کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 121
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ و الختم على الأفواه يراد به: المنع من الكلام.
و الأفواه جمع فم، و أصل فم فوه بالفتح. و هو مذهب سيبويه و البصريين كثوب و أثواب، حذفت الهاء حذفا على غير قياس لخفائها، ثم الواو لاعتدالها، ثم أبدل الواو المحذوفة ميما لتجانسهما؛ لأنهما من حروف الشفة، فصار فم. فلما أضيف رد إلى أصله ذهابا به مذهب أخواته من الأسماء. و قال الفراء: جمع فوه بالضم كسوق و أسواق، اه من «الروح».
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ طمس الشيء: إزالة أثره بالكلية. يقال: طمسته؛ أي: محوته، و استأصلت أثره كما في «القاموس». فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ الاستباق افتعال من السبق. و الصراط من السبيل: ما لا التواء فيه، بل يكون على سبيل القصد؛ أي: ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم.
وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ المسخ تحويل الصورة إلى ما هو أقبح منها، سواء كان ذلك التحويل، بقلبها إلى صورة البهيمية، مع بقاء الصورة الحيوانية، أو بقلبها حجرا و نحوه من الجمادات، بإبطال القوى الحيوانية. عَلى مَكانَتِهِمْ ؛ أي: في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، و المكانة، بمعنى: المكان، إلا أن المكانة أخص، كالمقامة و المقام. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أصله: مضوي بزنة فعول، قلبت الواو ياء و أدغمت الياء في الياء، و كسرت الضاد قبل الياء لتسلم الياء. و من قرأ مُضِيًّا بكسر الميم، فإنما كسرها اتباعا للضاد.
وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ ؛ أي: و من نطل عمره في الدنيا. و العمر: مدة عمارة البدن بالروح. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ من التنكيس، و هو أبلغ من النكس، و النكس أشهر. و هو قلب الشيء على رأسه، و منه: نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه.
و النكس في المرض: أن يعود في مرضه بعد إفاقته. و النكس في الخلق: الرد إلى أرذل العمر.
وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قال الراغب: يقال: شعرت أصبت الشعر، و منه استعير شعرت كذا؛ أي: علمت علما في الدقة كإصابة الشعر. و سمي الشاعر شاعرا لفطنته و دقة معرفته. يقال: شعر به كنصر و كرم علم به، و فطن له، و عقله. و في
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 122
«القاموس»: الشعر غلّب على منظوم القول لشرفه بالوزن و القافية، و إن كان كل علم شعرا. و الجمع أشعار، انتهى. و الشعر: ضرب من ضروب الكلام، ذو وزن خاص، ينتهي كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية. و هو يسير مع العواطف و الأهواء، و لا يتبع ما يميله العقل و المنطق الصحيح. و من ثم كان مستقر الأكاذيب و المبالغات في الأهاجي، و المدائح، و التفاخر، و التنافر. فإذا غضب الشاعر أقذع في القول، و بالغ في الذم، و ضرب بالحقيقة عرض الحائط، و لا يرى في ذلك ضيرا، و إذا هو استرضي بعد قليل رفع من هجاه إلى السماكين، و أدخله في زمرة العظماء الشجعان، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا، مما تراه في شعر الهجائين المداحين، حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا: أعذب الشعر أكذبه. و القرآن الكريم آداب، و أخلاق، و حكم، و أحكام و تشريع. فيه سعادة البشر في دنياهم و دينهم، و آخرتهم فرادى و جماعات، فحاشى أن يكون شعرا و لا كهانة و لا سحرا.
وَ ما يَنْبَغِي لَهُ البغاء: الطلب، و الانبغاء انفعال منه. يقال: بغيته؛ أي:
طلبته فانطلب. مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا العمل: كل فعل من الحيوان يقصد. فهو أخص من الفعل. قال الراغب: الأيدي جمع يد بمعنى الجارحة، خص لفظ اليد لقصورنا، إذ هي أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا. وَ ذَلَّلْناها و في «المفردات»: الذل: ما كان عن قهر، و الذل ما كان بعد تصعب و شماس من غير قهر، و ذلت الدابة بعد شماس ذلا، و هي ذلول ليست بصعب.
