کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 366
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لأن قوله سَأُلْقِي الخ كالتفسير لقوله: أَنِّي مَعَكُمْ و قوله: فَاضْرِبُوا الخ كالتفسير لقوله فَثَبِّتُوا ... الخ.
و منها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل، أو سبب الجمع بين العاجل و الآجل؛ لأنّ أصل الكلام فذوقوه و إن لكم عذاب النار، فوضع لِلْكافِرِينَ موضع لكم شهادة عليهم بالكفر و تنبيها على العلة المذكورة.
و منها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ .
و منها: التكرار في قوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ .
و منها: الجناس المماثل في قوله: شَاقُّوا اللَّهَ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ .
و منها: التهكم في قوله: فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ .
و منها: التهييج و الإلهاب- أي: الإطناب- في قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لأنّ الإيمان موجود فيهم مع الصفات السابقة، و المعنى: إن كنتم مستمرين على الإيمان.
و منها: الدلالة على التشريف و التكريم في قوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لأن في كونها عنده سبحانه و تعالى زيادة تشريف لهم و تكريم و تعظيم و تفخيم.
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع.
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
***
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 367
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 29]
المناسبة
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها «1» : أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار، و أمر من آمن بضرب فوق أعناقهم، و بنانهم .. حرضهم على الصبر عند مكافحة العدو، و نهاهم عن الانهزام.
(1) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 368
قوله تعالى: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه لما نهى اللّه تعالى عن تولي الأدبار .. توعد من ولى دبره وقت لقاء العدو.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها «1» : أن اللّه سبحانه و تعالى لما هدد المشركين بقوله: وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً .. أردف ذلك بتأديب المؤمنين، بالأمر بطاعة الرسول، و إجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين و صد من يمنع نشره و يقف في طريق تبليغ دعوته.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر «2» وجوب طاعة الرسول صلى اللّه عليه و سلّم، و عدم التولي حين الجهاد .. أردفه بالأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين و أحكامه عامة؛ لما في ذلك من تكميل الفطرة الإنسانية و سعادتها في الدنيا و الآخرة، و كرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر و النواهي، و إيماء إلى أنهم قد حصلوا ما يوجب عليهم الاستجابة، و هو الإيمان.
قوله تعالى: * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ 22 مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما «3» أخبر أن هؤلاء المشبه بهم لا يسمعون .. أخبر أن شر الحيوان الذي يدب الصم، أو أن شر البهائم، فجمع بين هؤلاء و بين جمع الدواب، و أخبر أنهم شر الحيوان مطلقا.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ...
الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما حذر من الفتنة بالأموال و الأولاد .. أردف ذلك بطلب التقوى التي ثمرتها ترك الميل و الهوى في محبة الأموال و الأولاد.
(1، 2) المراغي.
(3) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 369
أسباب النزول
قوله تعالى: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ... الآية، روى أبو داود (ج 2 ص 349): حدثنا محمد بن هشام المصري، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا داود بن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: نزلت في يوم بدر وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الحديث أخرجه الحاكم، و قال: صحيح على شرط مسلم، و أقره الذهبي و ابن جرير، و عزاه الحافظ بن كثير (ج 2/ ص 395) إلى النسائي، و ابن مردويه مع من ذكرنا، ثم قال: و هذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر، و إن كان سبب نزول الآية فيهم، كما دل عليه حديث أبي هريرة، من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجمهور و اللّه أعلم.
قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى ... الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال «1» :
أحدها: أن النبي صلى اللّه عليه و سلّم قال لعلي: «ناولني كفا من حصباء» فناوله فرمى به في وجوه القوم، بما بقى منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة، رواه الطبراني عن ابن عباس، و في رواية أخذ قبضة من تراب، فرمى بها، و قال: «شاهت الوجوه» فما بقى مشرك إلا شغل بعينيه بعالج التراب الذي فيها، فنزلت وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى و ذلك يوم بدر، و هذا قول الأكثرين.
و القول الثاني: أن أبيّ بن خلف، أقبل يوم أحد إلى النبي صلى اللّه عليه و سلّم يريده، فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم فخلوا سبيله، و طعنه النبي صلى اللّه عليه و سلّم بحربته، فسقط أبي عن فرسه، و لم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه و هو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: و الذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يقدم مكة، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن أبيه.
و الثالث: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم رمى يوم خيبر بسهم فأقبل السهم يهوي حتى
(1) زاد المسير.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 370
قتل ابن أبي الحقيق و هو على فراشه، فنزلت هذه الآية. ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين، و الحديث مرسل «1» ، جيد الإسناد، و المشهور أنها نزلت في رمية يوم بدر بالقبضة من الحصباء.
قوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ... الآية، روى «2» الحاكم عن عبد اللّه بن ثعلبة بن صغير، قال: كان المستفتح أبا جهل، فإنه قال حين التقى القوم: اللهم أينا كان أقطع للرحم، و أتى بما لا يعرف، فأحنه الغداة، و كان ذلك استفتاحا، فأنزل اللّه إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إلى قوله: وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ و أخرج ابن أبي حاتم عن عطية، قال: قال أبو جهل: اللهم انصر أعز الفئتين و أكرم الفرقتين، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ ... الآية، روى «3» سعيد بن منصور و غيره عن عبد اللّه بن أبي قتادة، قال: نزلت هذه الآية لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ في أبي لبابة رفاعة بن عبد المنذر، و ذاك أن النبي صلى اللّه عليه و سلّم لما حاصر بني قريظة، سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير، على أن يسيروا إلى أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا، و قالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، و كان مناصحا لهم، لأنّ ولده و أهله كانوا عندهم، فبعثه إليهم، فقالوا: ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، أنه الذبح فلا تفعلوا، فأطاعوه، فكانت تلك خيانته، قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت اللّه و رسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس و الأكثرين، و روي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد و قال: و اللّه لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت، أو يتوب اللّه علي، فمكث سبعة أيام كذلك، ثم تاب اللّه عليه، فقال:
و اللّه لا أحل نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم هو الذي يحلني، فجاء فحله بيده،
(1) لباب النقول.
(2) لباب النقول.
(3) زاد المسير.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 371
فقال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، و أن أنخلع من مالي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «يجزئك الثلث». و أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» و أخرج بعضه الطبري، و ابن هشام.
و روى ابن جرير «1» و غيره عن جابر بن عبد اللّه: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه و سلّم، فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا و كذا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: إن أبا سفيان في مكان كذا و كذا، فاخرجوا إليه و اكتموا، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنزل اللّه هذه الآية: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ الآية. غريب جدا، في سنده و سياقه نظر.
و أخرج ابن جرير عن السدي، قال: كانوا يسمعون من النبي صلى اللّه عليه و سلّم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين، فنزلت.
التفسير و أوجه القراءة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ؛ أي: صدقوا اللّه و رسوله إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛ أي: قابلتموهم للقتال حالة كونهم زَحْفاً ؛ أي: زاحفين لقتالكم زحفا، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر، و المعنى «2» على التشبيه؛ أي: حالة كونهم مثل الزاحفين و الماشين على أدبارهم، و ذلك لأن الجيش إذا كثر و التحم بعضهم ببعض يتراءى أن سيره بطيء، و إن كان في نفس الأمر سريعا، فالمقصود من هذه الحال بعد كون المراد التشبيه ما يلزم هذه المشابهة، و هو الكثرة.
فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ؛ أي: فلا تولوهم ظهوركم، و أقفيتكم منهزمين؛ أي:
لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم، بل قابلوهم بوجوهكم، و قاتلوهم مع قلتكم،
وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ ؛ أي: يوم إذ تلقونهم دُبُرَهُ بضمتين، و قراءة الحسن دُبُرَهُ : بسكون الباء كقولهم عنق في عنق، أي ظهره؛ أي: و من يجعل ظهره
(1) لباب النقول.
(2) الفتوحات.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج10، ص: 372
واليا و مقبلا إليهم شاردا منهزما منهم إِلَّا مُتَحَرِّفاً ؛ أي: إلا رجلا منعطفا مائلا لمكان رآه أحوج إليه لِقِتالٍ فيه، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه على اتباعه، حتى إذا انفرد عن أنصاره، كر عليه فقتله أَوْ مُتَحَيِّزاً ؛ أي: منتقلا منضما إِلى فِئَةٍ ؛ أي: إلى جماعة أخرى من المؤمنين، في جهة غير الجهة التي كان فيها، ليشد أزرهم، و ينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليهم ممن كان معهم؛ أي: من فعل ذلك التولي فَقَدْ باءَ ؛ أي: رجع عن قتاله حالة كونه ملتبسا بِغَضَبٍ عظيم مِنَ اللَّهِ سبحانه و تعالى وَ مَأْواهُ الذي يأوي إليه في الآخرة أي منزله و مسكنه في الآخرة جَهَنَّمُ دار العقاب وَ بِئْسَ ؛ أي:
قبح الْمَصِيرُ ؛ أي: المرجع هي. و انتصاب مُتَحَرِّفاً أَوْ مُتَحَيِّزاً على الاستثناء، أو على الحال كما سيأتي، و المعنى: و من ينهزم و يفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من اللّه، إلا المتحرف و المتحيز، و هذا مخصوص بما إذا لم يزد الكفار على الضعف، ذاك أن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك، و العذاب الدائم، و جوزي بضد غرضه.
و في الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، و جاء التصريح بذلك في صحيح الأحاديث، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا «اجتنبوا السبع الموبقات»- المهلكات- قالوا يا رسول اللّه و ما هي؟: قال:
«الشرك باللّه، و السحر، و قتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و التولي يوم الزحف، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات».