کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 279
تتحرك، و لم تحمل على متحرك جاز الإبدال كهذه الآية الكريمة.
مِنْ سَوْآتِهِما جمع سوءة، و السوءة ما يسوء الإنسان أن يراه غيره من أمر شائن، و عمل قبيح، و إذا أضيفت إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة؛ لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري. مِنَ الْخالِدِينَ ؛ أي: من الذين لا يموتون أبدا.
وَ قاسَمَهُما ؛ أي: أقسم و حلف لهما، و في «السمين» المفاعلة هنا يحتمل أن تكون على بابها. فقال الزمخشري: كأنه قال لهما: أقسم لكما إني لمن الناصحين، فقالا له: أتقسم باللّه أنت إنك لمن الناصحين لنا، فجعل ذلك مقاسمة بينهم، أو أقسم لهما بالنصيحة، و أقسما له بقبولها، أو أخرج قسم إبليس على وزن المفاعلة؛ لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم. و قال ابن عطية:
و قاسمهما؛ أي: حلف لهما، و هي مفاعلة؛ إذ قبول المحلوف له، و إقباله على معنى اليمين، و تقديره: كالقسم و إن كان بادىء الرأي يعطي أنها من واحد، و يحتمل أن يكون فاعل بمعنى أفعل كباعدته و أبعدته، و ذلك أن الحلف لما كان من إبليس دونهما كان فاعل بمعنى أصل الفعل. انتهى.
لَمِنَ النَّاصِحِينَ جمع ناصح اسم فاعل من نصح، و نصح يتعدى لواحد؛ تارة بنفسه، و تارة بحرف الجر، و مثله شكر و كال و وزن، و هل الأصل التعدي بحرف الجر، أو التعدي بنفسه، أو كل منهما أصل؟ الراجح الثالث، و زعم بعضهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوف، و أن المجرور باللام هو الثاني، فإذا قلت: نصحت لزيد، فالتقدير: نصحت لزيد الرأي، و كذلك شكرت له صنيعه، و كلت له طعامه، و وزنت له متاعه، فهذا مذهب رابع، و قال الفراء:
العرب لا تكاد تقول: نصحتك إنما يقولون: نصحت لك، و أنصح لك، و قد يجوز نصحتك، اه «سمين». و النصيحة: هي إرادة الخير للغير، و إظهاره له.
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ يقال: دلى الشيء تدلية- كزكى تزكية- إذا أرسله، و أنزله من أعلى إلى أسفل رويدا رويدا، و قال الأزهري: و أصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء، فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. و الغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش، و قيل: حطهما من منزلة
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 280
الطاعة إلى حالة المعصية؛ لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى سفل.
و معنى الآية «1» : أن إبليس لعنه اللّه غر آدم باليمين الكاذبة، و كان آدم عليه السلام يظن أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا، و إبليس أول من حلف باللّه كاذبا، فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به، و الغرور: مصدر حذف فاعله و مفعوله، و التقدير بغروره إياهما.
وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما ؛ أي: شرعا و أخذا يلزقان عليهما؛ أي: على القبل و الدبر؛ أي: جعل كل منهما يستر عورتيه. يخصفان؛ أي «2» : يرقعان و يلزقان ورقة فوق ورقة، من قولهم: خصف الإسكافي النعل إذا وضع عليها مثلها. و في «المختار»: طفق يفعل كذا؛ أي: جعل يفعل كذا، و بابه طرب، و بعضهم يقول:
هو من باب جلس. اه. و في «المصباح»: خصف الرجل نعله خصفا- من باب ضرب- فهو خصاف، و هو فيه كرقع الثوب.
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ من حيي «3» من باب رضي، فتحيون أصله تحييون بوزن ترضيون، تحركت الياء الثانية و انفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فوزنه تفعون بحذف لام الكلمة.
وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى الريش: لباس «4» الحاجة و الزينة، و لباس التقوى ما يلبس من الدروع و الجواشن و المغافر و غيرها مما يتقى به في الحرب.
و في «الفتوحات»: و الريش فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم لهذا الشيء المعروف.
و الثاني: أنه مصدر يقال: راشه يرشه ريشا إذا جعل فيه الريش، فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر و العين، و هذا هو التحقيق.
و قرىء: و رياشا و فيه تأويلان «5» :
(1) الفتوحات.
(2) المراغي.
(3) الفتوحات.
(4) المراغي.
(5) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 281
أحدهما: و به قال الزمخشري: أنه جمع ريش كشعب و شعاب.
و الثاني: أنه مصدر أيضا، فيكون ريش و رياش مصدرين لراشه اللّه ريشا و رياشا؛ أي: أنعم عليه. و قال الزجاج: هما اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس كما قالوا: لبس و لباس.
لا يَفْتِنَنَّكُمُ الفتنة: الابتلاء و الاختبار من قولهم: فتن الصائغ الذهب، أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزيف من النضار.
وَ قَبِيلُهُ و القبيل: الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعدا من جماعة شتى، هذا قول أبي عبيد، و القبيلة: الجماعة من أب واحد، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة اه «سمين». و في «المصباح»: و القبيل: الجماعة ثلاثة فصاعدا من قوم شتى، و الجمع قبل بضمتين، و القبيلة لغة فيه، و قبائل الرأس القطع المتصل بعضها ببعض، و بها سميت قبائل العرب، الواحدة قبيلة، و هم بنو أب واحد. اه.
وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الفاحشة «1» : الفعلة المتناهية في القبح، و المراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم، و يقولون لا نطوف بيت ربنا في ثياب عصيناه بها.
بِالْقِسْطِ و القسط الاعتدال في جميع الأمور، و هو الوسط بين الإفراط و التفريط.
وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ و إقامة الشيء: إعطاؤه حقه، و توفيته شروطه كإقامة الصلاة، و إقامة الوزن بالقسط، و الوجه قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما في قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و قد يطلق على توجه القلب و صحة القصد كما في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً . فَرِيقاً هَدى :
و في «القاموس»: و الفرقة- بالكسر- الطائفة من الناس، و الجمع فرق، و الفريق كأمير أكثر منها، و الجمع أفرقاء و أفرقة و فروق. اه.
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 282
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة و الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: وَ يا آدَمُ
؛ أي: و قلنا يا آدم، و في قوله: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما ؛ أي: فكلا منها؛ أي: من ثمارها حيث شئتما.
و منها: المبالغة في النهي عن الأكل في قوله:
وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ؛ لأنه عبر عن النهي من الأكل بالنهي عن القربان مبالغة.
و منها: التأكيد في قوله: اسْكُنْ أَنْتَ
و في قوله: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أكد الخبر بالقسم و ب (إن) و باللام و بإسمية الجملة؛ لدفع شبهة الكذب، و هو من الضرب الذي يسمى إنكاريا؛ لأن السامع متردد.
و منها: تخصيص الخطاب بآدم «1» ، في قوله:
وَ يا آدَمُ اسْكُنْ للإيذان بأصالته في تلقي الوحي، و تعاطي المأمور به، و تعميمه في قوله: فَكُلا ، و قوله: وَ لا تَقْرَبا للإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به، و تجنب المنهى عنه.
و منها: المجاز المرسل، في قوله:
فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ لأنه مجاز عن الأكل من إطلاق المسبب و إرادة السبب.
و منها: الاستفهام التقريري في قوله: أَ لَمْ أَنْهَكُما
و هو «2» حمل المخاطب على الإقرار بما علم عنده ثبوته أو نفيه. و المعنى «3» : أقر بذلك على حد أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) .
و منها: الاستعارة التصريحية في قوله: وَ رِيشاً
شبه لباس الزينة بريش الطائر بجامع الزينة في كل؛ لأن الريش زينة الطائر، كما أن اللباس زينة الأدميين، فاستعير اسم المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة التصريحية.
و منها: التشبيه في قوله:
وَ لا تَقْرَبا لأنه من إضافة المشبه به إلى المشبه، فهو من قبيل إضافة لجين الماء، و قال الشوكاني «4» : و مثل هذه الاستعارة كثير
(1) الفتوحات.
(2) الصاوي.
(3) الصاوي.
(4) فتح القدير.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 283
الوقوع في كلام العرب، و منه قوله:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
تقلب عريانا، و إن كان كاسيا
و مثله قوله:
تغط بأثواب السخاء فإنني
أرى كل عيب و السخاء غطاؤه
و منها: الالتفات في قوله: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
و كان «1» مقتضى الظاهر لعلكم تذكرون، و نكتته دفع الثقل في الكلام.
و منها: الطباق في قوله: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ
؛ لأن بين الجملتين طباقا، و هو من المحسنات البديعية.
و منها: المقابلة في قوله: فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ
. و منها: الإسناد المجازي في قوله: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما
؛ لأنه أسند النزع إليه لتسببه فيه.
و منها: حكاية الحال الماضية، في قوله: يَنْزِعُ
: عبر «2» بلفظ المضارع و على أنه حكاية حال؛ لأنها قد وقعت و انقضت.
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع
. و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
(1) الصاوي.
(2) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 284
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 43]
. المناسبة
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... الآية، مناسبة «1»
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 285
هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما أمر عباده في الآية السالفة بالعدل في كل الأمور، و اتباع الوسط منها .. طلب إلينا أن نأخذ بالزينة في كل مجتمع للعبادة، فلنستعمل الثياب الحسنة في الصلاة و الطواف و نحو ذلك، كما أباح لنا أن نأكل و نشرب مما خلق اللّه، بشرط أن لا نسرف في شيء من ذلك.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما أنكر في الآية السالفة على المشركين و غيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة اللّه التي أخرجها لعباده و الطيبات من الرزق .. ذكر هنا أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها، و جميعها من الأعمال الكسبية، لا من المواهب الخلقية؛ ليستبين للناس أن اللّه لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم.
قوله تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما بين جماع المحرمات على بني آدم لما فيها من المفاسد و المضار للأفراد و المجتمع إثر بيان المباحات من الزينة و الطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها .. ذكر هنا حال الأمم في قبول هذه الأصول، أو ردها، و السير على منهاجها بعد قبولها، أو الزيغ عنها.
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ...
الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلها «1» : أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر أن لكل أمة أجلا لا تعدوه .. حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها، و بينه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها، و تكميل فطرتها، و أرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقي اللّه فيما تأتي و تذر، و تصلح أعمالها، فلا يحصل لها في الآخرة خوف و لا حزن، و إن هي تمردت و استكبرت، و كذبت الرسل كانت عاقبتها النار، و بئس القرار.
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ... الآيات، مناسبة هذه