کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 124
الأصل على التابع؛ لأن الشحم و غيره يتبع اللحم، و قال الشوكاني: و ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، انتهى. فَإِنَّهُ ؛ أي:
فإن كل ما ذكر من الميتة و ما بعدها. و أفرد الضمير؛ لأن العطف بأو رِجْسٌ ؛ أي: نجس أو خبيث مخبث تعافه الطباع السليمة، و هو ضار بالأبدان الصحيحة.
و قال الشوكاني: و الضمير في قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ عائد إلى اللحم أو الخنزير، انتهى؛ أي: قذر لتعوده أكل النجاسة، أو خبيث مخبث أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ معطوف على المنصوب قبله، و قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ اعتراض بين المعطوف و المعطوف عليه ذكر للتعليل، أَوْ كان ذلك المحرم فِسْقاً ؛ أي:
ذبحا خارجا عن الحلال لكونه أهل به؛ أي: ذبح به لغير اللّه بأن ذبح على اسم الأصنام مثلا، و هو كل ما يتقرب به إلى غير اللّه سبحانه و تعالى تعبدا، و يذكر اسمه عليه عند ذبحه.
قال أبو حيان «1» : و جاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة و المائدة، و جاءت هنا هذه المحرمات منكرة و الدم موصوفا بقوله: مَسْفُوحاً ، و الفسق موصوفا بقوله: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ و في تينك السورتين معرفة؛ لأن هذه السورة مكية؛ فعلق بالتنكير، و تينك السورتان مدنيتان؛ فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة انتهى.
فصل [فى حكم أكل لحوم الخيل و البغال و الحمر الأهلية و الوحشية:]
«2» و ذكر المفسرون هنا أشياء مما اختلف أهل العلم فيها، و نلخص من ذلك شيئا، فنقول: أما الحمر الأهلية: فذهب الشعبي و ابن جبير إلى أنه يجوز أكلها، و إن تحريم الرسول لها إنما كان لعلة، و أما لحوم الخيل: فاختلف السلف فيها، و أباحها الشافعي و ابن حنبل و أبو يوسف و محمد بن الحسن. و عن أبي حنيفة:
الكراهة، فقيل: كراهة تنزيه، و قيل: كراهة تحريم؛ و هو قول مالك و الأوزاعي و الحكم بن عتيبة و أبي عبيد و أبي بكر الأصم. و قال به من التابعين مجاهد، و من
(1) البحر المحيط.
(2) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 125
الصحابة ابن عباس، و روي عنه خلافه، و قد صنف في حكم لحومل الخيل جزءا قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي رحمه اللّه قرأناه عليه، و أجمعوا على تحريم البغال، و أما الحمار الوحشي إذا تأنس، فذهب أبو حنيفة و أصحابه و الحسن بن صالح و الشافعي: إلى جواز أكله، و روى ابن القاسم عن مالك أنه إذا دجّن و صار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي أنه لا يؤكل.
و قال أبو حنيفة و أبو يوسف و زفر و محمد: لا يحل أكل ذي الناب من السباع، و ذي المخلب من الطير، و قال مالك: لا يؤكل سباع الوحش و لا البر وحشيا كان أو أهليا، و لا الثعلب و لا الضبع، و لا بأس بأكل سباع الطير الرخم و العقاب و النسور و غيرها ما يأكل الجيفة و ما لا يأكل، و قال الأوزاعي: الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم، و قال الشافعي: ما عدا على الناس من ذي الناب كالأسد و الذئب و النمر، و على الطيور من ذي المخلب كالنسر و البازي لا يؤكل، و يؤكل الثعلب و الضبع، و كره أبو حنيفة الغراب الأبقع، لا الغراب الزرعي، و الخلاف في الحدأة كالخلاف في العقاب و النسر، و كره أبو حنيفة الضّبّ.
