کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 243
تتذكرون بتاءين أولاهما تاء المضارعة، و الثانية تاء المطاوعة، فحذفت إحداهما على الخلاف في المحذوفة منهما.
وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ (كم): اسم يفيد التكثير، و هي خبرية: هنا، و كذا في جميع القرآن حيثما وقعت، و كم في كلام العرب قسمان: خبرية: و هي التي بمعنى عدد كثير، و استفهامية: و هي التي تكون بمعنى أي عدد، و هي اسم «1» بسيط لا مركب من كاف التشبيه، و ما الاستفهامية حذف ألفها لدخول حرف الجر عليها، و سكنت كما قالوا: لم؛ تركيبا لا ينفك، كما ركبت في كأين مع أي، و لم يأت تمييزها في القرآن إلا مجرورا و أحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو.
و القرية تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس و على الناس معا، و تطلق على كل منهما كما جاء في قوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ ؛ أي: أهل القرية، و القرية هنا تصلح لأن يراد بها القوم أنفسهم، و أن يراد بها المكان؛ لأنه يهلك كما يهلك أهله. بَأْسُنا البأس العذاب.
بَياتاً و البيات: الإغارة على العدو ليلا، و الإيقاع به على غرة، و هو في الأصل مصدر بات يبيت بيتا و بيتة و بياتا و بيتوتة. قال الليث: البيتوتة دخولك في الليل، فقوله: بياتا؛ أي: بائتين.
أَوْ هُمْ قائِلُونَ و القائلون: هم الذين يستريحون، أو ينامون وسط النهار؛ أي: حين القائلة، و قال الليث: القيلولة نوم نصف النهار؛ و هي القائلة، و قال الأزهري: القيلولة الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر و إن لم يكن نوم.
و قال الفراء: يقال: قال يقيل قيلا- كباع يبيع بيعا- و قائلة و قيلولة إذا استراح نصف النهار، فألفه منقلبة عن ياء بخلاف قال من القول، فهي منقلبة عن واو.
فَما كانَ دَعْواهُمْ و الدعوى: ما يدعيه الإنسان، و تطلق على القول أيضا.
وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ؛ أي: جعلنا لكم «2» فيها أمكنة تتبوؤنها، و تتمكنون من الإقامة فيها.
(1) البحر المحيط.
(2) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 244
وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ بالياء «1» باتفاق السبعة، و إن قرىء شاذا بالهمزة، و ليس كصحائف؛ لأن المد فيه زائد؛ لأنه من صحف بخلاف معيشة، فإن المد فيها أصلي؛ لأنه من عاش يعيش عيشا و معاشا و عيشة و معيشة و معيشا. قال رؤبة:
إليك أشكو شدّة المعيش
و جهد أيّام نتفن ريشي
فأصل معيشة معيشة كمكرمة، أو معيشة كمنزلة، أو معيشة كمتربة، فالياء فيه أصلية على كل حال، و قد قال في «الخلاصة»:
و المد زيد ثالثا في الواحد
همزا يرى في مثل كالفلائد
و ياء معيشة عين الكلمة، ثم إنه على الوجه الأول قلبت ضمة الياء كسرة، ثم نقلت للعين، و على الثاني نقلت كسرة الياء إلى العين، و الوجه الثالث لا صحة له في التصريف. اه من «السمين».
و في «المصباح»: عاش يعيش عيشا- من باب سار- صار ذا حياة، فهو عائش، و الأنثى عائشة، و عيّاش أيضا مبالغة، و المعيش و المعيشة مكسب الإنسان الذي يعبش به، و الجمع معايش هذا على قول الجمهور أنه من عاش، فالميم زائدة، و وزن معايش مفاعل، فلا يهمز، و به قرأ السبعة، و قيل: إنه من معش، فالميم أصلية، و وزن معيش و معيشة فعيل و فعيلة، و وزن معائش فعائل، فيهمز كصحائف، و به قرأ أبو جعفر المدني و الأعرج. اه.
