کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 325
مجانس لما بعدها- كما تبدل طاء أو دالا في نحو: اصطبر، و اضطرب، و ازدجر- إذا وزن ما هي فيه قالوا: نلفظ في الوزن بأصل تاء الافتعال، و لا نلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فنقول: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، و وزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك نقول هنا: وزن اداركوا تفاعلوا لا افّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال، و تاء التفاعل في ذلك.
قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ و أخراهم و أولاهم يحتمل أن يكون فعلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، و المعنى على هذا كما قال الزمخشري: أخراهم منزلة؛ و هم الأتباع و السفلة لأولاهم منزلة؛ و هم القادة و السادة و الرؤساء، و يحتمل أن تكون أخرى بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل أول، لا تأنيث آخر الذي للمفاضلة كقوله:
وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و الفرق بين أخرى بمعنى آخرة، و بين أخرى تأنيث آخر بزنة أفعل التفضيل أن التي للتفضيل لا تدل على الانتهاء كما لا يدل عليه مذكرها، و لذلك يعطف أمثالها عليها في نوع واحد تقول: مررت بامرأة و أخرى و أخرى، كما تقول: مررت برجل و آخر و آخر، و هذه تدل على الانتهاء كما يدل عليه مذكرها، و لذلك لا يعطف أمثالها عليها، و لأن الأولى تفيد إفادة غير، و هذه لا تفيد إفادة غير، و الظاهر في هذه الآية الكريمة أنهما ليستا للتفضيل، بل لما ذكرت لك. اه «سمين».
عَذاباً ضِعْفاً و المراد بالضعف هنا «1» : تضعيف الشيء و زيادته إلى ما لا يتناهى، لا الضعف بمعنى مثل الشيء مرة واحدة. اه. «كرخي». و في «السمين»: قوله: ضِعْفاً قال أبو عبيدة: الضعف: مثل الشيء مرة واحدة.
و قال الأزهري: ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم، و الضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، و لا يقتصر به على مثلين، بل تقول:
هذا ضعفه؛ أي: مثلاه و ثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قول اللّه تعالى: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ لم يرد به مثلا و لا مثلين، و أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ
(1) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 326
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها فأقل الضعف محصور و هو المثل، و أكثره غير محصور اه.
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ و في «السمين»: و الولوج: الدخول بشدة، و لذلك يقال: هو الدخول في ضيق، فهو أخص من مطلق الدخول، و الوليجة: كل ما يعتمده الإنسان، و الوليجة: الداخل في قوم ليس هو منهم. و في «المصباح»: ولج الشيء في غيره يلج- من باب وعد- و لوجا إذا دخل، و أولجته إيلاجا: أدخلته. اه.
و الجمل: الذكر من الإبل قيل: لا يقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين، و أول ما يخرج ولد الناقة حوار إلى الفطام، و بعده فصيل إلى سنة، و في الثانية ابن مخاض و بنت مخاض، و في الثالثة ابن لبون و بنت لبون، و في الرابعة حق و حقة، و في الخامسة جذع و جذعة، و في السادسة ثني و ثنية، و في السابعة رباع و رباعية مخففة، و في الثامنة سديس لهما، و قيل: سديسة للأنثى، و في التاسعة بازل و بازلة، و في العاشر خلف و خلفة، و ليس بعد البزول و الأخلاف سن بل يقال: بازل عام أو عامين، و خلف عام و عامين حتى يهرم، فيقال: له عود.
سَمِّ الْخِياطِ و في «المصباح»: السم: ما يقتل بالفتح في الأكثر، و جمعه سموم- مثل فلس و فلوس- و سمام أيضا مثل: سهم و سهما، و الضم لغة لأهل العالية، و الكسر لغة لبني تميم، و السم ثقب الإبرة، و فيه اللغات الثلاث، و جمعه سمام كسهام. و في «السمين»: و سم الخياط: ثقب الإبرة، و هو الخرق و سينه مثلثة، و كل ثقب ضيق فهو سم، و قيل: كل ثقب في البدن، و قيل: كل ثقب في أنف أو أذن فهو سم، و جمعه سموم، و السم القاتل سمي بذلك للطفه، و تأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، و هو في الأصل مصدر، ثم أريد به معنى الفاعل؛ لدخوله باطن و البدن، و قد سمه إذا أدخله فيه، و منه السامة للخاصة الذين يدخلون في باطن الأمور و مسامها، و لذلك يقال لهم: الدخال، و السموم:
الريح الحارة؛ لأنها تؤثر تأثير السم القاتل. و الخياط و المخيط: الآلة التي يخاط بها فعال و مفعل كإزار و مئزر، و لحاف و ملحف، و قناع و مقنع. اه.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ؛ أي: فراش وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ : جمع غاشية أصله: غواشي بتنوين الصرف، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فاجتمع ساكنان الياء و التنوين، فحذفت الياء، ثم لوحظ كونه على صيغة مفاعل في
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 327
الأصل، فحذف تنوين الصرف، فخيف من رجوع الياء فيحصل الثقل، فأتي بالتنوين عوضا عنها، فغواش المنون ممنوع من الصرف؛ لأن تنوينه تنوين عوض كما علمت، و تنوين الصرف قد حذف، و هذا بناء على أن الإعلال؛ أي: التغيير و التصرف بالحذف مقدم على منع الصرف؛ أي: حذف التنوين، و إنما كان الراجح تقديم الإعلال؛ لأن سببه ظاهر؛ و هو الثقل، و سبب منع الصرف خفي؛ و هو مشابهة الفعل.
و في «السمين»: و للنحاة في الجمع الذي على مفاعل إذا كان منقوصا بقياس خلاف: هل هو منصرف أو غير منصرف؟ فبعضهم قال: هو منصرف؛ لأنه قد زالت منه صيغة منتهى الجموع، فصار وزنه وزن جناح، و قد زال فانصرف. و قال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، و التنوين تنوين عوض، و اختلف في المعوض عنه ماذا؟ فالجمهور: على أنه عوض من الياء المحذوفة.
و ذهب المبرد: إلى أنه عوض من حركتها، و الكسر ليس كسر إعراب، و هكذا جوار و موال، و بعض العرب يعرب غواش و نحوه بالحركات على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة، فيقول: هؤلاء جوار، و قرىء: وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ - برفع الشين- كما مر.
مِنْ غِلٍ و الغل:- بالكسر- الغش و الحق أيضا، و قد غل صدره يغل- بالكسر- غلا إذا كان ذا غش أو ضغن أو حقد. اه من «المختار» و يجمع على غلال.
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة و الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: التكرار في قوله: يا بَنِي آدَمَ
. و منها: المجاز المرسل في قوله: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
لأن المراد بالمسجد الصلاة و الطواف علاقته المحلية، و لما كان المسجد محل الصلاة و الطواف أطلق عليهما ذلك.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 328
و منها: الجناس المغاير بين وَ لا تُسْرِفُوا و بين الْمُسْرِفِينَ
. و منها: الطباق بين ظهر و بطن في قوله: ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ
و بين أولاهم و أخراهم، في قوله: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ و بين مهاد و غواش، في قوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ .
و منها: الظرفية المجازية في قوله: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ
؛ أي: ادخلوا حال كونكم في أمم.
و منها: عطف العام على الخاص في قوله: وَ الْإِثْمَ
؛ لأنه معطوف على الْفَواحِشَ ، فيشمل الفواحش و غيرها.
و منها: عطف الخاص على العام؛ لمزيد الاعتناء به
في الثلاثة المذكورة بعد الْإِثْمَ .
و منها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: سُلْطاناً
استعاره للحجة؛ لأن لها تسلطا على القلب.
و منها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ
. و منها: الطباق بين لا يَسْتَأْخِرُونَ .. وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ
. و منها: الاعتراض في قوله: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
اعترض به بين المبتدأ و الخبر.
و منها: التهكم في قوله: فَذُوقُوا الْعَذابَ
. و منها: الكناية في قوله: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ
لأنه كناية عن عدم قبول عملهم و دعائهم.
و منها: تعليق الممكن بالمستحيل إفادة لاستحالته في قوله:
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فاستفيد منه أن دخول الكافر الجنة مستحيل.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 329
و منها: المجاز المرسل في قوله:
وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ لأن المراد ما في قلوبهم علاقته المحلية.
و منها: الإتيان باسم الإشارة البعيدة في قوله: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
إشارة إلى عظم رتبتها و مكانتها على حد قوله: ذلِكَ الْكِتابُ .
و منها: الاستعارة في قوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ
قال أبو حيان: هذا استعارة لما يحيط بهم من النار.
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع
. و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 330
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأعراف (7): الآيات 44 الى 58]
. المناسبة
قوله تعالى: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 331
قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى، لما ذكر «1» وعيد الكفار و ثواب أهل الإيمان ..
أردف ذلك ببيان بعض ما يكون بين الفريقين، فريق أهل الجنة و فريق أهل النار من المناظرة و الحوار بعد استقرار كل منهما في داره.
و فيها دليل على أن الدارين في أرض واحدة يفصل بينهما سور لا يمنع إشراف أهل الجنة، و هم في أعلى عليين على أهل النار؛ و هم في هاوية الجحيم، و أن بعضهم يخاطب بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة النعمة، و يزيد أهل النار حسرة و شقاء على ما كان من التفريط في جنب اللّه تعالى.
و هذا التخاطب لا يقتضي قرب المكان على ما هو معهود في الدنيا، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات، و يرى من أقاصي الجهات. و إن ما جد الآن من المخترعات و الآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد، و تفصل بينهما ألوف الأميال، إما بالإشارات الكتابية كالبرق- التلغراف اللاسلكي و السلكي- و إما بالكلام اللساني كالمسرة التليفون اللاسلكي و السلكي، ليقرب هذا أتم التقريب، و يزيدنا فهما له. و قد تم لهم الآن أن يروا صورة المتكلم بالتليفون مطبوعة على الآلة التي بها الكلام، و أن ينقلوا الصور من أقصى البلدان إلى أقصاها بهذه الآلة التلفاز.
قوله تعالى: وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى، لما ذكر «2» مقال أهل الجنة لأهل النار، و مقال أصحاب الأعراف لأهل النار .. أردف ذلك بما قال أهل النار لأهل الجنة، و طلبهم منهم بعض ما عندهم من نعم اللّه عليهم.
قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ... الآية، مناسبة هذه
(1) المراغي.