کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 98
و قيل: إنّه ثبت باجتهاد الصحابة. و قال السيوطي- رحمه اللّه تعالى في «التحبير»:
اختلف: هل ترتيب الآي و السور على النظم الذي هو الآن عليه، بتوقيف من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، أو باجتهاد من الصحابة؟ فذهب قوم إلى الثاني، و اختار مكي و غيره:
أنّ ترتيب الآيات و البسملة في الأوائل من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و ترتيب السور منه لا باجتهاد الصحابة. و المختار: أنّ الكلّ من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم. اه. و على كلّ من القولين: فأسماء السور في المصاحف لم يثبتها الصحابة في مصاحفهم؛ و إنّما هو شيء ابتدعه الحجاج، كما ابتدع إثبات الأعشار، و الأسباع، كما ذكره الخطيب.
فإثبات أسماء السور ظاهر، كما فعل المفسرون، و إثبات الأعشار بأن جزّأ الحجاج القرآن عشرة أجزاء، و كتب عند أول عشر بهامش المصحف عشر بضمّ العين، و كذلك كتب الأسباع، فآخر السبع الأول: الدالّ من قوله في النساء:
وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ، و آخر السبع الثاني: التاء من قوله في الأعراف: أولئك حَبِطَتْ ، و آخر الثالث: الألف من أكلها في قوله في الرعد: أُكُلُها دائِمٌ ، و آخر الرابع: الألف من جعلنا في قوله في الحج وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ، و آخر الخامس: التاء من قوله في الأحزاب: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ ، و آخر السادس: الواو من قوله في الفتح: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ، و آخر السابع:
ما بقي من القرآن، كما ذكره القرطبي.
و ذكر القرطبي أيضا: أنّ الحجاج كان يقرأ كلّ ليلة ربعا، فأوّل ربعه:
خاتمة الأنعام، و الربع الثاني: في الكهف وَ لْيَتَلَطَّفْ ، و الربع الثالث: خاتمة الزمر، و الربع الرابع: ما بقي من القرآن، و قيل غير ذلك.
و قال السيوطي في «التحبير» ما نصّه: و كون أسماء السور توقيفية؛ إنّما هو بالنسبة إلى الاسم الذي تذكر به السورة، و تشتهر به، و إلّا فقد سمّى جماعة من الصحابة و التابعين سورا بأسماء من عندهم، كما سمّى حذيفة التوبة بالفاضحة، و سورة العذاب، و سمّى خالد بن معدان البقرة: فسطاط القرآن، و سمّى سفيان بن عيينة سورة الفاتحة: الوافية، و سمّاها يحيى بن كثير الكافية؛ لأنّها تكفي عمّا عداها.
و من السور ما له اسمان فأكثر، فالفاتحة تسمّى أمّ القرآن، و أمّ الكتاب،
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 99
و سورة الحمد، و سورة الصلاة، و الشفاء، و السبع المثاني، و الرقية، و النور، و الدعاء، و المناجاة، و الشافية، و الكافية، و الكنز، و الأساس. و براءة تسمّى التوبة، و الفاضحة، و سورة العذاب. و يونس تسمّى السابعة؛ لأنّها سابعة السبع الطوال. و الإسراء تسمّى سورة بني إسرائيل، و السجدة تسمّى المضاجع، و فاطر تسمّى سورة الملائكة، و غافر تسمّى المؤمن، و فصّلت تسمّى السجدة، و الجاثية تسمّى الشريعة، و سورة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم تسمّى القتال، و الطلاق تسمّى النساء القصرى.
و قد يوضع اسم لجملة من السور كالزهراوين للبقرة و آل عمران، و السبع الطوال، و هي البقرة و ما بعدها إلى الأعراف، و السابعة يونس، كذا روي عن سعيد بن جبير، و مجاهد، و المفصّل، و الأصحّ: أنّه من الحجرات إلى آخر القرآن؛ لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، و المعوذات للإخلاص، و الفلق و الناس. اه. بحروفه.
