فهو مستحق لها، و بالإضافة في مالك يوم الدين؛ لزوال الأملاك و الممالك عن سواه تعالى في ذلك اليوم، و تفرّده فيه بالملك و الملك، قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؛ و لأنّه لا يجازي في ذلك اليوم على الأعمال سواه.
و منها: الحذف، و هو على قراءة من نصب الحمد ظاهر، و تقدم هل يقدّر من لفظ الحمد، أو من غير لفظه، قال بعضهم: و منه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، و هو الذي يقدّر بكائن، أو مستقرّ، قال: و منه حذف صراط من قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، التقدير: صراط غير المغضوب عليهم و صراط غير الضالّين، و حذف سورة إن قدّرنا العامل في الحمد إذا نصبناه باذكروا، أو اقرؤا، تقديره: اقرءوا سورة الحمد.
و منها: الإتيان بالرحمن الرحيم عقب اتصافه بربّ العالمين؛ لإفادة الترغيب بعد الترهيب، فيكون أرغب للعبد على الطاعة، و أمنع من المعصية.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 92
و منها: تقديم المعمول على عامله في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، لإفادة الحصر و الاختصاص.
و منها: الإضافة لأدنى ملابسة في يَوْمِ الدِّينِ كإضافة سائر الظروف إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزاب، و يوم الفتح.
و منها: تقديم العبادة على الاستعانة في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ ليوافق رؤوس الآي؛ و ليعلم أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
و منها: إعادة إيّاك مع الفعل الثاني؛ ليفيد أنّ كلّا من العبادة و الاستعانة مقصود بالذات، فلا يستلزم كلّ منهما الآخر.
و منها: الالتفات من الغيبة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى الخطاب في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ... إلخ؛ تطريبا للنفس، و زيادة في نشاطها جريا على أساليبهم.
و منها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ حيث شبّه دين الإسلام بالطريق الحسّيّ، بجامع أنّ كلّا يوصل إلى المقصود، و استعير اسم المشبّه به للمشبّه.
و منها: طلب الشيء مرادا به طلب دوامه و استمراره في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، أي: ثبّتنا عليه.
و منها: التفسير و البيان في قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بعد الإبهام في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ؛ لأنّه أوقع في النفس، و أرسخ فيه.
و منها: نسبة الغضب إلى المجهول في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، حيث لم يقل: غير الذين غضبت عليهم؛ تعليما لعباده الأدب، حيث أسند الخير إلى نفسه، و أبهم في الشرّ، نظير قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ، و قوله: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ .
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 93
و منها: زيادة لا في قوله: وَ لَا الضَّالِّينَ ؛ لتأكيد النفي المستفاد من غير.
و منها: الزيادة و الحذف في عدّة مواضع «1» .
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
(1) إلى هنا انتهى تفسير سورة الفاتحة بعون اللّه و توفيقه، بعيد الظهر من يوم الاثنين، اليوم السابع من شهر ربيع الأول من شهور سنة ألف و أربع مئة و سبع عشرة سنة من الهجرة النبوية: 7/ 3/ 1417 ه على صاحبها أفضل الصلاة و أزكى التحية، و صلّى اللّه و سلم على سيّدنا و مولانا محمد خاتم النبيين، و على آله و صحبه أجمعين، و الحمد للّه ربّ العالمين.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 94
سورة البقرة
سورة البقرة مدنية كلّها، نزلت بعد المطفّفين في مدد شتّى، و هي أوّل ما نزل بالمدينة. قيل: إلّا قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية، فإنّها آخر آية نزلت من السماء، نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، و آيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن، ذكره القرطبي في «تفسيره».
و هي «1» مئتان و ستّ أو سبع أو ثمان و ثمانون آية، و ستّة آلاف كلمة، و مئة و إحدى و عشرون كلمة، و خمس و عشرون ألف حرف و خمس مئة حرف.
المناسبة: مناسبتها للفاتحة ظاهرة؛ لأنّ سورة الفاتحة ختمت بالأمر بطلب الهداية من اللّه سبحانه و تعالى، حيث قال فيها: قولوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، و سورة البقرة بدئت ببيان محلّ الهداية و الوسيلة إليها، حيث قال فيها: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ . و قال صاحب «الروح»: فإن قلت: «2» ما الحكمة في ابتداء البقرة بآلم و الفاتحة بالحرف الظاهر المحكم و هو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ؟
فالجواب ما قاله السيوطي- رحمه اللّه- في «الإتقان»: أقول في مناسبة ابتداء البقرة بآلم: أنّه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكلّ أحد، بحيث لا يعذر في فهمه أحد، ابتدئت البقرة بمقابله، و هو الحرف المتشابه البعيد التأويل؛ ليعلم مراتبه للعقلاء و الحكماء: ليعجزهم بذلك؛ ليعتبروا و يدبّروا آياته.
التسمية: سمّيت السورة الكريمة بسورة البقرة: إحياء لذكرى تلك المعجزة الباهرة التي ظهرت في زمن موسى الكليم عليه السلام، حيث قتل شخص من بني
(1) الخازن.
(2) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 95
إسرائيل، و لم يعرفوا قاتله إلى آخر ما سيأتي. و سيأتي بيان الناسخ و المنسوخ منها في آخرها، إن شاء اللّه تعالى.
فضلها: و ورد في فضلها أحاديث كثيرة:
منها: ما أخرجه مسلم، و الترمذي، و أحمد، و البخاري في «تاريخه»، و محمد بن نصر، عن النوّاس بن سمعان قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:
«يؤتى بالقرآن و أهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمهم سورة البقرة و آل عمران». قال: و ضرب لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال:
«كأنهما غمامتان، أو قال: كأنّهما غيايتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجان عن صاحبهما».
