کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 160
أسلموا أوّلا، و دخل نور الإيمان في قلوبهم، ثمّ داخلهم الشكّ فيه، فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله، و لم يفقهوا محاسنه، و صاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية، و لا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، و قد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين. بحال جماعة أوقدوا نارا؛ لينتفعوا بها في جلب خير، أو دفع ضرّ، فلمّا أضاءت ما حولهم من الأشياء و الأماكن جاءها عارض خفيّ، أو أمر سماوي، كمطر شديد، أو ريح عاصف، جرفها و بدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنّى لهم الإبصار بحال.
ثمّ جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمي الذين فقدوا هذه المشاعر و الحواسّ، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنّهم فقدوها، فما فائدة السمع إلّا الإصاخة إلى نصح الناصح و هدى الواعظ، و ما منفعة اللسان إلّا الاسترشاد بالقول، و طلب الدليل و البرهان؛ لتتجلّى المعقولات و تتضح المشكلات، و ما مزية البصر إلّا النظر و الاعتبار؛ لزيادة الهدى و الاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنّه فقدها، و أنّى لمثله أن يخرج من ضلالة أو يرجع إلى هدى.
ثمّ أراد سبحانه أن ينتقل إلى أسلوب آخر من الأمثال، فقال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
فضرب «1» سبحانه في هذه الآيات مثلا آخر، يشرح به حال المنافقين، و يبيّن فظاعة أعمالهم و سوء أفعالهم؛ زيادة في التنكيل بهم و هتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، و مرضا في الأمم، فجعل حالهم، و قد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء، فأصابهم القلق و الاضطراب، و اعترضتهم ظلمات الشبه و التقاليد، و الخوف من ذمّ الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثمّ استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، و تلوح لهم الآيات البيّنة و الحجج القيّمة، فيعزمون على اتباع الحقّ، و تسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، و لكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد و ظلمة الشبهات، فتقيد
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 161
الفكر و إن لم توقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة، كحال قوم في إحدى الفلوات، نزل بهم بعد ظلام الليل صيّب من السماء فيه رعود قاصفة، و بروق لامعة، و صواعق متساقطة، فتولّاهم الدهش و الرعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلّما قصف هزيم الرعد؛ ليسدّوا منافذ السمع لما يحذرونه من الموت الزؤام، و يخافونه من نزول الحمام، و لكن هل ينجي حذر من قدر؟ تعددت الأسباب و الموت واحد! بلى إنّ اللّه قدير أن يذهب الأسماع و الأبصار التي كانت وسيلة الدهش و الخوف، و لكن لحكمة غاب عنّا سرّها، و مصلحة لا تعرف كنهها، لم يشأ ذلك و هو الحكيم الخبير.
أسباب النزول
قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الآيات، نزلت «1» هذه الآيات في المنافقين: عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، و معتّب بن قثير، و جدّ بن قيس، و أصحابهم. و ذلك أنّهم أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا بها من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه، و أسرّوا الكفر و اعتقدوه، و أكثرهم من اليهود.
قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية، سبب نزوله: ما أخرجه الواحدي، و الثعلبيّ من طريق محمد بن مروان السدّي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما-: (نزلت «2» هذه الآية في عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه، و ذلك أنّهم خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال عبد اللّه بن أبيّ: أنظروا كيف أردّ عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصّدّيق سيد بني تيم، و شيخ الإسلام، و ثاني رسول اللّه في الغار، الباذل نفسه و ماله لرسول اللّه، ثمّ أخذ بيد عمر، فقال:
مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب، الفاروق القوي في دين اللّه، الباذل نفسه و ماله لرسول اللّه، ثمّ أخذ بيد عليّ، فقال: مرحبا بابن عمّ رسول اللّه و ختنه سيد بني
(1) الخازن.
(2) لباب النقول.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 162
هاشم ما خلا رسول اللّه. ثمّ افترقوا، فقال عبد اللّه لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرا. فرجع المسلمون إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية). و لكن هذا الإسناد واه جدا، فإنّ السدي الصغير كذّاب، و كذا الكلبي، و أبو صالح ضعيف.
قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ... الآية، سبب نزوله: ما أخرجه «1» ابن جرير من طريق السدي الكبير، عن أبي مالك، و أبي صالح، عن ابن عباس و عن مرّة، عن ابن مسعود، و ناس من الصحابة قالوا: (كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر اللّه فيه رعد شديد، و صواعق، و برق، كلّما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما؛ من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما، فتقتلهما.