و قال مالك و الشافعي: لا بأس به. و الجمهور: على أنه لا يؤكل الهر الإنسي، و عن مالك: جواز أكله إنسيا كان أو وحشيا. و عن بعض السلف جواز أكله إنسيه. و قال ابن أبي ليلى: لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت. و قال الليث: لا بأس بأكل القنفذ و فراخ النحل و دود الجين و دود التمر و نحوه، و كذا قال ابن قاسم عن مالك في القنفذ. و قال أبو حنيفة و الشافعي: لا تؤكل الفأرة. و قال أبو حنيفة: لا يؤكل اليربوع، و قال الشافعي: يؤكل. و عن مالك في الفأر التحريم و الكراهة و الإباحة. و ذهب أبو حنيفة و الشافعي و أصحابهما إلى كراهة أكل الجلالة. و قال مالك و الليث: لا بأس بأكلها. و قال صاحب «التحرير و التحبير»:
و أما المخدرات كالبنج و السيكران و اللفاح و ورق القنب المسمى بالحشيشة .. فلم يصرح فيها أهل العلم بالتحريم، و هي عندي إلى التحريم أقرب؛ لأنه إن كانت مسكرة فهي محرمة بقوله صلى اللّه عليه و سلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» و بقوله: «كل مسكر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 126
حرام». و إن كانت غير مسكرة فإدخال الضرر على الجسم حرام. و قد نقل ابن بخسيشوع في كتابه: إن ورق القنب يحدث في الجسم سبعين داء، و ذكر منها أنه يصفر الجلد، و يسود الأسنان، و يجعل فيها الحفر، و يثقب الكبد و يحميها، و يفسد العقل و يضعف البصر، و يحدث الغم و يذهب الشجاعة، و البنج و السيكران كالورق في الضرر. و أما المرقدات كالزعفران و المازريون .. فالقدر المضر منها حرام. و قال جمهور الأطباء: إذا استعمل من الزعفران كثير .. قتل فرحا، انتهى و فيه بعض تلخيص.
فَمَنِ اضْطُرَّ ؛ أي: فمن دفعته و دعته ضرورة الجوع و فقد الحلال إلى أكل شيء من هذه المحرمات حالة كونه غَيْرَ باغٍ على مضطر مثله تارك لمواساته وَ لا عادٍ ؛ أي: متجاوز قدر حاجة في تناوله، و هو القدر الذي يسد الرمق فَإِنَّ رَبَّكَ يا محمد غَفُورٌ له، فلا يؤاخذه بالأكل من تلك المحرمات رَحِيمٌ له حيث رخص له في الأكل من تلك المحرمات.
و لما «1» كان صدر هذه الآية مفتتحا بخطابه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و سلم بقوله: قُلْ لا أَجِدُ اختتم الآية بالخطاب له صلى اللّه عليه و سلم، فقال: فَإِنَّ رَبَّكَ ليدل على اعتنائه تعالى بتشريف خطابه افتتاحا و اختتاما.
وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا و رجعوا عن عبادة العجل خاصة لا على غيرهم من الأولين و الآخرين حَرَّمْنا كُلَ حيوان ذِي ظُفُرٍ ؛ أي: صاحب ظفر و هو كل ما ليس منفرج الأصابع مشقوفها من البهائم و الطير كالإبل و النعام و الإوز و البط، كما قاله ابن عباس و ابن جبير و قتادة و مجاهد، فهذا «2» رد عليهم في قولهم: لسنا أول من حرمت عليهم، و إنما كانت محرمة على نوح و إبراهيم و من بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا. و قرأ أبي و الحسن و الأعرج: ظُفْر- بسكون الفاء-، و الحسن و أبو السمال- قعنب-: ظِفْر بسكونها و كسر الظاء.
(1) البحر المحيط.
(2) أبو السعود.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 127
وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما الخالصة التي تؤخذ بسهولة، و هي ثروبهما جمع ثرب؛ و هو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش و الكلى إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ؛ أي: إلا الشحم الذي حملته ظهورهما أَوِ الْحَوايا أو إلا الشحم الذي حملته المباعر و المصارين و علقت بها أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ؛ أي: أو إلا شحما مختلطا بعظم مثل شحم الألية، فإنه متصل بالعصعص، و هذا إنما يكون في الضأن، فتلخص: إن الذي حرم عليهم من البقر و الغنم شحومهما الخالصة، و هي شحوم الكرشي و الكلى، و إن ما عدا ذلك حلال لهم.
