کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج16، ص: 184
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الإسراء (17): الآيات 70 الى 91]
المناسبة
قوله: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها «1» : أنّ اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر ما امتنّ به عليهم من إزجاء الفلك في البحر، و من
(1) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج16، ص: 185
تنجيتهم من الغرق ... تمم ذكر المنّة بذكر تكرمتهم، و رزقهم، و تفضيلهم. أو يقال: لما هددهم بما هدد به من الخسف، و الغرق، و أنهم كافرو نعمته .. ذكر ما أنعم به عليهم، ليتذكّروا فيشكروا نعمه و يقلعوا عما كانوا فيه من الكفر، و يطيعوه تعالى، و في ذكر النّعم و تعدادها هز لشكرها؛ أي: حثّ على شكرها.
قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ اللّه سبحانه و تعالى «1» ، لما ذكر أحوال بني آدم في الدنيا، و ذكر أنه أكرمهم على كثير من خلقه، و فضّلهم عليهم تفضيلا .. فصّل في هذه الآيات تفاوت أحوالهم في الآخرة مع شرح أحوال السعداء، ثم أردفه ما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضّلال، و الانخداع بكلامهم المشتمل على المكر، و التلبيس ثمّ قفى على ذلك ببيان أنّ سنّته قد جرت بأن الأمم التي تلجىء رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بدّ أن يصيبها الوبال و النكال.
قوله تعالى: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها:
أنه تعالى لمّا عدد نعمه على بني آدم، ثمّ ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، و من عمى أهل الشقاوة .. أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر و الخداع، و التلبيس على سيّد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة، ذكره في «البحر».
قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها «2» : أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر كيدهم للرسول صلى اللّه عليه و سلم و ما كانوا يرومون به .. أمره اللّه سبحانه و تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه، و أن لا يشغل قلبه بهم، و كان قد تقدّم القول في الإلهيات، و المعاد، و النبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات و الطاعات بعد الإيمان، و هي الصلاة.
(1) المراغي.
(2) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج16، ص: 186
و عبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ اللّه سبحانه و تعالى لمّا ذكر «1» كيد الكفّار و استفزازهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليخرجوه من أرضه، و سلّاه بما سلّاه به .. أمره بالإقبال على ربّه بعبادته، لينصره عليهم، و لا يبالي بسعيهم، و لا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم، و شرّهم، و يجعل يده فوق أيديهم، و دينه عاليا على أديانهم، ثمّ وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثمّ بيّن أن ما أنزل عليه من كتاب ربه فيه الشفاء للقلوب من الأدواء النفسية، و الأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرين خسارة و ضلالا، لأنه كلّما نزلت عليه آية ازدادوا بها كفرا و عتوا.
قوله تعالى: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر تنويع ما أنزل من القرآن شفاء و رحمة للمؤمن، و بزيادة خسار للظالم .. عرّض بما أنعم به، و ما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، و مع ذلك أعرض عنه، و بعّد بجانبه عنه اشمئزازا له، و تكبرا عن قرب سماعه، و تبديلا مكان شكر الإنعام كفره.
قوله تعالى: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ اللّه سبحانه و تعالى لما «2» امتنّ على نبيه بما أنزل عليه من الكتاب، و ذكر أنه شفاء للناس، و أنه ثبته عليه حين كادوا يفتنونه عنه، ثمّ أردفه بمسألة الروح اعتراضا، لأنّ اليهود و المشركين اشتغلوا بها عن تدبر الكتاب و الانتفاع به، و سألوا تعنتا عن شيء لم يأذن اللّه بالعلم به لعباده .. امتنّ عليه ببقاء ذلك الكتاب، و حذّره من فتنة الضالين، و إرجاف المرجفين، و هو المعصوم من الفتنة، فإنّه لو شاء لأذهب ما بقلبه منه، و لكن رحمة بالناس تركه في الصدور، و في هذا تحذير عظيم للهداة و العلماء، و هم غير معصومين من الفتنة بأن يباعد بينهم و بين هدي الدين بمظاهرتهم للرؤساء، و العامة، و تركهم العمل به اتباعا لأهوائهم، و استبقاء لودهم، و حفظا لزعامتهم على الناس.
(1) المراغي.
(2) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج16، ص: 187
ثم ذكر أنّ القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن و الإنس أن يأتوا بمثله، و لو كان بعضهم لبعض معينا، و قد اشتمل على الحكم و الأحكام، و الآداب التي يحتاج إليها البشر في معاشهم، و معادهم، و كثير من الناس جحدوا فضله عتوا و كبرا.
قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر «1» إنعامه على نبيه صلى اللّه عليه و سلم بالنبوة، و بإنزال وحيه عليه .. ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، و هو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، و أنّه من أكبر النعم عليه، و الفضل الذي أبقى له ذكرا إلى آخر الدهر، و رفع له قدرا به في الدنيا و الآخرة.
قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ...
الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ اللّه سبحانه و تعالى، لما «2» أقام الدليل على إعجاز القرآن، و لزمتهم الحجة، و غلبوا على أمرهم .. أخذوا يراوغون، و يقترحون الآيات، و يتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها، آمنوا به و صدّقوا برسالته.
