کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 280
الطاعة إلى حالة المعصية؛ لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى سفل.
و معنى الآية «1» : أن إبليس لعنه اللّه غر آدم باليمين الكاذبة، و كان آدم عليه السلام يظن أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا، و إبليس أول من حلف باللّه كاذبا، فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به، و الغرور: مصدر حذف فاعله و مفعوله، و التقدير بغروره إياهما.
وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما ؛ أي: شرعا و أخذا يلزقان عليهما؛ أي: على القبل و الدبر؛ أي: جعل كل منهما يستر عورتيه. يخصفان؛ أي «2» : يرقعان و يلزقان ورقة فوق ورقة، من قولهم: خصف الإسكافي النعل إذا وضع عليها مثلها. و في «المختار»: طفق يفعل كذا؛ أي: جعل يفعل كذا، و بابه طرب، و بعضهم يقول:
هو من باب جلس. اه. و في «المصباح»: خصف الرجل نعله خصفا- من باب ضرب- فهو خصاف، و هو فيه كرقع الثوب.
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ من حيي «3» من باب رضي، فتحيون أصله تحييون بوزن ترضيون، تحركت الياء الثانية و انفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فوزنه تفعون بحذف لام الكلمة.
وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى الريش: لباس «4» الحاجة و الزينة، و لباس التقوى ما يلبس من الدروع و الجواشن و المغافر و غيرها مما يتقى به في الحرب.
و في «الفتوحات»: و الريش فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم لهذا الشيء المعروف.
و الثاني: أنه مصدر يقال: راشه يرشه ريشا إذا جعل فيه الريش، فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر و العين، و هذا هو التحقيق.
و قرىء: و رياشا و فيه تأويلان «5» :
(1) الفتوحات.
(2) المراغي.
(3) الفتوحات.
(4) المراغي.
(5) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 281
أحدهما: و به قال الزمخشري: أنه جمع ريش كشعب و شعاب.
و الثاني: أنه مصدر أيضا، فيكون ريش و رياش مصدرين لراشه اللّه ريشا و رياشا؛ أي: أنعم عليه. و قال الزجاج: هما اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس كما قالوا: لبس و لباس.
لا يَفْتِنَنَّكُمُ الفتنة: الابتلاء و الاختبار من قولهم: فتن الصائغ الذهب، أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزيف من النضار.
وَ قَبِيلُهُ و القبيل: الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعدا من جماعة شتى، هذا قول أبي عبيد، و القبيلة: الجماعة من أب واحد، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة اه «سمين». و في «المصباح»: و القبيل: الجماعة ثلاثة فصاعدا من قوم شتى، و الجمع قبل بضمتين، و القبيلة لغة فيه، و قبائل الرأس القطع المتصل بعضها ببعض، و بها سميت قبائل العرب، الواحدة قبيلة، و هم بنو أب واحد. اه.
وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الفاحشة «1» : الفعلة المتناهية في القبح، و المراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم، و يقولون لا نطوف بيت ربنا في ثياب عصيناه بها.
بِالْقِسْطِ و القسط الاعتدال في جميع الأمور، و هو الوسط بين الإفراط و التفريط.
وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ و إقامة الشيء: إعطاؤه حقه، و توفيته شروطه كإقامة الصلاة، و إقامة الوزن بالقسط، و الوجه قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما في قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و قد يطلق على توجه القلب و صحة القصد كما في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً . فَرِيقاً هَدى :
و في «القاموس»: و الفرقة- بالكسر- الطائفة من الناس، و الجمع فرق، و الفريق كأمير أكثر منها، و الجمع أفرقاء و أفرقة و فروق. اه.
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 282
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة و الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: وَ يا آدَمُ
؛ أي: و قلنا يا آدم، و في قوله: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما ؛ أي: فكلا منها؛ أي: من ثمارها حيث شئتما.
و منها: المبالغة في النهي عن الأكل في قوله:
وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ؛ لأنه عبر عن النهي من الأكل بالنهي عن القربان مبالغة.
و منها: التأكيد في قوله: اسْكُنْ أَنْتَ
و في قوله: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أكد الخبر بالقسم و ب (إن) و باللام و بإسمية الجملة؛ لدفع شبهة الكذب، و هو من الضرب الذي يسمى إنكاريا؛ لأن السامع متردد.
و منها: تخصيص الخطاب بآدم «1» ، في قوله:
وَ يا آدَمُ اسْكُنْ للإيذان بأصالته في تلقي الوحي، و تعاطي المأمور به، و تعميمه في قوله: فَكُلا ، و قوله: وَ لا تَقْرَبا للإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به، و تجنب المنهى عنه.
و منها: المجاز المرسل، في قوله:
فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ لأنه مجاز عن الأكل من إطلاق المسبب و إرادة السبب.