و الحاصل:
أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر و شحمه، و كل شيء منه، و من البقر و الغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر و البحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنزع بسهولة لعدم اختلاطهما بعظم و لا لحم، و لم يحرم عليهم منهما ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. و السبب «1» في تخصيص البقر و الغنم بهذا الحكم أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما، و كان يتخذ من شحمهما الوقود للرب، كما ذكر ذلك في الفصل الثالث من سفر اللاويين من التوراة، في قرابين السلامة من البقر و الغنم: (كل الشحم للرب فريضة في أجيالكم في جميع مساكنهم، لا تأكلوا شيئا من الشحم و الدم).
ذلِكَ التحريم جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ؛ أي: جعلناه عقوبة و جزاء لهم على بغيهم و ظلمهم؛ و هو قتلهم الأنبياء و أخذهم الربا و أكلهم أموال الناس بالباطل، و ليس ذلك التحريم لخبث ذاته، فكانوا «2» كلما ارتكبوا معصية من هذه المعاصي .. عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم و هم ينكرون ذلك، و يدعون أنها محرمة على الأمم قبلهم. و لما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى اللّه عليه و سلم، و لا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم، و كان مظنة تكذيب المشركين له؛ لأنهم لا يؤمنون بالوحي، و مظنة تكذيب اليهود له بأن اللّه لم يحرم ذلك عقوبة ببغيهم و ظلمهم .. أكده فقال: وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ؛ أي: و إنا لصادقون
(1) المراغي.
(2) أبو السعود.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 128
في هذه الأخبار عن التحريم و علته؛ لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء، و لأن الكذب محال علينا؛ لأنه نقص، فلا يصدر عنا،
و المكذبون في قوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ إما اليهود، و المعنى عليه: فإن كذبك يا محمد اليهود، و ثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم على ما كان من بغيهم على الناس و ظلمهم لهم و لأنفسهم، و احتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من اللّه فَقُلْ لهم في الجواب رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ؛ أي: فأجبهم بما يدحض و يبطل هذه الشبهة بأن رحمة اللّه واسعة حقا وَ لكن لا يقتضي ذلك أن يُرَدُّ بَأْسُهُ و يمنع عقابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فإصابة الناس بالمحق و الشدائد عقابا لهم على جرائم ارتكبوها قد تكون رحمة بهم، و قد تكون عبرة و موعظة لغيرهم؛ لينتهوا عن مثلها، و هذا العقاب من سنن اللّه المطردة في الأمم، و إن لم يطرد في الأفراد. و إما المشركون، و المعنى عليه: فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل و التحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة و لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا به فإنه إمهال لكم لا إهمال لمجازاتكم، و في هذا تهديد لهم و وعيد إذا هم أصروا على كفرهم و افترائهم على اللّه تعالى بتحريم ما حرموا على أنفسهم كما أن فيه إطماعا لهم في رحمته الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم، و آمنوا بما جاء به الرسول صلى اللّه عليه و سلم فيسعدون في الدنيا بحل الطيبات، و في الآخرة بالنجاة من النار و دخول الجنات.
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ؛ أي: سيقول لك يا محمد هؤلاء المشركون عنادا لا اعتذارا عن ارتكاب هذه القبائح لَوْ شاءَ اللَّهُ سبحانه و تعالى أن لا نشرك به من اتخذنا من الأولياء و الشفعاء من الملائكة و البشر، و أن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم و صورهم، و أن لا يشرك آباؤنا من قبلنا ل ما أَشْرَكْنا نحن وَ لا أشرك آباؤُنا من قبلنا وَ : لو شاء اللّه أن لا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث و الأنعام و غيرها ل حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ و لكنه تعالى شاء أن نشرك به هؤلاء الأولياء و الشفعاء؛ ليقربونا إليه زلفى، و شاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر و السوائب و غيرها، فحرمناها، فإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى و على رضاه و أمره بها. و قد رد عليهم شبهتهم، فقال: كَذلِكَ ؛ أي: و مثل ذلك التكذيب
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 129
الذي صدر من مشركي مكة لرسوله صلى اللّه عليه و سلم فيما جاء به من إبطال الشرك و إثبات توحيد اللّه في الألوهية و الربوبية، و منها حق التشريع و التحليل و التحريم كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لرسلهم تكذيبا غير مبني على أساس من العلم.
