کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 284
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ كيف: للسؤال عن الأحوال، و المراد هنا: الأحوال التي يقع عليها الكفر من العسر و اليسر، و السفر و الإقامة، و الكبر و الصغر، و العز و الذل، و غير ذلك، و الاستفهام هنا: للتوبيخ و الإنكار، فكأنه قال: لا ينبغي أن توجد فيكم تلك الصفات التي يقع عليها الكفر، فلا ينبغي أن يصدر منكم الكفر في كل حال من تلك الأحوال فَأَحْياكُمْ أصله: أحيي بوزن أفعل، عينه و لامه حرفا علّة، تحركت الياء الأخيرة و فتح ما قبلها فقلبت ألفا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ مضارع أمات الرباعي و أصله: يموتكم بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أصله: يحييكم بوزن يفعل، استثقلت الضمة على الياء الأخيرة فحذفت، فلما سكنت إثر كسرة صارت حرف مد ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أصله استوي بوزن افتعل، تحركت الياء و انفتح ما قبلها فقلبت ألفا فَسَوَّاهُنَ أصله: سوّي بوزن فعّل المضعف، قلبت ياؤه ألفا؛ لتحركها بعد فتح.
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، و أنواعا من الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: ذكر عنوان الربوبية في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ مع إضافته إلى المخاطبين؛ للتفخيم و التعظيم.
و منها: المقابلة اللطيفة في قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً فقد قابل بين الأرض و السماء، و الفراش و البناء.
و منها: الإضافة للتشريف في قوله: عَلى عَبْدِنا ؛ لأنه أشرف أسمائه صلّى اللّه عليه و سلّم.
و منها: الالتفات من الغيبة في قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً الخ.
إلى التكلم في قوله: مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا لما فيه من التفخيم للمنزّل و المنزل عليه، ما لا يؤدّيه ضمير غائب لو قال مما نزل على عبده، لا سيما كونه أتى ب (نا) المشعرة بالتعظيم التام، و تفخيم الأمر، و نظيره وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا .
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 285
و منها: التعجيز في قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ ؛ لأن الأمر هنا، خرج مخرج التعجيز.
و منها: تنكير السورة؛ لإرادة العموم و الشمول.
و منها: الجملة الاعتراضية في قوله: وَ لَنْ تَفْعَلُوا ؛ لبيان التحدي في الماضي و المستقبل، و بيان العجز التام في جميع العصور و الأزمان، و من أمثلة الاعتراض، قول عوف بن محلّم الخزاعيّ:
إنّ الثمانين قد بلّغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله و بلغتها: اعتراض بين اسم إن و خبرها، و فائدتها: الدعاء للمخاطب، بأن يمتد عمره إلى الثمانين، مع التنصل عن مسؤولية عدم السمع؛ بسبب كبر السن و وقر السمع.
و منها: إيجاز القصر في قوله: فَاتَّقُوا النَّارَ و الإيجاز: هو جمع المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل، مع الإبانة و الإفصاح؛ لأن المعنى: فإن عجزتم عن الإتيان بما ذكر في الحال، و المستقبل، و الماضي، فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن.
و منها: المجاز المرسل في قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ و العلاقة المحلية، هذا إذا كان النهر مجرى الماء، كما قال بعض علماء اللغة، أما إذا كان بمعنى الماء في المجرى، فلا مجاز فيه.
و منها: التشبيه البليغ في قوله: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ و سمي بليغا؛ لأنّ أداة التشبيه فيه محذوفة، فساوى طرفا التشبيه في المرتبة.
و منها: وصف الأزواج بمطهرة في قوله: وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ و لم يقل: طاهرة أو متطهرة؛ للإشعار بأنّ لهن مطهّرا طهرهن، و ما هو إلا اللّه سبحانه و تعالى.
و منها: المجاز المرسل في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي من باب إطلاق الملزوم و إرادة اللازم. المعنى: إن اللّه لا يترك أن يبين مثلا، فعبّر بالحياء عن الترك؛ لأنّ الترك من ثمرات الحياء، و من استحيا من فعل شيء تركه، كما أفاده الزمخشري.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 286
و منها: الإشارة بهذا في قوله: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا تحقيرا للمشار إليه و استرذالا له.