فَمِنْها رَكُوبُهُمْ و الركوب بفتح الراء بمعنى: المركوب كالحلوب بمعنى:
المحلوب، و الركوب بالضم: كون الإنسان على ظهر حيوان. و قد يستعمل في السفينة و السيارة و غيرهما؛ أي: مركوب كان. و الراكب اختص في التعارف بممتطي البعير. وَ مَشارِبُ جمع مشرب بالفتح مصدر أو مكان. و الظاهر أن المراد به: ضروعها، اه شيخنا. و الشرب: تناول كل مائع ماء كان أو غيره.
خَصِيمٌ مُبِينٌ و الخصيم: المبالغ في الجدل و الخصومة إلى أقصى الغاية أو هو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: مخاصم مجادل. و الخصومة: الجدل. قال في
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 123
«القاموس»: خاصمه مخاصمة و خصومة فخصمه يخصمه غلبه، و هو شاذ؛ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عينه حرف حلق. فإنه بالفتح كفاخره ففخره يفخره.
وَ هِيَ رَمِيمٌ و الرميم كالرمة، و الرفات العظم البالي؛ أي: بالية. و في «المختار»: رم بالفتح يرم رمة بالكسر فيهما إذا بلي، و بابه ضرب، فهو اسم لا صفة و لذلك لم يؤنث، و قد وقع خبر المؤنث، و لا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. و إيضاح هذا الكلام: أن فعيلا بمعنى فاعل، لا تلحق التاء في مؤنثه إلا إذا بقيت وصفيته، و ما هنا انسلخ عنها و غلبت عليه الاسمية؛ أي: صار بالغلبة اسما لما بلي من العظام.
مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ و الشجر من النبت ما له ساق. و الخضرة أحد الألوان بين البياض و السواد، و هو إلى السواد أقرب. فلهذا سمي الأسود أخضر، و الأخضر أسود. و قيل: سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة، و وصف الشجر بالأخضر دون الخضراء نظرا إلى اللفظ، فإن لفظ الشجر مذكر، و معناه مؤنث؛ لأنه جمع شجرة كثمر و ثمرة، و الجمع مؤنث لكونه بمعنى الجماعة.
بَلى كلمة جواب كنعم، تأتي بعد كلام منفي. و في «المفردات»: بلى جواب استفهام مقترن بنفي، نحو قوله تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى . و نعم يقال في الاستفهام المجرد نحو: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ و لا يقال ههنا بلى. فإذا قيل: ما عندي شيء فقلت: بلى، فهو رد لكلامه، فإذا قلت: نعم فإقرار منك. انتهى.
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملكوت، و الرحموت، و الرهبوت، و الجبروت مصادر. زيدت الواو و التاء فيها للمبالغة في الملك، و الرحمة، و الرهبة، و الجبر. قال في «المفردات»: الملكوت مختص بملك اللّه تعالى.
و الملك ضبط الشيء، و التصرف فيه بالأمر و النهي. و العرب تقول: جبروتي خير من رحموتي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 124
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، و أنواعا من الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: التنوين للتفخيم في قوله: فِي شُغُلٍ ؛ أي: في شغل عظيم الشأن.
و منها: التعبير بالجملة الاسمية في قوله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) عن حالهم هذه، قبل تحققها، تنزيلا للمترقب المتوقع منزلة الواقع، للإيذان بغاية سرعة تحققها و وقوعها، و لزيادة مساءة المخاطبين بذلك. و هم الكفار.
و منها: طباق السلب في قوله: أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي فالأول سلب، و الآخر إيجاب.
و منها: التنوين في صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ للتفخيم.
و منها: تقديم النهي في قوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ على الأمر في قوله: وَ أَنِ اعْبُدُونِي رعاية للقاعدة عندهم، من تقديم التخلية على التحلية، و ليتصل به قوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ .
و منها: تقديم الجارين على متعلقهما في قوله: فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لمراعاة الفواصل.
و منها: الإسناد المجازي في قوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً حيث أن الإضلال من الشيطان لكونه سبب ضلالهم.
و منها: الالتفات من قوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً الخ إلى الغيبة في قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعي أن يعرض عنهم، و يحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم؛ لأن الخطاب لتلقي الجواب، و قد انقطع بالكلية.
و منها: الاستفهام الإنكاري في قوله: أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ، و في قوله:
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 125
أَ فَلا يَشْكُرُونَ ، و أمثال ذلك.
منها: الطباق بين مُضِيًّا يَرْجِعُونَ .
و منها: وضع الفعل موضع المصدر في قوله: وَ لا يَرْجِعُونَ لمراعاة الفاصلة؛ لأن الأصل مضيا و لا رجوعا.
