کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 115
هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ و في «المصباح» «1» : زعم زعما من باب قتل، و في الزعم ثلاث لغات فتح الزاي لأهل الحجاز، و ضمها لبني أسد، و كسرها لبعض قيس، و يطلق الزعم بمعنى القول، و منه زعمت الحنفية، و زعم سيبويه؛ أي:
قال، و عليه قوله تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ ؛ أي: قلت؛ أي: كما أخبرت، و يطلق على الظن، يقال: في زعمي كذا و على الاعتقاد، و منه قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا . قال الأزهري: أكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه و لا يتحقق، و قال بعضهم: هو كناية عن الكذب. قال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا، أو فيه ارتياب. و قال ابن القوطبة: زعم زعما إذا قال خبرا لا يدري أحقا هو أو باطلا. قال الخطابي: و لهذا قيل: زعم مطية الكذب، و زعم غير مزعم، قال غير مقول صالح، و ادعى ما لا يمكن اه.
و في «السمين» بِزَعْمِهِمْ فيه و جهان:
أحدهما: أن يتعلق ب (قالوا)؛ أي: قالوا ذلك القول بزعم لا بيقين و استبصار.
و الثاني: قيل: هو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به قوله لِلَّهِ . و قرأ العامة بفتح الزاي هنا و فيما يأتي، و هذه لغة أهل الحجاز؛ و هي الفصحى. و قرأ الكسائي: بِزَعْمِهِمْ بالضم، و هي لغة بني أسد، و هل المضموم و المفتوح بمعنى واحد أو المفتوح مصدر و المضموم اسم؟ خلاف مشهور. و في لغة لبعض قيس و بني تميم كسر الزاي، و لم يقرأ بهذه اللغة فيما علمت اه.
لِيُرْدُوهُمْ ؛ أي: يهلكوهم بالإغواء من أردى الرباعي وَ لِيَلْبِسُوا ؛ أي:
يخلطوا قرأ «2» الجمهور بكسر الباء من لبست عليه الأمر ألبسه- بفتح العين في الماضي و كسرها في المضارع- من باب ضرب إذا أدخلت عليه فيه الشبهة و خلطته فيه. و قرأ النخعي: وَ لِيَلْبِسُوا .- بفتح الباء- فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: لبست عليه الأمر- بفتح الباء و كسرها- ألبسه و ألبسه، و الصحيح
(1) الفتوحات.
(2) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 116
أن لبس- بالكسر- بمعنى لبس الثياب، و بالفتح بمعنى الخلط.
حِجْرٌ - بكسر الحاء و سكون الجيم- فعل بمعنى مفعول؛ أي: محجور ممنوع كذبح و طحن بمعنى مذبوح و مطحون يستوي فيه الواحد و الكثير و المذكر و المؤنث؛ لأن أصله المصدر، و لذلك وقع صفة لأنعام و حرث. قال ابن مالك في لامية الأفعال:
من ذي الثّلاثة بالمفعول متّزنا
و ما أتى كفعيل فهو قد عدلا
به عن الأصل و استغنوا بنحو نجا
و النّسي عن وزن مفعول و ما عملا
و قال شارحها في «مناهل الرجال»: و قد يرد لفظ المصدر بمعنى المفعول كاللفظ و الصيد و الخلق بمعنى الملفوظ و المصيد و المخلوق؛ لأن إطلاق المصدر بمعنى المفعول مجازا كثير مطرد، انتهى.
خالِصَةٌ لِذُكُورِنا و (الهاء) «1» في خالِصَةٌ للمبالغة في الخلوص كعلامة و نسابة قاله الكسائي و الأخفش. و قال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام، ورد بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، و تعقب هذا الرد بأن ما في بطون الأنعام أنعام، و هي الأجنة و ما عبارة عنها، فيكون تأنيث خالِصَةٌ باعتبار معنى ما و تذكير مُحَرَّمٌ باعتبار لفظها. و قرأ الأعمش: خالص قال الكسائي:
معنى خالص و خالصة واحد إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدم عنه.
وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ الإنشاء «2» : إيجاد الأحياء و تربيتها، و كل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب و الدور و الشعر و الجنات و البساتين و الكروم الملتفة الأشجار؛ لأنها تجن الأرض و تسترها، و المعروشات:
المحمولات على العرائش؛ و هي الدعائم التي يوضع عليها مثل السقف من العيدان و القصب. و أصل العرش في اللغة «3» : شيء مسقف يجعل عليه الكرم، و جمعه عروش يقال: عرشت الكرم أعرشه عرشا- من بابي ضرب و نصر-
(1) الشوكاني.
(2) المراغي.
(3) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 117
و عرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف، و اعترش العنب العريش إذا علاه و ركبه، و غير المعروشات ما لم يعرش منها. و المراد أن الجنات نوعان: معروشات كالكروم، و غير معروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوي على سوقه و لا يتسلق على غيره.
يَوْمَ حَصادِهِ ؛ أي: يوم جذاذه و قطعه. قال سيبويه «1» : جاؤوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، و ربما قالوا فيه: فعال؛ يعني: أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر، فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، و الحصد ليس فيه دلالة على انتهاء زمان و لا عدمها بخلاف الحصاد و الحصاد اه.