و في «القاموس»: العيش الحياة، يقال: عاش يعيش عيشا و معاشا و معيشة و عيشة- بالكسر- و عيشوشة، و العيش أيضا الطعام و ما يعاش به و الخبز، و المعيشة أيضا ما يتعيش به من المطعم و المشرب، و ما تكون به الحياة، و ما يعاش به و فيه، و الجمع معايش، و المتعيش من له بلغة من العيش. اه.
وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ الخلق: التقدير «2» ، يقال: خلق الخياط الثوب إذا قدره قبل قطعه، و خلق اللّه الخلق أوجدهم على تقدير أوجبته الحكمة.
(1) الفتوحات البحر المحيط.
(2) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 245
إِلَّا إِبْلِيسَ مأخوذ من أبلس إبلاسا بمعنى أيس؛ لأنه آيس من رحمة اللّه تعالى.
فَاهْبِطْ مِنْها و الهبوط الانحدار و السقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها؛ فهو إما حسي، و إما معنوي.
أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها و التكبر جعل الإنسان نفسه أكبر مما هي عليه. مِنَ الصَّاغِرِينَ و الصغار: الذلة و الهوان أَنْظِرْنِي : يقال: أنظره إذا أمهله و أخره.
فَبِما أَغْوَيْتَنِي : و الإغواء: الإيقاع في الغواية، و هي ضد الرشاد، يقال: غوى يغوي- من باب رمى- غيا و غواية إذا فسد عليه أمره، و فسد هو في نفسه، و منه غوى الفصيل إذا أكثر من شرب لبن أمه حتى فسد جوفها، و أشرف على الهلاك، و قيل:
أصله الهلاك، و منه: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ الشمائل «1» : جمع شمال، و هو جمع كثرة، و جمعه في القلة على أشمل. قال الشاعر:
يأتي لها من أيمن و أشمل
و شمال يطلق على اليد اليسرى، و على ناحيتها، و الشمائل أيضا جمع شمال؛ و هي الريح، و الشمائل أيضا: الأخلاق. يقال: هو حسن الشمائل.
مَذْؤُماً بالهمز «2» : اسم مفعول من ذأمه يذأمه ذأما- كقطعه يقطعه قطعا- إذا عابه و مقته، و في «المختار»: الذأم: العيب يهمز و لا يهمز، يقال: ذأمه- من باب قطع- إذا عابه و حقره، فهو مذؤوم. اه. و فيه مقته إذا أبغضه من باب نصر، فهو مقيت، و يجوز «3» إبدال الهمزة ألفا. قال الشاعر:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة
فلمّا انجلت قطّعت نفسي أذيمها
و في المثل: لن يعدم الحسناء ذأما، و قيل: أردت أن تذيمه فمدحته، و قال الليث: ذأمته حقرته، و قال ابن الأنباري و ابن قتيبة: ذأمه ذمه و عابه.
مَدْحُوراً يقال: دحره إذا أبعده و أقصاه، و دحر الجند العدو إذا طرده
(1) البحر المحيط.
(2) الفتوحات.
(3) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 246
و أبعده. قال الشاعر:
دحرت بني الحصيب إلى قديد
و قد كانوا ذوي أشر و فخر
يقال: دحره يدحره دحرا و دحورا- من باب خضع- و منه: وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً .
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة و الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله:
فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ لما فيه من إطلاق المسبب و إرادة السبب؛ لأن المراد النهي عن أسباب الحرج. قال أبو السعود: توجيه «1» النهي إلى الحرج مع أن المراد نهيه صلى اللّه عليه و سلم عنه؛ إما للمبالغة في تنزيهه صلى اللّه عليه و سلم عن وقوع مثل الحرج منه، فإن النهي لو وجه له لأوهم إمكان صدور المنهي عنه منه، و إما للمبالغة في النهي، فإن وقوع الحرج في صدره سبب لاتصافه به، و النهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني، و نفي له من أصله بالمرة، فالمراد نهيه عما يورث الحرج انتهى.
و منها: المجاز المرسل أيضا في قوله:
وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها : لما فيه من إطلاق المحل و إرادة الحال؛ أي: و كم من أهل قرية أهلكناهم.
و منها: الاعتراض بين الجار و متعلقه، في قوله:
فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ، لأنه معترض بين قوله: أُنْزِلَ و بين قوله: لِتُنْذِرَ .
و منها: التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة لضمير المخاطبين، في قوله:
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ لمزيد اللطف بهم و ترغيبهم في امتثال الأمر.
و منها: الطباق بين قوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ و قوله:
وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، و بين قوله: بَياتاً و قوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ ؛ لأن البيات معناه ليلا، و قائلون معناه نهارا وقت الظهيرة.
(1) أبو السعود.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 247
و منها: المجاز بالحذف قوله:
وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ؛ أي: خلقنا أباكم آدم، و صورنا أباكم.
و منها: الاستعارة التصريحية في قوله:
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ لأن الصراط حقيقة في الطريق الحسي، فاستعارة لطريق الهداية الموصل إلى جنات النعيم.
و منها: المقابلة بين قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ و قوله:
وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، و بين قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ و قوله: وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ، و بين قوله: وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ و قوله:
و منها: تغليب الحاضر على الغائب في قوله:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ لأن فيه تغليب الحاضر الذي هو إبليس على الغائب، و هو الناس.
و منها: التكرار في قوله: فَلَنَسْئَلَنَ ، و قوله: وَ لَنَسْئَلَنَ
، و في قوله:
و منها: الجناس المماثل في قوله: اسْجُدُوا فَسَجَدُوا
. و منها: المغاير في قوله: فَسَجَدُوا و قوله: مِنَ السَّاجِدِينَ
، و في قوله:
أَنْظِرْنِي و قوله: مِنَ الْمُنْظَرِينَ .
و منها: المقابلة في قوله: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ و قوله:
وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ .
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع
. و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 248
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأعراف (7): الآيات 19 الى 30]
. المناسبة
قوله تعالى: وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ ... الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لا يزال «1» الحديث متصلا في الكلام في النشأة الأولى للبشر، و في شياطين الجن، و قد ذكرت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم و إرشادهم إلى ما به تكمل فطرتهم، و في ذلك امتنان عليهم، و ذكر لكرامة أبيهم.
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ... الآية، مناسبة
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 249
هذه الآيات لما قبلها «1» : أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر أنه أنزل له و لبنيه كل ما يحتاجون إليه في دينهم و دنياهم كاللباس الذي يستترون به عوراتهم، و يتخذونه للزينة و اللباس الذي يستعملون في الحرب كالمغافر و الجواشن و نحوها، ..
فعليكم أن تشكروه سبحانه و تعالى على هذه المنن العظام، و تعبدوه وحده لا شريك له.
و عبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها «2» : هو أنه سبحانه و تعالى لما ذكر قصة آدم، و فيها ستر السوءات، و جعل له في الأرض مستقرا و متاعا .. ذكر ما امتن به على بنيه، و ما أنعم به عليهم من اللباس الذي يواري السوءات، و الرياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض و استمتاعهم بما خولهم.
قوله تعالى: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن اللّه تعالى، لما «3» بين أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم .. ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم؛ و هو الطاعة لهم في أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح.
التفسير و أوجه القراءة
و قوله: وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ معطوف على قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عطف قصة على قصة؛ أي: و قلنا يا آدم اسكن أنت وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ ؛ أي:
انزل أنت و زوجك حواء في الجنة، و هذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة، أو من السماء، أو من بين الملائكة، و قيل: معطوف «4» على اخْرُجْ ؛ أي: و قلنا يا إبليس اخرج منها مذؤوما مدحورا، و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة، و معنى
(1) المراغي.
(2) البحر المحيط.
(3) المراغي.