و منها: ما أخرجه ابن أبي شيبة، و أحمد، و الدارمي، و أحمد، و محمد بن نصر، و الحاكم و صحّحه عن بريدة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «تعلّموا سورة البقرة و آل عمران فإنّهما الزهراوان تظلّان صاحبهما يوم القيامة، كأنّهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف». قال ابن كثير: و إسناده حسن على شرط مسلم.
و منها: ما أخرجه مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان يفرّ من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، و عنه أيضا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لكل شيء سنام، و إن سنام القرآن سورة البقرة و فيها آية هي سيّدة آي القرآن، آية الكرسيّ»، أخرجه الترمذي، و قال حديث غريب.
و منها: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» مطولا، عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، و تركها حسرة، و لا يستطيعها البطلة؛ يعني: السحرة.
و منها: ما أخرجه أبو يعلى، و ابن حبان، و الطبراني، و البيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّ لكلّ شيء سناما، و سنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام، و من قرأها في
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 96
بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال».
و أخرج أحمد، و محمد بن نصر، و الطبراني بسند صحيح، عن معقل بن يسار:
أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «البقرة سنام القرآن و ذروته، نزل مع كلّ آية منها ثمانون ملكا، و استخرجت اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ من تحت العرش، فوصلت بها».
و أخرج البغوي في «معجم الصحابة»، و ابن عساكر في «تاريخه» عن ربيعة الجرسيّ قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أيّ القرآن أفضل؟ قال: «السورة التي يذكر فيها البقرة» قيل: فأيّ البقرة أفضل؟ قال: «آية الكرسيّ و خواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش». إلى غير ذلك مما ورد في فضلها من الأحاديث المختلفة صحة، و حسنا، و غرابة، و ضعفا.
و قوله: سورة البقرة كذا و كذا آية يؤخذ منه: أنّ تسميتها بما ذكر غير مكروه خلافا لمن قال بكراهة ذلك، و قال: لا يقال ذلك؛ لما فيه من نوع تنقيص بإضافتها إلى البقرة، أو إلى العنكبوت مثلا، و إنّما يقال: السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي يذكر فيها آل عمران، أو العنكبوت مثلا، و استدلّ هذا القائل بما رواه الطبراني في «الأوسط»، و البيهقي في «الشّعب»، و غيرهما بسند ضعيف، عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تقولوا سورة البقرة و لا سورة آل عمران و لا سورة النساء، و كذا القرآن كلّه، و لكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة و السورة التي يذكر فيها آل عمران، و كذا القرآن كلّه». قال ابن كثير: هذا حديث غريب لا يصحّ رفعه، و في إسناده يحيى بن ميمون الخوّاص، و هو ضعيف الرواية لا يحتجّ به. و بما أخرجه البيهقي في «الشعب» بسند صحيح، عن ابن عمر قال: (لا تقولوا سورة البقرة، و لكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة)، و لكنه موقوف على ابن عمر لم يرفعه.
و الذي عليه الجماهير من الصحابة و التابعين، و من بعدهم عدم الكراهة، فقد روي عن جماعة من الصحابة ما يدلّ على عدم الكراهة، فثبت في «الصحيحين» عن ابن مسعود: أنّه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 97
يساره، و منى عن يمينه، ثمّ قال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة).
و أخرج ابن أبي شيبة، و أحمد، و مسلم، و أهل السنن، و الحاكم و صحّحه عن حذيفة قال: (صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة من رمضان فافتتح البقرة، فقلت:
يصلّي بها في ركعة، ثمّ افتتح النساء فقرأها، ثمّ افتتح آل عمران فقرأها مترسّلا» الحديث.
و أخرج أحمد، و ابن الضريس، و البيهقي عن عائشة قالت: (كنت أقوم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الليل، فيقرأ بالبقرة و آل عمران و (النساء).
و أخرجه أبو داود، و الترمذي في «الشمائل»، و النسائي، و البيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة، فقام، فقرأ سورة البقرة لا يمرّ بآية رحمة إلّا وقف» الحديث.
و السورة قد يكون لها اسم واحد، و قد يكون لها اسمان أو أكثر، و السورة مأخوذة من سور البلد؛ لارتفاع رتبتها كارتفاعه، و إحاطتها بالمعاني الغزيرة، كإحاطته بالبلد، و هي طائفة من القرآن، لها أوّل و آخر. و تسميتها باسم خاصّ بها توقيفي على الراجح، و الراجح: أنّ المكيّ: ما نزل قبل الهجرة، و لو في غير مكة، و المدني: ما نزل بعد الهجرة و لو في غير المدينة. و الآية في العرف: هي طائفة من كلمات القرآن، متميّزة بفصل، و الفصل: هو آخر الآية، يجمع على فواصل، و قد تكون كلمة، مثل: (الفجر)، (و الضحى)، (و العصر)، و كذا (ألم) و (طه) و (يس) و نحوها عند الكوفيين، و غيرهم لا يسمّيها آيات، بل يقول: هي فواتح السور. و عن أبي عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلّا قوله تعالى. مُدْهامَّتانِ . اه. من «التحبير». و أصل آية: أيية كشجرة، قلبت عينها ألفا على غير قياس، و قيل: آيية كفاعلة، حذفت الهمزة تخفيفا، و قيل: غير ذلك، و قد بسطنا الكلام في هذا المقام في المقدمة فراجعها.