و الرسل صلوات اللّه و سلامه عليهم قد أقاموا الحجج و البراهين العلمية و العقلية على التوحيد و غيره مما ادعوا، و أيدهم اللّه تعالى بباهر الآيات، و لكن المكذبين لم ينظروا نظرة إنصاف، بل أعرضوا عنها و أصروا على جحودهم و عنادهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا و عذابنا، و أهلكناهم بذنوبهم و صاروا كأمس الدابر.
و لو كانت مشيئة اللّه تعالى لما كانوا عليه من الشرك تتضمن رضاه عن فاعلها، و أمره بها .. لما عاقبهم عليها تصديقا لما قال الرسل، كذلك لو كانت أعمالهم بالجبر المخرج لها عن كونها من أعمالهم .. لما استحقوا العقاب عليها، و لما قال: إنه أخذهم بذنوبهم و أهلكهم بظلمهم و كفرهم، و نحو ذلك مما جاء في كثير من الآيات.
فقوله: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا برهان دال على صدق الرسل في دعواهم، و بطلان شبهات المشركين المكذبين لهم، و بعد أن ذكرهم بالبرهان الواضح أمر رسوله أن يطالبهم بدليل يثبت ما يزعمون، فقال: هَلْ عِنْدَكُمْ بما تقولون مِنْ عِلْمٍ تعتمدون عليه و تحتجون به فَتُخْرِجُوهُ ؛ أي: فتخرجوا ذلك العلم و تظهروه لَنا لنفهمه، و نوازن بينه و بين ما جئناكم به من الآيات العقلية، و الوقائع المحكية عن الأمم قبلكم، و نتبين منها الراجح و المرجوح، و في هذا الاستفهام من التعجيز و التوبيخ و التهكم ما لا يخفى، و هو بمعنى الإنكار؛ أي:
ليس عندكم من علم تحتجون به فتظهرونه لنا ما تتبعون في دعاواكم إلا الظن الكاذب الفاسد، و ما أنتم إلا تكذبون.
و قرأ النخعي و ابن وثاب: إن يتبعون- بالياء- قال ابن عطية: و هذه قراءة شاذة يضعفها قوله: وَ إِنْ أَنْتُمْ ؛ لأنه يكون من باب الالتفات. ذكره أبو حيان في «البحر».
ثم أردف ذلك ببيان حقيقة حالهم، فقال: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ ؛ أي:
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 130
ما تبعون فيما أنتم عليه إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ؛ أي: و ما أنتم في ذلك إلا تكذبون على اللّه تعالى؛ أي: أنكم لستم على شيء من العلم، بل ما تتبعون في عقائدكم و آرائكم في الدين و العمل به إلا الحدس و التخمين الذي لا يستقر عنده حكم.
و بعد أن نفى عنهم درجات العلم .. أثبت لذاته الحجة البالغة التي لا تعلوها حجة، فقال: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين إن لم تكن لكم حجة فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ؛ أي: الواضحة التي تقطع عذر المحجوج، و تزيل الشك عمن نظر فيها؛ و هي إرسال الرسل و إنزال الكتب.
و المعنى:
قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم: إن لم يكن عندكم علم في أمر دينكم .. فإن للّه وحده أعلى درجات العلم، و له الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق و إزهاق الباطل بما بينه في هذه السورة و غيرها من الآيات البينات على أصول العقائد، و قواعد التشريع الموافقة للعقول الحكيمة و الفطر السليمة، و سننه في الاجتماع البشري، و لا يهتدي بهذه الآيات إلا المستعد للهداية المحب للحق الحريص على طلبه الذي يستمع القول فيتبع أحسنه دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها، و حسدا للمبلغ الذي جاء بها و جمودا على تقليد الآباء و اتباع الرؤساء فَلَوْ شاءَ سبحانه و تعالى هدايتكم جميعا إلى الحجة البالغة لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ و لكن لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض.