کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 378
المدح و التشريف، و إن كان كل من النباتين يخرج بإذن اللّه تعالى.
و منها: الكناية في قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِ
؛ أي: بمشيئته؛ لأنه كناية عن كثرة النبات و حسنه و غزارة نفعه، لأنه أوقعه في مقابلة قوله: وَ الَّذِي خَبُثَ .
و منها: الطباق بين قوله: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ و قوله: وَ الَّذِي خَبُثَ
. و منها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى
؛ لأنه شبه قيام الموتى من قبورهم بإخراج النبات من الأرض، فذكرت الأداة، و لم يذكر وجه الشبه، و هو مطلق الإخراج من العدم.
و منها: إيجاز القصر في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ
و هو جمع الألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة، فالآية مع قلة ألفاظها جمعت معاني كثيرة استوعبت جميع الأشياء و الشؤون على وجه الاستقصاء حتى قال ابن عمر: من بقي له شيء ..
فليطلبه، و هذا الأسلوب البليغ يسمى إيجاز قصر.
و منها: الاكتفاء في قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ
و هو حذف أحد المتقابلين لعلمه من الآخر؛ لأن فيه محذوفا تقديره: و يغشي النهار الليل، و ذكره في آية أخرى، فقال: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ .
و منها: التكرار في قوله: وَ نادى وَ نادى
، و في قوله: تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ .
و منها: جناس الاشتقاق في قوله: مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا
. و منها: الجناس المماثل في قوله: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا
. و منها: الاستفهام التوبيخي في مواضع
. و منها: الإنكاري في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ
. و منها: الإضافة للتشريف في قوله: رُسُلُ رَبِّنا
.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 379
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع
. و منها: القصر في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ
. و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 380
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 74]
. المناسبة
قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ... الآيات، مناسبة «1» هذه الآية
(1) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 381
لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى، لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني، و هو آدم عليه السلام، و قص من أخباره ما قص، و استطرد من ذلك إلى المعاد و مصير أهل السعادة إلى الجنة، و أهل الشقاوة إلى النار، و أمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا، و كان من بعث إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أولا غير مستجيبين له و لا مصدقين لما جاء به عن اللّه سبحانه و تعالى .. قص تعالى عليه أحوال الرسل الذين كانوا قبله، و أحوال من بعثوا إليه على سبيل التسلية له صلى اللّه عليه و سلم، و التأسي بهم، فبدأ بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر، و أول رسول بعث إلى من في الأرض، و أمته أدوم تكذيبا له و أقل استجابة.
و عبارة المراغي هنا: أنه سبحانه و تعالى لما ذكر «1» مبدأ الإنسان و معاده، و أن مرده إلى اللّه في يوم تجازى فيه كل نفس بما كسبت .. أردف ذلك بذكر قصص الأنبياء مع أممهم، و إعراضهم عن دعوتهم؛ ليبين للرسول أن الإعراض عن قبول دعوة الأنبياء ليس ببدء في قومك، بل سبق به أقوام كثيرون، و في ذلك تسلية له صلى اللّه عليه و سلم إلى ما فيه من التنبيه إلى أن اللّه تعالى لا يهمل أمر المبطلين، بل يمهلهم، و تكون العاقبة للمتقين، و من العظة و الاعتبار بما حل بمن قبلهم من النكال و الوبال كما قال: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ .
و في «الخازن»: و اعلم أن «2» اللّه تبارك و تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته، و غرائب خلقه و صنعته الدالة على توحيده و ربوبيته، و أقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت .. أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، و ما جرى لهم مع أممهم، و في ذلك تسلية للنبي صلى اللّه عليه و سلم؛ لأنه لم يكن الإعراض عن قبول الحق من قومه فقط، بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية، و القرون الماضية، و فيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار و الهلاك في الدنيا، و في الآخرة إلى العذاب العظيم، فمن كذب بمحمد صلى اللّه عليه و سلم من قومه .. كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من
(1) المراغي.
(2) الخازن.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 382
الأمم، و في ذكر هذه القصص دليل على صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم؛ لأنه كان أميا لا يقرأ و لا يكتب، و لم يلق أحدا من علماء زمانه، فلما أتى بمثل هذه القصص و الأخبار عن القرون الماضية و الأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد .. علم بذلك أنه إنما أتى به من عند اللّه عز و جل، و أنه أوحي إليه ذلك، فكان ذلك دليلا واضحا، و برهانا قاطعا على صحة نبوته صلى اللّه عليه و سلم. انتهى.
التفسير و أوجه القراءة
و اللام في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا و بعثنا نُوحاً إِلى مشركي قَوْمِهِ واقعة في جواب قسم محذوف تقديره: و عزتي و جلالي لقد أرسلنا نوح بن لمك- بفتح الميم و سكونها- بن متوشلخ ابن أخنوخ، و هو اسم إدريس عليهما السلام، و اسم نوح عبد الغفار، و لقب بنوح؛ لكثرة نياحته؛ و إما لدعوته على قومه بالهلاك، أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان، أو لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فأوحى اللّه إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. و تركت «1» الواو هنا و ذكرت في سورة هود و المؤمنون؛ لعدم تقدم ما يعطف عليه هنا بخلاف ما يأتي، و إنما أتى بالقسم هنا للرد على المنكرين، و هو مما يجب التأكيد فيه، و قدم قصة نوح؛ لأن قومه أول من كفر، و لأنه أول رسول أرسله اللّه إلى قومه المشركين كما هو رأي كثير من المحققين كما ثبت في حديث الشفاعة و غيره.
و الحاصل:
أن اللّه سبحانه و تعالى أقسم للمخاطبين بهذه الآية من أهل مكة و من جاورهم من العرب بأنه سبحانه أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه منذرا لهم بأسه، و مخوفهم سخطه على عبادتهم غيره، و قد كانوا ينكرون الرسالة و الوحي إذ ليس عندهم من علوم الرسل و الأمم شيء إلا ما يتلقونه من اليهود و النصارى في بلاد العرب و الشام فَقالَ نوح يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ؛ أي: وحدوه بالعبادة.
و قوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ في حكم العلة لقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ ؛ أي: اعبدوا
(1) الصاوي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 383
اللّه؛ لأنه ليس لكم إله غيره تتوجهون إليه في عبادتكم بدعاء تطلبون به ما تقدرون عليه، فربكم هو الخالق لكل شيء، و بيده ملكوت كل شيء، و هو الإله الحق الذي يجب أن تتوجه إليه القلوب بالدعاء و غيره.
ثم ذكر السبب في الأمر بعبادته وحده، و ترك أدنى شوائب الشرك مثبتا للبعث و الجزاء، فقال: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ؛ أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم شديد هوله، و هو يوم البعث و الجزاء إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به من عبادة اللّه وحده، و ترك ما سواه، قال أبو السعود: هذه الجملة تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها، انتهى. قال أبو حيان: و في هذه الجملة إظهار الشفقة و الحنو عليهم. و قرأ «1» ابن وثاب و الأعمش و أبو جعفر و الكسائي: غيره- بالجر- على أنه بدل من لفظ إله، أو نعت له. و قرأ باقي السبعة بالرفع على أنه صفة لإله، أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء؛ لأن مِنْ زائدة، و لَكُمْ خبره. و قرأ عيسى بن عمر: غيره بالنصب على الاستثناء، و الجر و الرفع أفصح.
قالَ الْمَلَأُ ؛ أي: الأشراف و الرؤساء و الكبراء مِنْ قَوْمِهِ الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ و خطأ عن الحق مُبِينٍ ؛ أي: بين واضح ظاهر بتركك ملة آبائك حيث نهيتنا عن عبادة آلهتنا ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و هم شفعاؤنا عند اللّه، و وسيلتنا إليه فببركتهم يتقبل منا صالح أعمالنا، و يعطينا سؤلنا لما كانوا من الصلاح و التقوى، و نحن لا نستطيع أن نوجه دعواتنا دون وساطتهم؛ لما نجترحه من السيئات التي تبعدنا عن حظيرة ذلك القدس الأعظم.
و خلاصة مقالتهم:
أنت في غمرة من الضلال أحاطت بك، فجعلتك لا تجد إلى الصواب سبيلا، و لم يقل «2» هنا: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ كما قال في قوم هود فيما سيأتي؛ لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن و من كفر، بخلاف
(1) البحر المحيط.
(2) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج9، ص: 384
الملأ من قوم نوح، فكلهم أجمعوا على هذا الجواب، فلم يكن أحد منهم مؤمنا، فإن قيل: سيأتي في سورة هود تقييد قوم نوح بالذين كفروا، فالجواب:
أن ما سيأتي في دعائهم إلى الإيمان في أثناء زمن رسالته، فكان فيهم من آمن و من كفر، و أما ما هنا فهو في أول دعائه لهم.
قالَ نوح عليه السلام مجيبا لهم: يا قَوْمِ ي، ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لقلوبهم نحو الحق لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ؛ أي: ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة وَ لكِنِّي رَسُولٌ إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ .
و المعنى
«1» : قال نوح عليه السلام في الجواب لهم: يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من توحيد اللّه، و إخلاص الطاعة له دون الآلهة و الأنداد خروجا مني عن محجة الحق، و ضلالا عن سبيل الرشاد، و لكني رسول من رب العالمين إليكم أهديكم باتباعي إلى ما يوصلكم إلى السعادة في دنياكم و آخرتكم، و أنقذكم من الهلاك الأبدي بالشرك باللّه و المعاصي المدنسة للأنفس، و المفسدة للأرواح، و من رحمة ربكم بكم أن لا يدعكم في عمايتكم و شرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم حتى يبين لكم الحق من الباطل على يد رسول من لدنه يسلك بكم السبيل السويّ الموصل إلى النجاة. و إنما «2» قال: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ و لم يقل: ليس بي ضلال؛ لأن نفيها أعم من نفي الضلال؛ لأن ضلالة دالة على واحدة غير معينة، و نفي فرد غير معين نفي عام بخلاف ضلال؛ فإنه مصدر يعم الواحد و التثنية و الجمع، و نفيه لا يقتضي على سبيل القطع النفي العام، فكان قوله: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أبلغ في نفي الضلال عن نفسه من قوله: ليس بي ضلال.
و لكن جاءت هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين؛ لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال و هدى، و الرسالة لا تجامع الضلال. و في قوله: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تنبيه على أنه ربهم؛ لأنهم من جملة العالم؛ أي: من ربكم المالك
(1) المراغي.