و منها: الاستفهام التقريري في قوله: أَ لَمْ أَنْهَكُما
و هو «2» حمل المخاطب على الإقرار بما علم عنده ثبوته أو نفيه. و المعنى «3» : أقر بذلك على حد أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) .
و منها: الاستعارة التصريحية في قوله: وَ رِيشاً
شبه لباس الزينة بريش الطائر بجامع الزينة في كل؛ لأن الريش زينة الطائر، كما أن اللباس زينة الأدميين، فاستعير اسم المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة التصريحية.
و منها: التشبيه في قوله:
وَ لا تَقْرَبا لأنه من إضافة المشبه به إلى المشبه، فهو من قبيل إضافة لجين الماء، و قال الشوكاني «4» : و مثل هذه الاستعارة كثير
(1) الفتوحات.
(2) الصاوي.
(3) الصاوي.
(4) فتح القدير.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 283
الوقوع في كلام العرب، و منه قوله:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
تقلب عريانا، و إن كان كاسيا
و مثله قوله:
تغط بأثواب السخاء فإنني
أرى كل عيب و السخاء غطاؤه
و منها: الالتفات في قوله: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
و كان «1» مقتضى الظاهر لعلكم تذكرون، و نكتته دفع الثقل في الكلام.
و منها: الطباق في قوله: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ
؛ لأن بين الجملتين طباقا، و هو من المحسنات البديعية.
و منها: المقابلة في قوله: فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ
. و منها: الإسناد المجازي في قوله: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما
؛ لأنه أسند النزع إليه لتسببه فيه.
و منها: حكاية الحال الماضية، في قوله: يَنْزِعُ
: عبر «2» بلفظ المضارع و على أنه حكاية حال؛ لأنها قد وقعت و انقضت.
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع
. و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
(1) الصاوي.
(2) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 284
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 43]
. المناسبة
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... الآية، مناسبة «1»
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 285
هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما أمر عباده في الآية السالفة بالعدل في كل الأمور، و اتباع الوسط منها .. طلب إلينا أن نأخذ بالزينة في كل مجتمع للعبادة، فلنستعمل الثياب الحسنة في الصلاة و الطواف و نحو ذلك، كما أباح لنا أن نأكل و نشرب مما خلق اللّه، بشرط أن لا نسرف في شيء من ذلك.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما أنكر في الآية السالفة على المشركين و غيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة اللّه التي أخرجها لعباده و الطيبات من الرزق .. ذكر هنا أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها، و جميعها من الأعمال الكسبية، لا من المواهب الخلقية؛ ليستبين للناس أن اللّه لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم.
قوله تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما بين جماع المحرمات على بني آدم لما فيها من المفاسد و المضار للأفراد و المجتمع إثر بيان المباحات من الزينة و الطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها .. ذكر هنا حال الأمم في قبول هذه الأصول، أو ردها، و السير على منهاجها بعد قبولها، أو الزيغ عنها.
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ...
الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلها «1» : أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر أن لكل أمة أجلا لا تعدوه .. حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها، و بينه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها، و تكميل فطرتها، و أرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقي اللّه فيما تأتي و تذر، و تصلح أعمالها، فلا يحصل لها في الآخرة خوف و لا حزن، و إن هي تمردت و استكبرت، و كذبت الرسل كانت عاقبتها النار، و بئس القرار.
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ... الآيات، مناسبة هذه
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 286
الآيات لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر في الآية السابقة عاقبة المكذبين بآياته المستكبرين عن قبولها و الإذعان لها .. ذكر هنا أن من أشدهم ظلما من يتقولون على اللّه الكذب، فينسبون إليه ما لم يقله كمن يثبت الشريك للّه تعالى سواء كانت صنما، أو كوكبا، أو يضيف إليه أحكاما باطلة، أو يكذب ما قاله، كمن ينكر أن القرآن نزل من عند اللّه تعالى على رسوله محمد صلى اللّه عليه و سلم. و قال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها «1» : أنه تعالى لما ذكر المكذبين .. ذكر من هو أسوأ حالا منهم، و هو من يفتري الكذب على اللّه، و ذكر أيضا من كذب بآياته.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه الآية من تتمة ما سلف من وعيد الكفار، و جزاء المكذبين بالقرآن المستكبرين عن الايمان، بين بها أنهم خالدون في النار، و أنهم يلاقون فيها من الشدائد و الأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه، و أن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم، و استكبارهم عن طاعة ربهم، و اتباع أوامره.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن اللّه سبحانه و تعالى، لما ذكر «2» وعيد أهل الكفار و المعاصي .. أردفه وعد أهل الطاعات، و قد جرت سنة القرآن بالجمع بينهما، فيبدأ بأحدهما لمناسبة سياق الكلام قبله، ثم يقفوه بالآخر.
أسباب النزول
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... الآية، سبب نزولها «3» : ما روى مسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، و هي عريانة و على فرجها خرقة، و هي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه
فما بدا منه فلا أحلّه
(1) البحر المحيط.
(2) المراغي.