و منها: الكناية في قوله: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ؛ لأنه كناية عن نفي كونه شاعرا، فنفى اللازم الذي هو تعليم الشعر و أراد نفي الملزوم الذي هو كونه شاعرا، بطريق الكناية، التي هي أبلغ من التصريح.
و منها: المقابلة اللطيفة في قوله: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا الآية، قابل بين الإنذار و الإعذار، و بين المؤمنين و الكفار في قوله: وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ .
و هو من ألطف العبارة.
و منها: الاستعارة التمثيلية في قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً الأنعام تخلق و لا تعمل، و لكن شبّه اختصاصه بالخلق و التكوين بمن يعمل أمرا بيديه، و يصنعه بنفسه. و استعار لفظ العمل للخلق، بطريقة الاستعارة التمثيلية.
و منها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ بعد قوله: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ الآية. و فائدته تفخيم النعمة، و تعظيم المنة.
و منها: التشبيه البليغ في قوله: وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ؛ أي: كالجند في الخدمة و الدفاع، حذفت أداة التشبيه و وجه الشبه، فأصبح بليغا.
و منها: صيغة المبالغة في قوله: خَصِيمٌ مُبِينٌ ، و قوله: الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، و في قوله: مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ؛ لأنه صيغة مبالغة من الملك، و معناه: الملك الواسع التام مثل: الرحموت، و الرهبوت، و الجبروت.
و منها: الاستعارة التصريحية في قوله: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا حيث استعار المثل الذي هو القول السائر للأمر العجيب تشبيها له في الغرابة بالمثل العرفي الذي هو القول السائر.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 126
و منها: الاستعارة التمثيلية في قوله: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فشبه سرعة تأثير قدرته تعالى، و نفاذها في الأشياء، بأمر المطاع، من غير توقف و لا امتناع. فإذا أراد شيئا وجد من غير إبطاء و لا تأخير. و هو من لطائف الاستعارة، و عبارة الروح: و هذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى، فيما أراده بأمر الآمر، المطاع للمأمور المطيع، في سرعة حصول المأمور به، من غير توقف على شيء ما، و هو قول أبي منصور الماتريدي، لأنه قال: لا وجه لحمل الكلام على الحقيقة، إذ ليس هناك قول و لا آمر و لا مأمور.
و منها: الزيادة و الحذف في عدة مواضع «1» .
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
(1) إلى هنا وقفت الأقلام في كتابة ما أردنا إيراده على سورة يس من التفسير و التأويل في تاريخ 25/ 2/ 1414، في صباح يوم الجمعة، بعيد صلاة الفجر، اليوم الخامس و العشرين من شهر صفر المبارك من شهور، سنة ألف و أربع مئة و أربع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات، و أتم الصلات، و أزكى التحيات، و على آله و أصحابه، و جميع الأمّات.
اللهم يا ذا الجلال و الإكرام، كما أعنتنا على كتابة ما مضى فأكرمنا بإتمام ما بقي من كتابة تفسير كتابك الكريم، خالصا مخلصا لوجهك الكريم، مع النفع التام به إلى يوم القيامة، لي و لجميع المسلمين، آمين يا رب العالمين، و صلى اللّه على سيدنا و مولانا محمد خاتم النبيين، و على آله و صحبه أجمعين. و الحمد للّه رب العالمين.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 127
أهم مقاصد هذه السورة
1- بيان أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم، رسول من عند اللّه حقا، و أنه نذير للأميين و غيرهم.
2- المنذرون من النبي صلى اللّه عليه و سلم صنفان: صنف ميؤوس من صلاحه، و آخر قد سعى لفلاحه.
3- أعمال الفريقين تحصى عليهم، فتحفظ أخبارهم، و تكتب آثارهم.
4- ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية، إذ كذبوا الناصح لهم و قتلوه، فدخلوا النار، و دخل الجنة بما قدم من إيمان و عمل صالح و هداية و إرشاد.
5- الدليل الطبيعي و العقلي على البعث.
6- تبيان قدرة اللّه و وحدانيته و علمه و رحمته الشاملة.
7- جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم اللّه عليهم، و سرعة أخذهم، و ندمهم حين معاينة العذاب.
8- الجنة و نعيمها و ما أعد للمؤمنين فيها.
9- توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.
10- قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا و طمسهم.
11- الانتفاع بالأنعام في المأكل و المشرب و الملبس.
12- إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق و الأنفس.