أسباب النزول
قوله تعالى: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... الآيات، سبب نزولها «3» : ما أخرجه ابن مردويه، و ابن أبي حاتم، من طريق إسحاق عن محمد ابن أبي محمد عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج أميّة بن خلف، و أبو جهل بن هشام، و رجال من قريش، فأتوا رسول الله صلى اللّه عليه و سلم فقالوا: يا محمد، تعالى تمسّح بآلهتنا، و ندخل معك في دينك، و كان يحب إسلام قومه، فرقّ لهم، فأنزل اللّه عز و جل قوله: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلى قوله: نَصِيراً .
(1) البحر المحيط.
(2) المراغي.
(3) لباب النقول.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج16، ص: 188
قلت: هذا أصحّ ما ورد في سبب نزولها، و إسناده جيد، و له شاهد.
و عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش، و قالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا، فحدّث نفسه، و قال:
«ما علي أن ألمّ بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر، و اللّه يعلم إني لها كاره»، فأبى اللّه ذلك، و أنزل عليه هذه الآية.
قوله تعالى: وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي ... الآية، سبب نزولها «1» : ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى اللّه عليه و سلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً 80، و هذا صريح في أنّ الآية مكية، و أخرجه ابن مردويه بلفظ أصرح منه.
قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... الآية، سبب نزولها «2» : ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود، قال: كنت أمشي مع النبي صلى اللّه عليه و سلم بالمدينة، و هو متوكّىء على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، و قال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيىء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنّه، فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت: إنه يوحى إليه، فلما انجلى عنه قال: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 85، قال الأعمش: هي كذا قراءتنا.
و عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما- قالت قريش لليهود: علمونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 85.
قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلّا قليلا، و قد أوتينا التوراة فيها حكم اللّه، و من أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قال الحافظ بن كثير
(1) لباب النقول.
(2) البخاري.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج16، ص: 189
(ج 3/ ص 60) في الكلام على الحديث الأول: و هذا الحديث يقتضي فيما يظهر بادىء الرأي أن هذه الآية مدنية، و أنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أنّ السورة كلها مكية. و قد يجاب عن هذا بأنّها قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، و هي هذه الآية.
قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا ... الآية، سبب نزولها: ما أخرجه «1» ابن إسحاق، و ابن جرير من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس قال: أتى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم سلّام بن مشكم في عامة من يهود، سماهم، فقالوا: كيف نتبعك و قد تركت قبلتنا، و إنّ هذا الذي جئت به لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتابا نعرفه، و إلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل اللّه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الآية.
قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ...
الآيات، سبب نزولها «2» : ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس، أن عتبة و شيبة ابني ربيعة، و أبا سفيان بن حرب، و رجلا من بني عبد الدار، و أبا البحتريّ و الأسود بن عبد المطلب، و ربيعة بن الأسود، و الوليد بن المغيرة، و أبا جهل، و عبد اللّه بن أبي أمية، و أمية بن خلف، و العاص بن وائل، و نبيها و منبها ابني الحجّاج اجتمعوا فقالوا: يا محمد:
ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد سببت الآباء، و عبت الدّين، و سفّهت الأحلام، و شتمت الآلهة، و فرقت الجماعة، فما من قبيح إلا و قد جئته فيما بيننا و بينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالا، و إن كنت إنما تطلب الشّرف فينا ..
سوّدناك علينا، و إن كان هذا الذي يأتيك ربّما يأتيك رئيا تراه قد غلب، بذلنا أموالنا
(1) لباب النقول.
(2) لباب النقول.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج16، ص: 190
في طلب العلم، حتّى نبرئك منه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ما بي ما تقولون، و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل عليّ كتابا، و أمرني أن أكون لكم مبشرا، و نذيرا» قالوا: فإن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنّه ليس أحد من الناس أضيق بلادا منّا، و لا أقلّ مالا، و لا أشدّ عيشا منا، فلتسأل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنّا هذه الجبال التي ضيقت علينا، و ليبسط لنا بلادنا، و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من قد مضى من آبائنا، فإن لم تفعل .. فسل ربّك ملكا يصدّقك بما تقول و أن يجعل لنا جنانا و كنوزا و قصورا من ذهب و فضة، نعينك بها على ما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، و تلتمس المعاش، فإن لم تفعل فأسقط السماء كما زعمت أنّ ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عنهم، و قام معه عبد اللّه ابن أبي أمية، فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثمّ سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من اللّه، فلم تفعل ذلك، ثمّ سألوك أن تعجّل ما تخوفهم به من العذاب، فو اللّه لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثمّ ترقى فيه، و أنا أنظر، و حتى تأتي معك بنسخة منشورة، و معك أربعة من الملائكة، فيشهدوا لك أنّك كما تقول: فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حزينا، فأنزل اللّه عليه ما قاله عبد اللّه ابن أبي أمية وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلى قوله: بَشَراً رَسُولًا .
التفسير و أوجه القراءة
وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ؛ أي: و عزتي، و جلالي، لقد شرفنا بني آدم قاطبة، و كرمناهم في أنفسهم تكريما شاملا لبرهم و فاجرهم، بالصورة «1» و القامة المعتدلة، و التسلط على ما في الأرض، و التمتع به، و التمكن من الصناعات، و العلم و النطق، و تناول الطعام باليد، و غير ذلك. قال ابن عباس: هو أنهم يأكلون بالأيدي، و غير الآدمي يأكل بفيه من الأرض، و قال أيضا: بالعقل،