کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 39
بمرفوع كقولهم: عاد السعر رخيصا، و استشكلوا على كونها بمعناها الأصلي أنّ شعيبا عليه السلام لم يكن قط على دينهم، و لا في ملتهم، فكيف يحسن أن يقال: أو لتعودن؛ أي: ترجعن إلى حالتكم الأولى، و الخطاب له و لأتباعه؟ و قد أجيب عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس على العوام، و الإيهام لهم أنّه كان على دينهم و على ملتهم.
الثاني: أن يراد بعوده رجوعه إلى حاله قبل بعثته من السكون؛ لأنّه قبل أن يبعث إليهم كان يخفي إيمانه، و هو ساكت عنهم، بريء من معبوداتهم غير اللّه.
الثالث: تغليب الجماعة على الواحد؛ لأنّهم لما أصحبوه مع قومه في الإخراج .. سحبوا عليه و عليهم حكم العود إلى الملة تغليبا لهم عليه، و أما إذا جعلنا بمعنى صار .. فلا إشكال في ذلك، إذ المعنى: لتصيرن في ملتنا بعد أن لم تكونوا، و في ملتنا حال على الأول، خبر على الثاني، و عدي عاد بفي الظرفية تنبيها على أنّ الملة صارت لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا ؛ أي: اقض؛ لأنهم يسمون القاضي: الفاتح و الفتاح؛ لأنّه يفتح مواضع الحق اه كرخي، و في «السمين»: أن الفتح: الحكم بلغة حمير، و قيل: بلغة مراد، و في «المراغي» الفتح: إزالة الإغلاق و الإشكال و هو قسمان: حسي يدرك بالبصر، كفتح العين و القفل و الكلام الذي يكون من القاضي، و معنوي يدرك بالبصيرة، كفتح أبواب الرزق و المغلق من مسائل العلم، و النصر في وقائع الحرب، و المبهم من قضايا الحكم، و يقال: فتح اللّه عليه إذا جد و أقبلت عليه الدنيا، و فتح اللّه عليه نصره، و فتح الحاكم بينهم، و ما أحسن فتاحته؛ أي: حكمه كما قال شاعرهم:
ألا أبلغ بني وهب رسولا
بأنّي عن فتاحتهم غنيّ
و يقال: بينهم فتاحات؛ أي: خصومات، و ولي الفتاحة؛ أي: القضاء.
انتهى.
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الرجف الحركة و الاضطراب، و المراد منها: الزلزلة
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 40
الشديدة، و منه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ و قال هنا و في سورة العنكبوت:
الرجفة، و في سورة هود وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ؛ أي: صيحة جبريل و صرخته عليهم من السماء، و لعلها؛ أي: الصيحة كانت في مبادىء الرجفة، فأسند هلاكهم إلى السبب القريب تارة، و إلى البعيد أخرى. اه أبو السعود.
و قال قتادة «1» : بعث اللّه شعيبا إلى أصحاب الأيكة و إلى أهل مدين، فأما أصحاب الأيكة .. فأهلكوا بالظلة، و أمّا أهل مدين .. فأخذتهم الرجفة، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعا، و قال أبو عبد اللّه البجلي: كان أبو جاد و هوز، و حطي، و كلمن، و سعفص، و قرشت، ملوك مدين، و كان ملكهم في يوم الظلة اسمه كلمن، فلما هلك رثته ابنته بشعر اه.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أصله يغنيوا بوزن يفعلوا، استثقلت الضمة على الياء ثم حذفت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، أو يقال: تحركت الياء و انفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف فصار: يغنوا بوزن يفعوا، و في «المصباح»: غني بالمال يغنى غنى، مثل رضي يرضى رضى، فهو غني، و الجمع أغنياء، و غني بالمكان: إذا نزل به و اقام فيه فهو غان. اه.
فَكَيْفَ آسى و الأسى شدة الحزن، و أصل آسى أأسى بهمزتين، قلبت الثانية ألفا، و في «المصباح» و أسى أسا- من باب تعب- حزن، فهو أسى مثل حزين. اه.
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه، و الحسنة: كل ما يستحسنه الطبع و العقل، فأخبر اللّه تعالى في هذه الآية بأنه يؤاخذ أهل المعاصي و الكفر تارة بالشدة، و تارة بالرخاء على سبيل الاستدراج.
وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ القرية المدينة الجامعة لزعماء الأمة و رؤسائها- العاصمة- و البأساء الشدة و المشقة، كالحرب و الجدب، و شدة الفقر، و الضراء ما
(1) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 41
يضر الإنسان في بدنه، أو نفسه، أو معيشته، و الأخذ بها، جعلها عقابا لهم.
و التضرع إظهار الضراعة؛ أي: الضعف و الخوضع حَتَّى عَفَوْا ؛ أي: حتى نموا و كثروا عددا و عددا، من عفا النبات و الشعر إذا كثر و تكاثف بَغْتَةً ؛ أي:
فجأة، فهو الأخذ حال السعة و الرخاء، لا حال الجدب كما قيل؛ فإنّه قد بدل بالسعة. اه أبو السعود.
بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ تشمل معارف الوحي العقلية، و نفحات الإلهام الربانية، و المطر، و نحوه مما يوجب الخصب و الخير في الأرض، و بركات الأرض، النبات و الثمار، و جميع ما فيها من الخيرات و الأنعام و الأرزاق، و الأمن، و السلامة من الآفات، و كل ذلك من فضل اللّه و إحسانه على عباده، و أصل البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، و سمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه، و كذا ثبوت البركة في نبات الأرض، لأنّه نشأ من بركات السماء، و هي المطر، و قال البغوي: أصل البركة المواظبة على الشي؛ أي: تابعنا عليهم المطر من السماء، و النبات من الأرض، و رفعنا عنهم القحط و الجدب. اه خازن.
بَأْسُنا بَياتاً البأس العذاب، بياتا؛ أي: وقت بيات، و هو الليل.
ضُحًى ؛ أي: ضحوة النهار، و هي في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت، اه أبو السعود، و في «السمين»: و الضحى: انبساط الشمس، و امتداد النهار، و سمى به الوقت، و يقال: ضحى و ضحاء، إذا ضممته قصرته، و إذا فتحته مددته، و قال بعضهم: الضحى- بالضم و القصر- لأول ارتفاع الشمس، و الضحاء- بالفتح و المد- لقوة ارتفاعها قبل الزوال، و الضحى مؤنث اه.
يَلْعَبُونَ ؛ أي: يلهون من فرط غفلتهم مَكْرَ اللَّهِ : و المكر التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب، و في «المختار»: المكر الاحتيال و الخديعة، و قد مكر من باب نصر، فهو ماكر و مكّار. اه و في «السمين»: و المراد بمكر اللّه هنا: فعل يعاقب به الكفرة على كفرهم، و أضيف إلى اللّه لما كان عقوبة على ذنبهم أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ يقال: هداه
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 42
السبيل و هداه إليه، و هداه له؛ أي: دله عليه و بينه له.
مِنْ عَهْدٍ العهد الوصية، و الوصية تارة يراد بها إنشاؤها و إيجادها، و أخرى يراد بها ما يوحى به، و يقال: عهدت إليه بكذا؛ أي: وصيته بفعله أو حفظه، و هو إما أن يكون بين طرفين- و هو المعاهدة- و إما من طرف واحد، بأن يعهد إليك بشيء، أو تلزم بشيء، و الميثاق: هو العهد الموثق بضرب من ضروب التوكيد.
و قال الراغب «1» : عهد اللّه تارة يكون بما ركزه في عقولنا، و تارة يكون بما أمرنا به في الكتاب و ألسنة رسله، و تارة بما نلتزمه و ليس بلازم في أصل الشرع، كالنذور و ما يجري مجراها اه (الفاسقين) و الفسوق: الخروج عن كل عهد فطري و شرعي، بالنكث و الغدر و غير ذلك من المعاصي، و وجدنا الأولى بمعنى ألفينا، و الثانية بمعنى علمنا.
البلاغة
و قد تضمنت هذه الأيات أنواعا من البلاغة و الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: تغليب حكم الجماعة على الواحد في قوله: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ؛ لأنّ شعيبا لم يكن في ملتهم قط، فيعود فيها.
و منها: الاستفهام الإنكاري في قوله: أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ .
و منها: التكرار في قوله: وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا .
و منها: الإطناب في قوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ، و قوله: أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى لزيادة التقرير.
و منها: الاستعارة التصريحية في قوله: وَسِعَ رَبُّنا ؛ لأنّه كناية عن الإحاطة، و في قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا ؛ لأن الفتح حقيقة في الأجسام كفتح الباب، و في قوله: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ ؛ لأنّه استعارة لاستدراجه العبد و أخذه من حيث لا يحتسب، كما ذكره أبو السعود. و في قوله: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 43
السَّماءِ شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول، فهو من باب الاستعارة التصريحية التبعية؛ أي: وسعنا عليهم الخير من جميع الأطراف.
و منها: المجاز العقلي في قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، من الإسناد إلى السبب؛ أي: فأخذهم اللّه بالرجفة.
و منها: الطباق بين لفظ الْحَسَنَةَ و السَّيِّئَةِ و بين لفظ الضَّرَّاءِ و (السراء) في قوله: إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ ، و قوله: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ و بين قوله: الضَّرَّاءُ و السَّرَّاءُ في قوله: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ .
و منها: التفخيم «1» و التهويل في تكرار لفظ أَهْلَ الْقُرى لما في ذلك من التسميع و الإبلاغ و التهديد، ما لا يكون في الضمير لو قال: أو أمنوا؛ فإنّه متى قصد التفخيم و التعظيم و التهويل جيء بالاسم الظاهر.
و منها توسيط «2» النداء باسمه العلمي بين المعطوفين في قوله: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ ، لزيادة التقرير و التهديد، الناشئة عن غاية الوقاحة و الطغيان؛ أي: و اللّه لنخرجنك و أتباعك.
و منها: الإخبار المتضمن معنى التعجب في قوله: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً ، كأنّه قيل: ما أكذبنا على اللّه إن عدنا إلى الكفر، قاله الزمخشري.
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع.
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
(1) البحر المحيط.
(2) أبو السعود.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 44
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأعراف (7): الآيات 103 الى 126]
المناسبة
لما قص «1» اللّه سبحانه و تعالى على نبيه أخبار نوح و هود و صالح و لوط و شعيب، و ما آل إليه أمر قومهم، و كان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى و فرعون و بني إسرائيل، إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات، و أمته من أكثر الأمم تكذيبا و تعنتا و اقتراحا و جهلا، و كان قد بقي من أتباعه عالم و هم اليهود .. فقص اللّه علينا قصصهم لنعتبر و نتعظ و ننزجر عن أن نتشبه بهم.
(1) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 45
و مناسبة هذه الآية لما قبلها «1» : أنّ بين موسى و شعيب عليهما السلام مصاهرة- كما حكى اللّه تعالى في كتابه- و نسبا لكونهما من نسل إبراهيم، و لما استفتح قصة نوح بأرسلنا بنون العظمة .. أتبع ذلك قصة موسى فقال: ثُمَّ بَعَثْنا ، ذكره أبو حيان في «البحر».
و عبارة «المراغي» هنا: هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت في هذه السورة، و فيها من الإيضاح و التفصيل ما لم يذكر في غيرها؛ لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم، و جهل قومه كان أفحش، و قد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة و مختصرة، و ذكر اسمه في سور كثيرة، زادت على مئة و ثلاثين مرة، و سر هذا أنّ قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي صلى اللّه عليه و سلّم، إذ أنّه أوتي شريعة دينية دنيوية، و كوّن اللّه تعالى به أمة عظيمة، ذات ملك و مدنية.
التفسير و أوجه القراءة
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى ؛ أي: ثمّ بعثنا من بعد نوح و هود و صالح و لوط و شعيب عليهم السلام، أو من بعد إهلاك الأمم المذكورة؛ أي: ثم بعدما فرغنا من ذكر قصص الأنبياء المذكورين و أممهم، نذكر قصة موسى و قومه فنقول:
و عزتي و جلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران من بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل المذكورين في هذه السورة، و إهلاك أممهم، و قطع دوابرهم، حالة كونه مؤيدا بِآياتِنا و معجزاتنا التسع، و ملتبسا بأدلتنا و حججنا الدالة على صدقه، مثل العصا و اليد، و غيرهما من الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، كما سيأتي التعبير عنها بهذا العدد في سورة الإسراء إن شاء اللّه تعالى: إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ ؛ أي: أشراف قومه، و تخصيصهم «2» بالذكر مع عموم الرسالة لهم و لغيرهم؛ لأنّ من عداهم كالأتباع لهم، سموا «3» ملأ لأنّهم يملؤون المجالس بأجرامهم،
(1) البحر المحيط.
(2) الشوكاني.