کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 16
الأول و زوجه الكريم- آدم و حواء- فزين لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما اللّه عن الأكل منها كما قال: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ و هكذا يوسوس شياطين الإنس و الجن لمن يجترحون السيئات و يرتكبون المعاصي، فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة و التمتع بالحرية، و يمنونهم بعفو اللّه و رحمته، و شفاعة أنبيائه و أوليائه حتى ليترنم أحدهم بقوله:
تكثّر ما استطعت من الخطايا
فإنك واجد ربا غفورا
وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ؛ أي: و لو شاء ربك أن لا يفعلوا هذا الغرور .. ما فعلوا، و لكنه لم يشأ أن يغير خلقهم أو يجبرهم على خلاف ما تزينه لهم أهواؤهم، بل شاء أن يكون الإنس و الجن على استعداد لقبول الحق و الباطل و الخير و الشر، و أن يكونوا مختارين سلوك أي الطريقين كما قال: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) .
فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ من الكذب و يخترعون من الإفك صرفا للناس عن سبيل الحق، و سعيا في إضلالهم و صدهم عن طريق الرشاد، و امض لشأنك كما أمرت، فعليك البلاغ و علينا الحساب و الجزاء، و سترى سنتنا فيهم و في أمثالهم، و قد أراه عاقبة أمرهم، فأهلك المستهزئين بالقرآن، و نصره على أعدائه المشركين: وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ انتهت.
و اللام في قوله: وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لام كي معطوفة على مقدر معلوم من السياق على كونها علة ليوحي؛ أي: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المموه من القول؛ ليغروا به المؤمنين من أتباع الأنبياء، فيفتنوهم عن دينهم وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ ؛ أي: و لكي تميل إلى هذا المزخرف أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ؛ أي: قلوب الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت؛ لأنه الموافق لأهوائهم؛ إذ هم يميلون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل و مموهات الأباطيل، أما الذين ينظرون إلى عواقب الأمور، فيعلمون بطلانها، فلا تغرهم تلك الزخارف، و لا تعجبهم تلك الأباطيل.
وَ لِيَرْضَوْهُ ؛ أي: و ليرضى الذين لا يؤمنون بالآخرة ذلك المزخرف لأنفسهم و يحبوه لهم بعد الإصغاء إليه بلا بحث و لا تمحيص فيه. وَ لِيَقْتَرِفُوا ؛ أي:
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 17
و ليكتسبوا بسبب ارتضائهم له و غرورهم ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ ؛ أي: ما هم مكتسبون له من الآثام، فيعاقبوا عليها.
و قرأ النخعي و الجراح بن عبد اللّه «1» : و لتصغي- بكسر الغين- من أصغى الرباعي. و قرأ الحسن بسكون اللام في الأفعال الثلاثة، و قيل عنه بالسكون في: لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا و بالكسر في: وَ لِتَصْغى . و قال أبو عمرو الداني: قراءة الحسن إنما هي: و لتصغي- بكسر الغين- انتهى. و خرّج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي، و هي لام كي في الثلاثة، و هي معطوفة على غُرُوراً ، و سكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس. قاله أبو الفتح. و قال غيره: هي لام الأمر في الثلاثة، و يبعد ذلك في و لتصغي- بإثبات الياء- و إن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام كما في قراءة قنبل: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ على أنه يحتمل التأويل. و قيل هي في وَ لِتَصْغى لام كي سكنت شذوذا، و في: لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا لام الأمر مضمنا التهديد و الوعيد كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ .
و الاستفهام في قوله: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ للإنكار، و الفاء عاطفة على فعل مقدر، و الكلام على إرادة القول، و التقدر: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أ أضل و أميل إلى زخارف الشياطين ف أَبْتَغِي و أطلب حَكَماً ؛ أي: حاكما (غير الله) يحكم بيني و بينكم وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ ؛ أي: و الحال أنه سبحانه و تعالى هو الذي أنزل إليكم القرآن، و أنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون و ما تذرون حالة كون ذلك الكتاب مُفَصَّلًا ؛ أي: مبينا فيه الحق و الباطل، فلم يبق في أمور الدين شيء من الإبهام، فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم؛ أي: لا أبتغي حكما غير اللّه نزلت حين قال مشركوا قريش للرسول صلى اللّه عليه و سلم: اجعل بيننا و بينك حكما من أحبار اليهود، و إن شئت من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، و الحكم «2» و الحاكم معناهما عند أهل اللغة واحد، لكن بعض
(1) البحر المحيط.
(2) المراح.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 18
أهل التأويل قال: الحكم أكمل من الحاكم؛ لأن الحكم لا يحكم إلا بالحق، و الحاكم قد يجور، و لأن الحكم من تكرر منه الحكم، و الحاكم يصدق بمرة.
و المعنى: ليس «1» لي أن أتعدى حكم اللّه تعالى، و لا أن أتجاوزه؛ لأنه لا حكم أعدل من حكمه، و لا قائل أصدق منه، و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فيه كل ما يصح به الحكم، و إنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد و الشرائع و غيرهما على لسان رجل منكم أمي مثلكم .. هو أكبر دليل و أظهر آية على أنه من عند اللّه لا من عنده، كما جاء في قوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ ؛ أي: جاوزت الأربعين، و لم يصدر عني مثله في علومه، و لا في إخباره الغيب، و لا في فصاحته و بلاغته.
و الخلاصة:
أنكم تتحكمون في طلب المعجزات؛ لأن الدليل على نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم قد حصل بوجهين:
1- أنه أنزل إليكم الكتاب المفصل المشتمل على علوم كثيرة بأسلوب عجز الخلق عن معارضته، فيكون هذا دليلا على أن اللّه تعالى قد حكم بنبوته.
2- ما سيذكره بعد من أن التوراة و الإنجيل تشتملان على الآيات الدالة على أنه صلى اللّه عليه و سلم حق، و أن القرآن كتاب حق من عند اللّه تعالى، ثم ذكر ما يؤكد ما سبق، فقال: وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ؛ أي: و أهل الكتاب الذين أعطيناهم التوراة و الإنجيل و الزبور يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ؛ أي: أن هذا القرآن مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ حالة كونه متلبسا بِالْحَقِ و الصدق الذي لا شك فيه و لا شبهة، و المراد بهم علماء أهل الكتاب، فهو عام بمعنى الخصوص.
قرأ ابن عباس و ابن عامر و حفص «2» : مُنَزَّلٌ - بتشديد الزاي- و الباقون بسكون النون. فَلا تَكُونَنَ يا محمد، أو أيها المخاطب مِنَ الْمُمْتَرِينَ ؛ أي:
من الشاكين في أن علماء أهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن حق، و أنه منزل من
(1) المراغي.
(2) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 19
عند اللّه- سبحانه و تعالى، و لا يريبك جحود أكثرهم و كفرهم؛ أي: إن أنكر هؤلاء المشركون أن يكون القرآن حقا، و كذبوا به .. فالذين أعطيناهم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود و النصارى .. يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحي الذي نزل على أنبيائهم، و أن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله مع أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم في عصر التنزيل، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ . و قد اعترف بذلك من أنار اللّه بصيرتهم من أهل الكتاب، فآمنوا و أنكر بعضهم الحق و كتمه بغيا و حسدا، فباء بالخسران المبين.
و الخطاب في قوله «1» : فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ إما للنبي صلى اللّه عليه و سلم، و المراد به غيره على سبيل التعريض كقوله: وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و إما له صلى اللّه عليه و سلم، و المراد النهي له عن الشك في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فهو من باب التهييج و الإلهاب؛ لأنه صلى اللّه عليه و سلم لم يشك قط، أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ .
وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لما «2» قدم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد و النبوة و البعث، و الطعن على مخالفي ذلك، و كان من هنا إلى آخر السورة أحكام و قصص .. ناسب ذكر هذه الآيات هنا؛ أي: تمت أقضيته و نفذت أقداره. قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما.
و المعنى:
إن اللّه قد أتم وعده و وعيده، فظهر الحق و انطمس الباطل. و قال قتادة: كلماته القرآن؛ أي: تم وعده لأوليائه بنصرهم، و وعيده لأعدائه بخذلانهم. و قال الزمخشري: في كل ما أخبره به، و أمر و نهى، و وعد و أوعد.
و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و نافع «3» : كلمات بالجمع هنا، و في يونس في الموضعين، و في المؤمن. و قرأ عاصم و حمزة و الكسائي و يعقوب:
(1) المراغي.
(2) البحر المحيط.
(3) زاد المسير.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 20
كَلِمَةُ بالإفراد في جميع ذلك. و قد ذكرت العرب الكلمة و أرادت بها الكثرة، يقولون: قال قس في كلمته؛ أي: في خطبته، و زهير في كلمته؛ أي: في قصيدته. فمن قرأ بالإفراد .. قال: الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة، و من قرأ بالجمع .. قال: لأن اللّه تعالى قال في سياق الآية: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ، فوجب الجمع في اللفظ الأول إتباعا للثاني، و ترسم بالتاء المجرورة على كل من قراءة الجمع و قراءة الإفراد، و كذا كل موضع اختلف فيه القراء جمعا و إفرادا، فإنه يكتب بالتاء المجرورة على كل من القراءتين باتفاق المصاحف إلا موضعين من ذلك، فقد اختلف فيهما المصاحف:
أحدهما: في يونس في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ .
و ثانيهما: في غافر في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فاختلفت فيهما المصاحف، فبعضها بالتاء المجرورة، و بعضها بالتاء المربوطة.
و قوله: صِدْقاً وَ عَدْلًا تمييز ل كَلِمَةُ ؛ أي: تمت كلمات ربك و أقضيته من جهة الصدق فيما وعد و أوعد، و من جهة العدل فيما أمر و نهى، أو المعنى:
تمت كلمات ربك و قرآنه من جهة الصدق فيما أخبر عن القرون الماضية و الأمم الخالية، و عما هو كائن إلى قيام الساعة، و من جهة العدل في أحكامه من الأمر و النهي و الحلال و الحرام، و سائر الأحكام. و يصح كون صِدْقاً وَ عَدْلًا حالا من (الكلمة)؛ أي: حالة كونها صادقة فيما أخبرت، و عادلة فيما أمرت و نهت، و يصح كونهما حالا من رَبِّكَ ؛ أي: حالة كونه صادقا فيما وعد و أوعد، و عادلا فيما أمر و نهى. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ؛ أي: لا مغير لأقضيته، و لا راد لأحكامه و أقداره، و لا خلف لمواعيده، أو لا مبدل لكلمات القرآن، فلا يلحقها تغيير لا في المعنى و لا في اللفظ؛ أي: لا أحد يبدل شيئا من القرآن بما هو أصدق منه و أعدل، و لا بما هو مثله، و لا يقدر المفترون على الزيادة فيه و النقصان منه لا في اللفظ و لا في المعنى، و في هذا ضمان من اللّه تعالى لحفظ القرآن كقوله: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ . و في «الخازن» لما وصفها بالتمام، و هو في
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 21
كلامه تعالى يقتضي عدم قبول النقص و التغيير، قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ انتهى.
و في حرف أبي: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ .
و معنى الآية: و تمت «1» كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك، و أوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان و الهلاك، كما تمت في الرسل و أعدائهم من قبلك كما قال تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) و تمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به، و تمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، و للمؤمنين بما يستحقون أيضا، و قد يزادون على ذلك فضلا من اللّه و رحمة، و المراد بالخبر لازمه، و هو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي صلى اللّه عليه و سلم على كفر هؤلاء المعاندين و إيذائهم له و لأصحابه، و إيئاس للطامعين من المسلمين في إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة.
و خلاصة المعنى:
كما أنّ سنتي قد مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس و الجن .. تمت كلمتي بنصر المسلمين و خذلان الأعداء المفسدين لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ؛ أي: إن كلمة اللّه في نصرك و خذلان أعدائك قد تمت و أصبحت واقعة نافذة حتما لا مرد لها؛ لأن كلمات اللّه لا مبدل لها، و لا يستطيع أحد من خلقه أن يزيلها بكلمات أخرى تخالفها، و تمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا، أو الوعيد وعدا، أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو المتوعّد بالعقاب إلى غيرهما، أو يحول دون وقوعهما.
و الخلاصة: أنه لا مغير لما أخبر عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيؤه، و كونه على ما أخبر جلّ شأنه وَ هُوَ سبحانه و تعالى السَّمِيعُ لتلك الأقوال الخادعة عنه الْعَلِيمُ بما في قلوبهم من المقاصد و المكايد، و النيات، و بما يقترفون من الذنوب و السيئات، فيجازيهم عليها، أو المعنى: السميع لتضرع أوليائه و لقول أعدائه، العليم بما في قلوب الفريقين.
وَ إِنْ تُطِعْ ؛ أي: و إن توافق يا محمد أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ؛ أي:
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 22
الكفار من الناس فيما يعتقدونه من إحقاق الباطل، و إبطال الحق. قيل: و المراد بأكثر أهل الأرض رؤساء مكة، و المراد بالأرض خصوص مكة. يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ أي: يصرفوك عن الطريق الموصول إلى اللّه؛ أي: و إن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه اللّه و أودعه في كلماته المنزلة عليك يضلوك عن الدين الحق، و عن نهج الصواب، فلا تتبع أنت و من اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا، فهو الهداية التامة الكاملة، فادع إليه الناس كافة، ثم أكد ما سبق بقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ ؛ أي: ما يتبع كفار أهل الأرض في إثبات مذهبهم، و تأسيس عقائدهم كتحليل الميتة و تحريم السائبة إِلَّا الظَّنَ ؛ أي: إلا ظن أن آباءهم كانوا على الحق، فهم على آثارهم مقتدون وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ؛ أي: و ما هم إلا يكذبون، و هذا تأكيد لما قبله، فإن رؤساء أهل مكة منهم أبو الأحوص مالك بن عوف الجشمي، و بديل بن ورقاء الخزاعي، و جليس بن ورقاء الخزاعي قالوا للمؤمنين: إن ما ذبح اللّه خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم؛ أي: أن هؤلاء لا يتبعون في عقائدهم و أعمالهم إلا الظن الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم و ما هم إلا يخرصون في ترجيح بعض منها على بعض كما يخرص أرباب النخيل و الكروم ثمرات نخيلهم و أعنابهم، و يقدرون ما تجود به من التمر و الزبيب تخمينا و حدسا دون تحقيق لذلك، و لا برهان لهم على ما يقولون، فهم يكذبون على اللّه فيما ينسبون إليه من اتخاذ الولد، و جعل عبادة الأوثان ذريعة إليه، و تحليل الميتة و تحريم البحائر و نحو ذلك، و تاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي في الآية من ضلال أكثر أهل الأرض، و اتباعهم للخرص و الظن، فأهل الكتاب من اليهود و النصارى قد تركوا هداية أنبيائهم، و ضلوا ضلالا بعيدا، و كذلك الأمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل و الأنبياء.
و هذا من علم الغيب الذي أوتيه هذا النبي الأمي، و هو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النزر اليسير من شؤون الأمم المجاورة لبلاد العرب،