و منها: زيادة ما في قوله: مَثَلًا ما بَعُوضَةً لتأكيد خسة الممثّل به و هو البعوض، و غيره، و المراد بقولنا: زيادة ما؛ لتأكيد الخسة رفع ما يقال، إن القرآن مصون عن الحشو و الزائد حشو. و عبارة ابن السبكي: و لا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب و السنة، خلافا للحشوية، و محصل جوابه: أنّ زيادتها لفائدة، و هي التأكيد، فليست حشوا محضا. و عبارة البيضاوي: و لا نعني بالمزيد اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدى و بيان، بل مرادنا بالمزيد، هو الذي لم يوضع لمعنى يراد منه، و إنما وضع ليذكر مع غيره فيفيد الكلام وثاقة و قوّة، و هو زيادة في الهدى غير قادح فيه. انتهت. أفاده في «الفتوحات».
و منها: الاستعارة المكنية في قوله: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ حيث شبه العهد بالحبل، و حذف المشبه به و رمز إليه بشيء من لوازمه و هو النقض، على سبيل الاستعارة المكنية، لأنه إحدى حالتي الحبل، و هما النقض و الإبرام.
و منها: الإلتفات من الغيبة في قوله: وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا الخ. إلى الخطاب في قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ لغرض التوبيخ، و التقريع، و التعجيب.
و منها: الطباق بين قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً و قوله: وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً ، و بين يَقْطَعُونَ و يُوصَلَ .
و منها: تقديم الإضلال فيهما على الهداية، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب، أمرا فظيعا يسوؤهم و يفتت أكبادهم.
و منها: إيثار صيغة الاستقبال فيهما؛ إيذانا بالتجدد و الاستمرار. اه. «أبو السعود».
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع.
و اللّه أعلم
***
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 287
قال اللّه سبحانه جلا و علا:
[سورة البقرة (2): الآيات 30 الى 39]
المناسبة
قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها «1» : أن اللّه سبحانه و تعالى، لما امتنّ على العباد بنعمة الخلق و الإيجاد، و أنه سخرّ لهم ما في الأرض جميعا، أتبع ذلك بذكر بدء خلقهم، و امتنّ عليهم بتشريف أبيهم و تكريمه، بجعله خليفة في الأرض، و إسكانه دار الكرامة، و أمر الملائكة بالسجود له؛ تعظيما لشأنه، و لا شك أن الإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع، و النعمة على الآباء نعمة على الأبناء.
فائدة: و الحكمة في إخبار اللّه تعالى للملائكة، عن خلق آدم و استخلافه في الأرض؛ تعليم لعباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها.
(1) العمدة.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 288
و قول الملائكة: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ... الآية. ليس «1» اعتراضا على اللّه، و لا حسدا لبني آدم؛ و إنما هو سؤال استعلام و استكشاف عن الحكمة في ذلك. يقولون: ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض؟
و إنما «2» علمت الملائكة أن بني آدم يفسدون في الأرض، بإعلام اللّه إياهم ذلك، و قيل: كان في الأرض جنّ فأفسدوا فيها، فبعث اللّه إليهم ملائكة فقتلوهم، فقاست الملائكة بني آدم عليهم. و روى «3» الضحاك عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما- قال:
أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها، و سفكوا فيها الدماء؛ و قتل بعضهم بعضا، قال: فبعث اللّه عليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس و من معه حتى ألحقهم بجزائر البحور و أطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال:
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فعلى هذا القول المعنى: إني جاعل في الأرض خليفة من الجن يخلفونهم فيها، فيسكنونها و يعمرونها. انتهى. ابن جرير.
و في «المراح» روى الضحاك عن ابن عباس: أنه تعالى إنما «4» قال هذا القول، للملائكة الذين كانوا في الأرض محاربين مع إبليس، لأن اللّه تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها، و سفكوا الدماء، و قتل بعضهم بعضا، بعث اللّه إبليس مع جند من الملائكة، فقتلهم إبليس مع عسكره حتى أخرجوهم من الأرض، و ألحقوهم بجزائر البحر، و هؤلاء خزّان الجنان، أنزلهم اللّه تعالى من السماء إلى الأرض؛ لطرد الجن إلى الجزائر و الجبال، و سكنوا الأرض، فخفف اللّه عنهم العبادة، و كان إبليس يعبد اللّه، تارة في الأرض، و تارة في السماء، و تارة في الجنة، فدخله العجب، فقال في نفسه: ما أعطاني اللّه هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه، فقال تعالى له و لجنده هذا الكلام.
قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الآيات، مناسبتها لما قبلها:
(1) ابن كثير.
(2) شهيل.
(3) ابن جرير.
(4) المراح.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 289
لما ذكر اللّه سبحانه و تعالى في الآيات السابقة، تخصيص آدم بالخلافة في الأرض، و بعلم ما لم تعلمه الملائكة، ذكر هنا نوعا من التكريم أكرمه اللّه تعالى به، و هو أمر الملائكة بالسجود له، و هو أعلى وجوه التكريم و التشريف لهذا لنوع الإنساني.
قوله تعالى: وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها:
أن اللّه سبحانه و تعالى، لما شرف آدم برتبة العلم بإسجاد الملائكة له، امتّن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم و أباح له جميع ما فيها إلا الشجرة، على ما سيأتي فيها إن شاء اللّه تعالى. ذكره في «البحر».
التفسير و أوجه القراءة
وَ إِذْ مفعول اذكر مقدرا؛ أي: و اذكر يا محمد لأمتك و أخبرهم إذ قالَ رَبُّكَ ؛ أي: قصة ذلك الوقت، و توجيه «1» الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث، مع أنها المقصودة بالذات؛ للمبالغة في إيجاب ذكرها؛ لما أن إيجاب ذكر الوقت، إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني؛ و لأن الوقت مشتمل عليها، فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها، كأنّها مشاهدة عيانا، و اللام في قوله: لِلْمَلائِكَةِ للتبليغ و تقديم الجار و المجرور في هذا الباب مطرد؛ لما في المقول من الطول غالبا مع ما فيه من الاهتمام بما قدم و التشويق إلى ما أخر، و الملائكة «2» : جمع ملك بوزن فعل، قاله ابن كيسان، و قيل: جمع ملأك بوزن مفعل، قاله أبو عبيدة من لأك إذا أرسل، و الألوكة: الرسالة، قال لبيد:
و غلام أرسلته أمّه
بألوك فبذلنا ما سأل
و قال عديّ بن زيد:
(1) روح البيان.
(2) الشوكاني.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 290
أبلغ النّعمان عنّي مألكا
أنّه قد طال حبسي و انتظار
و يقال: ألكني؛ أي: أرسلني، و قال النضر بن شميل: لا اشتقاق لملك عند العرب، و الهاء في الملائكة؛ لتأكيد تأنيث الجمع، و مثله: الصلادمة و الصلادم: الخيل الشداد واحدها صلدم، و قيل: هي للمبالغة، كعلّامة، و نسابة و سموا «1» بها؛ لأنهم وسائط بين اللّه و بين الناس فهم رسله؛ لأنّ أصل ملك:
ملأك مقلوب مألك من الألوكة و هي الرسالة، كما مرّ آنفا، و الملائكة عند أكثر المسلمين: أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة. و الدليل: أن الرسل كانوا يرونهم كذلك، و روي في بيان كثرتهم: أن بني آدم عشر الجن، و هما عشر حيوانات البر، و الكل عشر الطيور، و الكل عشر حيوانات البحار، و هؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، و كل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية، و هكذا إلى السماء السابعة، ثم كل أولئك في مقابلة الكرسي نزر قليل، ثم جميع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش، التي عددها ستمائة ألف، طول كل سرادق، و عرضه، و سمكه، إذا قوبلت به السموات و الأرض و ما فيهما، و ما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس، و ما منه من مقدار شبر إلا و فيه ملك ساجد، أو راكع، أو قائم، لهم زجل بالتسبيح و التقديس، ثمّ كلّ هؤلاء في مقابلة الذين يحومون حول العرش، كالقطرة في البحر، ثم ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام، و الملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام، لا يحصى أجناسهم، و لا مدة أعمارهم، و لا كيفيات عباداتهم إلا باريهم العليم الخبير، على ما قاله سبحانه و تعالى: وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ و أراد بهم هنا الملائكة الذين كانوا في الأرض، و ذلك أن اللّه خلق السماء و الأرض، و خلق الملائكة و الجن، فأسكن الملائكة في السماء، و أسكن الجن في الأرض، و الجن هم بنو الجان، و الجان: أبو الجن، كآدم أبو البشر، و خلق اللّه الجان من لهب من نار، لا دخان لها بين السماء و الأرض، و الصواعق تنزل منها، ثم لما سكنوا فيها كثر نسلهم، و ذلك قبل آدم بستين ألف سنة، فعمروا دهرا طويلا في