و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه، و إذا لم يلمع لم يبصرا، فأتيا مكانهما يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يده، فأتياه فأسلما، و وضعا أيديهما في يده، و حسن إسلامهما). فضرب اللّه شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة، و كان المنافقون إذا حضروا مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم؛ فرقا من كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان كذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما.
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ؛ أي: فإذا كثرت أموالهم و ولدهم، و أصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيها، و قالوا حينئذ: إنّ دين محمد صدق، و استقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق، و إذا أظلم عليهم قاموا، و كانوا إذا هلكت أموالهم و أولادهم، و أصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل محمد، و ارتدّوا كفارا، كما قال ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
و في «الصاوي»: و المراد من المنافقين هنا: بعض سكان البوادي؛ و بعض
(1) لباب النقول.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 163
أهل المدينة في زمنه صلّى اللّه عليه و سلّم. و خير ما فسّرته بالوارد، قال تعالى: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ... الآية. و أخّرهم عن المؤمنين و الكافرين ظاهرا و باطنا؛ إشارة إلى أنّهم أسوأ حالا من الكفار.
التفسير و أوجه القراءة
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ؛ أي: و بعض «1» الناس يقولون بألسنتهم: آمَنَّا بِاللَّهِ ؛ أي: صدّقنا بوحدانية اللّه تعالى. وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: صدّقنا بمجيء اليوم الآخر بما فيه من البعث، و الحشر و الجزاء، و بجميع ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من الآيات البينات. و في تكرير الباء؛ ادّعاء الإيمان بكلّ واحد على الأصالة و الاستحكام، ذكره البيضاوي. و في «العمدة»: و أعاد الجار؛ لإفادة تأكيد دعواهم الإيمان بكلّ ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. فردّ اللّه سبحانه عليهم بأبلغ ردّ بقوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حيث أتى بالجملة الاسمية، و زاد الجار في الخبر. أي: يقولون ذلك و الحال أنّهم غير مصدّقين بما ذكر؛ لأنّهم يقولون ذلك قولا لسانيّا دون اعتقاد، و كلاما خداعيا دون تصديق. و المراد باليوم الآخر: يوم القيامة، سمّي بذلك؛ لأنّه يأتي بعد الدنيا، و هو آخر الأيام المحدودة المعدودة، و ما بعده فلا حدّ له و لا آخر.
قوله: وَ مِنَ النَّاسِ لمّا افتتح اللّه سبحانه و تعالى «2» كتابه بشرح حاله، و ساق لبيانه ذكر الذين أخلصوا دينهم للّه، و واطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، و ثنّى بأضدادهم الذين محّضوا الكفر ظاهرا، و باطنا. ثلّث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، و هم الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم، و هم أي المنافقون أخبث الكفرة و أبغضهم إلى اللّه؛ لأنّهم موّهوا الكفر، و خلطوا به خداعا و استهزاء، و لذلك طوّل في بيان خبثهم.
(1) العمدة.
(2) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 164
قال الفاشانيّ: الاقتصار في وصف الكفار المصرّين المطبوع على قلوبهم على آيتين، و الإطناب في وصف المنافقين في ثلاث عشرة آية للإضراب عن أولئك صفحا، إذ لا ينجع فيهم الكلام، و لا يجدي عليهم الخطاب. و أمّا المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ و التعيير، و عسى أن يرتدعوا بالتشنيع عليهم، و تفظيع شأنهم و سيرتهم، و تهجير عادتهم، و خبث نيتهم و سريرتهم، و ينتهوا بقبح صورة حالهم، و تفضيحهم بالتمثيل بهم و بطريقتهم فتلين قلوبهم، و تنقاد نفوسهم، و تزّكّى بواطنهم، و تضمحل رذائلهم، فيرجعون عما هم عليه، و يصيرون من المستثنى في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146).
و النّاس «1» : اسم جمع للناسي، سمّي به؛ لأنّه عهد إليه فنسي. قال تعالى:
وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ، و لذلك جاء في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي: نسّاء للنعم، ذكّار للمحن. و قيل: سمي به؛ لظهوره من آنس؛ أي: أبصر؛ لأنّهم ظاهرون مبصرون، و لذلك سمّوا بشرا، كما سمّي الجنّ جنا؛ لاجتنانهم؛ أي: استتارهم عن أعين الناس. و قيل: هو من الأنس الذي هو ضدّ الوحشة؛ لأنّهم يستأنسون بأمثالهم، أو يستأنس أرواحهم بأبدانهم، و أبدانهم بأرواحهم. و اللام فيه للجنس. و مِنَ في قوله: مَنْ يَقُولُ نكرة موصوفة، إذ لا عهد، فكأنّه قال: و من الناس ناس يقولون؛ أي: يقرّون باللسان. و القول: هو التلفظ بما يفيد، و يأتي بمعنى المقول. و للمعنى المحصور في النفس المعبّر عنه باللفظ و للرأي، و للمذهب مجازا. و وحّد الضمير في يَقُولُ باعتبار لفظ مِنَ ، و جمعه في قوله: آمَنَّا ، و قوله: وَ ما هُمْ باعتبار معناها؛ لأنّ كلمة مِنَ تصلح للواحد و الجمع، أو اللام فيه للعهد، و المعهود: هم الذين كفروا. و مِنَ موصولة مراد بها: عبد اللّه بن أبي بن سلول و أصحابه، و نظراؤه من المنافقين، حيث أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا من
(1) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 165
النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه، و اعتقدوا خلافها، و أكثرهم من اليهود، كما مرّ. فإنّهم من حيث إنهم صمّموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم.
و اختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإنّ الأجناس إنما تتنوّع بزيادات يختلف فيها أبعاضها. فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني.
آمَنَّا بِاللَّهِ أي: صدّقنا باللّه. وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ و هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى؛ أي: الوقت الدائم الذي هو آخر الأوقات المنقضية، و المراد به:
البعث، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار؛ لأنّه آخر الأيام المحدودة، إذ لا حدّ وراءه، و سمّي بالآخر؛ لتأخّره عن الدنيا.
و تخصيصهم للإيمان بهما بالذكر له؛ ادّعاء أنّهم قد حازوا الإيمان من قطريه، و أحاطوا به من جانبيه، و إيذان بأنّهم منافقون فيما يظنّون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق؛ لأنّ القوم كانوا يهودا، و كانوا يؤمنون باللّه و اليوم الآخر إيمانا كلا إيمان؛ لاعتقادهم التشبيه، و اتخاذ الولد، و أنّ الجنة لا يدخلها غيرهم، و أنّ النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة، و غيرها، و يرون المؤمنين أنّهم آمنوا مثل إيمانهم. و حكاية اللّه سبحانه عبارتهم؛ لبيان كمال خبثهم، فإنّ ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع و النفاق، و عقيدتهم عقيدتهم الأولى، لم يكن ذلك إيمانا، فكيف و هم يقولونه تمويها على المسلمين و استهزاء بهم، فكان خبثا إلى خبث، و كفرا إلى كفر.
وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أي: و ما هم «1» بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين، الذين يشعرون بعظيم سلطان اللّه، و يعلمون أنّه مطلع على سرّهم و نجواهم، إذ كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات ظنا منهم أنّ ذلك يرضي ربّهم، ثمّ هم بعد ذلك منغمسون في الشرور و المآثم من كذب، و غشّ، و خيانة، و طمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم، و نقله الرواة أجمعون.
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 166
و ما نافية «1» بمعنى ليس، و لهذا عقّب بالباء؛ أي: ليسوا بمصدّقين؛ لأنّهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون. و في الحكم عليهم بأنّهم ليسوا بمؤمنين، نفي ما ادّعوه على سبيل البت و القطع؛ لأنّه نفي أصل الإيمان منهم بإدخال الباء في خبر ما ، و لذا لم يقل: و ما هم من المؤمنين، فإنّ الأول أبلغ من الثاني.
دلّت الآية: على أنّ الدعوى مردودة، إذا لم يقم عليها دلائل الصحة. قال بعضهم: من تحلّى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدّعيه، فإنّ من مدح نفسه ذمّ، و من ذمّ نفسه مدح، قال فرعون عليه لعنة اللّه: وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقيل فيه:
وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، و قال يونس- عليه السلام-: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فقيل له: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ .
و قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: ما لهم يقولون ذلك و هم غير مؤمنين؟ فقيل: يخادعون اللّه الخ. أي:
يخدعون اللّه سبحانه و تعالى، و إنما أخرج على زنة فاعل؛ للمبالغة، فليست المفاعلة على بابها، و خداعهم مع اللّه ليس على ظاهره؛ لأنّه لا تخفى عليه خافية؛ و لأنّهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم فيكون الكلام على حذف مضاف، كقوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ ؛ أي: يخادعون رسول اللّه و يغرّونه بما أظهروا من الإسلام، أو على أنّ معاملة الرسول معاملة اللّه، من حيث إنه خليفته في أرضه، و الناطق عنه بأوامره و نواهيه مع عباده. ففيه رفع درجة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حيث جعل خداعه خداعه.
و الخدع على ما ذكرنا من جانب المنافقين للّه و للمؤمنين، و التعبير بصيغة المخادعة؛ للدلالة على المبالغة في حصول الفعل، و هو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال: مارست الشيء و زاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدّقها بواطنهم، و هذا لا يكون إلّا من