فائدة:
فإن قلت: أيّ سورة أطول في القرآن، و أيّها أقصر؟ و أيّ آية أطول و أيّها أقصر؟، و أيّ كلمة أطول و أيها أقصر؟.
قلت: أطول سورة في القرآن: البقرة، و أقصرها: الكوثر، و أطول آية: آية الدّين، و أقصرها آية: وَ الضُّحى و (الفجر) و مُدْهامَّتانِ ، و أطول كلمة: ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ و قوله: أَ نُلْزِمُكُمُوها ، و أما قوله:
فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فهو عشرة أحرف في الرسم، و أحد عشر في اللفظ. و أقصرها: ما كان على حرفين نحو: ما، و لا، و له، و به و ما أشبه ذلك، و من حروف المعاني ما هو على حرف واحد، كهمزة الاستفهام، و واو العطف إلّا أنّه لا ينطق به مفردا.
فإن قلت: «1» ما الحكمة في كون سورة البقرة أعظم السور ما عدا الفاتحة؟.
(1) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 100
قلت: كانت أعظمها؛ لأنّها فصّلت فيها الأحكام، و ضربت الأمثال، و أقيمت الحجج، إذ لم تشتمل سورة على ما اشتملت عليه؛ و لذلك سميت فسطاط القرآن.
قال ابن العربي في «أحكام القرآن»: سمعت بعض مشايخي يقول: في سورة البقرة ألف أمر، و ألف نهي، و ألف خبر، و لعظم فقهها أقام ابن عمر- رضي اللّه عنهما- ثماني سنين على تعلّمها، كذا في «أسئلة الحكم».
فإن قلت: لم سوّرت السور طوالا، و أوساطا، و قصارا؟.
قلت: سوّرت كذلك تنبيها على أنّ الطول ليس من شرط الإعجاز، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات، و هي معجزة إعجاز سورة البقرة، ثمّ ظهرت لذلك التسوير؛ حكمة في التعليم، و تدريج الأطفال من السور القصار إلى ما فوقها تيسيرا من اللّه تعالى على عباده، و في ذلك أيضا: ترغيب و توسيع في الفضيلة في الصلاة، و غيرها، كسورة الإخلاص من القصار تعدل ثلث القرآن، فمن فهم ذلك فاز بسر التسوير.
فإن قلت: ما الحكمة في تعدّد مواطن نزول القرآن، و تكرّر مشاهده مكيّا، مدنيا، ليليّا، نهاريّا سفريّا، حضريّا، صيفيّا، شتائيا، نوميّا، برزخيّا: يعني: بين الليل و النهار أرضيّا سماويّا. غاريّا. يعني: ما نزل في الغار تحت الأرض برزخيا. يعني: ما نزل بين مكة و المدينة، عرشيّا معراجيّا. يعني: ما نزل ليلة المعراج. آخر (سورة البقرة)؟.
قلت: الحكمة في ذلك تشريف مواطن الكون كلّها بنزول الوحي الإلهيّ فيها، و حضور الحضرة المحمّديّة عندها، كما قيل: سرّ المعراج و الإسراء به، و سير المصطفى في مواطن الكون كلّها: كأنّ الكون، و العرش، و الجنان، يسأل كلّ موطن بلسان الحال، أن يشرّفه اللّه تعالى بقدوم قدم حبيبه، و تكتحل أعين الأعيان و الكبار بغبار نعال قدم سيّد السادات.
و اللّه أعلم
***
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 101
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
أسباب النزول
و ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله: الم إلى قوله:
الْمُفْلِحُونَ أقوالا.
أحدهما: أنّها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، و هو قول ابن عباس و جماعة.
و الثاني: نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد. اه. من «البحر».