وَ لا تُسْرِفُوا من الإسراف؛ و هو تجاوز الحد فيما يفعله الإنسان، و إن كان في الإنفاق أشهر. و قيل السرف: تجاوز ما حد لك، و سرف المال إنفاقه في غير منفعة، و لهذا قال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة اللّه؛ فهو سرف، و إن كان قليلا.
الضَّأْنِ قيل: جمع ضائن للذكر و ضائنة للأنثى؛ و قيل: اسم جمع و كذا يقال في المعز سكنت عينه أو فتحت. و في «المصباح» المعز اسم جنس لا واحد له من لفظه، و هي ذوات الشعر من الغنم، الواحدة شاة و هي مؤنثة، و تفتح العين و تسكن، و جمع الساكن أمعز و معيز مثل عبد و أعبد و عبيد، و المعزى ألفها للإلحاق لا للتأنيث، و لهذا تنون في النكرة، و تصغر على معيز، و لو كانت الألف للتأنيث .. لم تحذف، و الذكر ماعز، و الأنثى ماعزة اه، و فيه أيضا و العنز الأنثى من المعز إذا أتى عليها حول.
حَمُولَةً وَ فَرْشاً و الحمولة الكبير من الإبل، و البقر الذي يحمل عليه الناس الأثقال، و الفرش ما يفرش للذبح من الضأن و المعز و صغار الإبل و البقر، أو ما يتخذ الفرش من صوفه و وبره و شعره كما مر.
(1) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 118
خُطُواتِ الشَّيْطانِ و الخطوات واحدها خطوة- بالضم- و هي المسافة التي بين القدمين.
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات ضروبا من الفصاحة و البلاغة و البيان و البديع:
فمنها: التقسيم في قوله تعالى: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا و في قوله: وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ الخ. وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا .
منها: التكرار في قوله تعالى: لِلَّهِ و قوله: لِشُرَكائِنا .
و منها: الاستعارة في قوله تعالى: وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لأنه استعار اللبس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم و بين التخليط حتى كأنها لبسوها كالثياب، و صارت محيطة بهم.
و منها: الطباق في قوله تعالى: أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ لأن الأنعام حيوان، و الحرث جماد، و بين قوله: لِذُكُورِنا و أَزْواجِنا ؛ أي: إناثنا، و بين قوله:
مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ، و بين قوله: مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ، و بين قوله:
حَمُولَةً وَ فَرْشاً لأن الحمولة الكبار الصالحة للحمل، و الفرش الصغار الدانية من الأرض كأنها فرش.
و منها: الاستعارة في قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لأن الخطوة ما بين القدمين استعارها لتسويل الشيطان و وسوسته، و هي أبلغ «1» عبارة في التحذير من طاعة الشيطان و السير في ركابه.
و منها: الجناس المغاير في قوله تعالى: افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ، و في قوله: مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ، و في قوله تعالى: وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ .
(1) تلخيص البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 119
و منها: المقابلة في قوله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ .. وَ مِنَ الْمَعْزِ .. وَ مِنَ الْإِبِلِ .. وَ مِنَ الْبَقَرِ .
و منها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله تعالى: وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار؛ لإظهار كمال عتوهم و ضلالهم أفاده أبو السعود.
و منها: الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ لأن المقصود إنكار أن اللّه حرمها.
و منها: الاعتراض في قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ ، و قوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ لأنه اعترض بهما بين المعدودات وقعت تفصيلا لثمانية أزواج.
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع.
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 120
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأنعام (6): الآيات 145 الى 153]
. المناسبة
قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...
الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها «1» : أن اللّه سبحانه و تعالى لمّا ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على اللّه .. أمر تعالى نبيه صلى اللّه عليه و سلم أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما
(1) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 121
هو بالوحي من اللّه تعالى و بشرعه، لا بما تهوى الأنفس و ما تختلقه على اللّه تعالى.
و عبارة «المراغي» هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لمّا ذكر «1» في سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام و لا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله، و من فعل ذلك يكون مفتريا على اللّه معتديا على مقام الربوبية، و من اتبعه في ذلك .. فقد اتخذه شريكا للّه تعالى، و أبان أن من هذا ما حرمته العرب في جاهليتها من الأنعام و الحرث .. أردف ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله و ألسنة بعض الرسل قبله.
قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها «2» : أنه سبحانه و تعالى لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي .. أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء، كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها من الآية قبل.
قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا ...
الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما كان «3» الكلام في سالف الآيات في تفصيل أصول الإسلام من توحيد اللّه و النبوة و البعث، و في دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم و تكذيبهم للرسل، و إنكارهم للبعث، و في بيان أعمالهم التي هي دلائل على الشرك من التحريم و التحليل بخرافات و أوهام .. ذكر هنا شبهة مثل بمثلها كثير من الكفار، و هم و إن لم يكونوا قالوها و أوردوها على الرسول صلى اللّه عليه و سلم فإن اللّه المحيط علمه بكل شيء يعلم أنهم سيقولونها، فذكرها وردّ عليها بما يبطلها، و كان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها «4» : أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر ما حرموه افتراء
(1) المراغي.
(2) البحر المحيط.
(3) المراغي.