التفسير و أوجه القراءة
الم : اللّه أعلم بمراده بذلك، فأرجح الأقوال في هذه الأحرف التي ابتدىء بها كثير من السور سواء كانت أحاديّة: ك ق و ص و ن ، أو ثنائية: ك طس و يس ، أو ثلاثية: ك الم و الر* و طسم* ، أو رباعية: ك المص و المر أو خماسيّة: ك كهيعص : أنّه من المتشابه الذي اختصّ اللّه سبحانه و تعالى بعلمه، و على هذا فلا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى، فلا يحكم عليها بإعراب، و لا بناء، و لا تركيب مع عامل.
و الحاصل: أنّ مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور: أربعة عشر حرفا، و هي نصف حروف الهجاء، و قد تفرّقت في تسع و عشرين سورة، المبدوء بالألف
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 102
و اللام منها: ثلاثة عشر، و بالحاء و الميم سبعة، و بالطاء أربعة، و بالكاف واحدة، و بالياء واحدة، و بالصاد واحدة، و بالنون واحدة. و بعض هذه الحروف المبدوء بها أحاديّ، و بعضها ثنائي، و بعضها ثلاثي، و بعضها رباعيّ، و بعضها خماسيّ، و لا تزيد عليه.
و عبارة «الروح» هنا: و اعلموا أنّهم تكلّموا في شأن هذه الفواتح الكريمة، و ما أريد بها. فقيل: إنّها من العلوم المستورة، و الأسرار المحجوبة؛ أي: من المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه، و هي سرّ القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، و نكل العلم فيها إلى اللّه تعالى، و فائدة ذكرها: طلب الإيمان بها، و الإشارة إلى أنّ القرآن إنّما نزل للإعجاز. و قيل: كلّ حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، فالألف: مفتاح اسم الجلالة، و اللام: مفتاح اسم اللطيف، و الميم: مفتاح اسم المجيد، كما أنّ قوله تعالى: الر* أنا اللّه أرى، و كهيعص أنا اللّه الكريم الهادي الحكيم العليم الصادق، و كذا قوله تعالى: ق إشارة إلى أنّه القادر، و ن إشارة إلى أنّه النور الناصر، فهي حروف مقطعة كلّ منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، و الاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية، كما قال الشاعر:
قلت لها قفي فقالت ق
أراد قالت: وقفت و قال زهير:
بالخير خيرات و إن شرّا فا
و لا أريد الشّرّ إلّا أن تا
أراد و إن شرّا فشرّ، و أراد إلّا أن تشا. و قيل: إنّ هذه الحروف ذكرت في أوائل بعض السور؛ لتدل على أنّ القرآن مؤلّف من الحروف التي هي: أ ب ت ث، فجاء بعضها مقطعا، و بعضها مؤلّفا؛ ليكون إيقاظا لمن تحدّى بالقرآن، و تنبيها لهم على أنّه منتظم من عين ما ينظّمون منه كلامهم، فلو لا أنّه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلّاق القوى و القدر؛ لأتوا بمثله. هذا ما جنح إليه أهل التحقيق.
و قال الشيخ الأكبر- رحمه اللّه تعالى في «تفسيره»: و أمّا الحروف المجهولة التي أنزلها اللّه تعالى في أوائل السور، فسبب ذلك؛ من أجل لغو العرب عند
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 103
نزول القرآن، فأنزلها سبحانه حكمة منه حتى تتوفّر دواعيهم، لما أنزل اللّه تعالى إذا سمعوا مثل هذا الذي ما عهدوه، و النفوس من طبعها أن تميل إلى كلّ أمر غريب غير معتاد، فينصتون عن اللغو، و يقبلون عليها، و يصغون إليها، فيحصل المقصود فيما يسمعونه مما يأتي بعد هذه الحروف النازلة من عند اللّه تعالى، و تتوفّر دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاء بها مقطعة، و بين ما يجاورها من الكلم، و أبهم الأمر عليهم من عدم اطلاعهم عليها. فردّ اللّه سبحانه بذلك شرّا كبيرا من عنادهم، و عتوّهم، و لغوهم كان يظهر منهم؛ فذاك رحمة للمؤمنين، و حكمة منه سبحانه و تعالى. انتهى.
و قال المراغي: الم هي و أمثالها من الحروف المقطعة، نحو: المص و الر* حروف للتنبيه كألا، و يا، و نحوهما مما وضع؛ لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها، فهنا جاءت؛ للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم، و الإشارة إلى إعجازه، و إقامة الحجة على أهل الكتاب، إلى نحو ذلك مما جاء في أثناء السورة.
و تقرأ مقطعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال في أسماء الأعداد: واحد اثنان ثلاثة. انتهى. و على هذا القول: فلا محلّ لها من الإعراب، كالقول الأوّل الراجح. و قيل: إنّها أسماء للسور التي ابتدئت بها.
و قيل: أسماء للقرآن. و قيل: أسماء للّه تعالى. و قيل: كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، كما مرّ؛ أي: إنّ كلّ حرف منها اسم مدلوله حرف من حروف المباني، و ذلك الحرف جزء من اسم من أسماء اللّه تعالى، فألف: اسم مدلوله اه من اللّه، و اللام، اسم مدلوله له من لطيف، و الميم: اسم مدلوله مه من مجيد.
و قيل: كلّ حرف منها يشير إلى نعمة من نعم اللّه تعالى. و قيل: إلى ملك.
و قيل: إلى نبيّ. و قيل: الألف تشير إلى آلاء اللّه، و اللام تشير إلى لطف اللّه، و الميم تشير إلى ملك اللّه. و على هذه الأقوال فلها محلّ من الإعراب، فقيل:
الرفع، و قيل: النصب، و قيل: الجرّ. فالرفع على أحد وجهين: إما بكونها مبتدأ خبرها ما بعدها، و إما بكونها خبرا لمحذوف، كما سيأتي بيانه. و النصب على
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 104
أحد وجهين أيضا: إمّا بإضمار فعل لائق تقديره: اقرؤا الم ، و إما بإسقاط حرف القسم، كقوله:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم
فذاك أمانة اللّه الثريد
يريد: و أمانة اللّه، و كذلك هذه الحروف أقسم اللّه تعالى بها. و الجرّ من وجه واحد، و هو أنّها مقسم بها حذف حرف القسم و بقي عمله، كقولهم: اللّه لأفعلنّ. أجاز ذلك الزمخشري، و أبو البقاء، و هذا ضعيف؛ لأنّ ذلك من خصائص الجلالة المعظّمة لا يشركها فيه غيرها.
فتلخّص مما تقدّم: أنّ في الم و نحوها ستة أوجه، و هي: أنّها لا محلّ لها من الإعراب، أو لها محلّ و هو الرفع بالابتداء، أو على الخبر، و النصب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم، و الجرّ بإضمار حرف القسم. و أما قوله:
ذلِكَ الْكِتابُ فيجوز في ذلك أن يكون مبتدأ ثانيا، و الكتاب خبره، و الجملة خبر الم ، و أغني عن الرابط باسم الإشارة، و يجوز أن يكون الم مبتدأ، و ذلِكَ خبره، و الْكِتابُ صفة لذلك، أو بدل منه، أو عطف بيان، و لا رَيْبَ فِيهِ خبر للمبتدأ الثاني، و هو و خبره خبر عن الأول، و يجوز أن يكون الم خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه ألم، فتكون جملة مستقلّة بنفسها، و يكون ذلِكَ مبتدأ و الْكِتابُ خبره، و يجوز أن يكون صفة له، أو بدلا، أو بيانا، و لا رَيْبَ فِيهِ هو الخبر عن ذلك، أو يكون الْكِتابُ خبرا لذلك، و لا رَيْبَ فِيهِ خبر ثان.
تنبيه: ثمّ اعلم أنّ المتشابه كالمحكم من جهة أجر التلاوة؛ لما روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه، فله حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، بل ألف حرف، و لام حرف، و ميم حرف، ففي ألم تسع حسنات».
فائدة هذا الربع من هذه السورة ينقسم أربعة أقسام: