کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 129
1- أن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة، التي أشير إليها إجمالا في السورة السابقة في قوله: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31).
2- أن فيها تفصيل أحوال المؤمنين، و أحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة، مما أشير إليه إجمالا في السورة قبلها.
3- المشاكلة بين أولها و آخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد و إحياء الموتى، و علل ذلك بأنه منشئهم، و أنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان. و ذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك. و هو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا و إعداما إلا إذا كان المريد واحدا، كما يشير إلى ذلك قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا .
و عبارة أبي حيان هنا: مناسبة أول هذه السورة لآخر يس «1» : أنه تعالى لما ذكر المعاد و قدرته على إحياء الموتى، و أنه هو منشئهم، و إذا تعلقت إرادته بشيء كان .. ذكر تعالى هنا وحدانيته. إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودا و عدما إلا بكون المريد واحدا. و تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا .
الناسخ و المنسوخ فيها: ذكر أبو عبد اللّه محمد بن حزم في كتابه «الناسخ و المنسوخ» سورة الصافات كلها محكم إلا أربع آيات:
الأولى و الثانية: قوله تعالى: وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)، نسختا بآية السيف.
الثالثة و الرابعة: قوله تعالى: وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)، نسختا أيضا بآية السيف.
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
(1) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 130
[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 49]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
المناسبة
قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ... الآيات، افتتح سبحانه هذه
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 131
السورة بإثبات وجود الخالق و وحدانيته و علمه و قدرته بذكر خلق السموات و الأرض و ما بينهما، و خلق المشارق و المغارب، و هنا أثبت الحشر، و النشر، و قيام الساعة، ببيان أن من خلق هذه العوالم، التي هي أصعب في الخلق منكم، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى، كما جاء في السورة السابقة: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ، و جاء في قوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ .
قوله تعالى: وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه لما ذكر «1» فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا، و شديد إصرارهم على عدم حدوثه .. أردف هذا، ببيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة، إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، و يعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، و يندمون على ما فرّطوا في جنب اللّه سبحانه و تعالى.
قوله تعالى: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه لما بين فيما سلف، أن الكافرين يندمون يوم القيامة، على ما فرط منهم، من العناد و التكذيب للبعث، حيث لا يجدي الندم .. أردف هذا بذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ، و يتخاصم الأتباع و الرؤساء، فيلقي الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم، و ما ألزمناكم بشيء مما كنتم تعبدون، أو تعتقدون، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا، فاتبعتمونا دون قسر و لا جبر منا لكم.
ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل و الهوان، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد، أعرضوا عنها استكبارا، و قالوا: أنترك دين آبائنا اتباعا لقول شاعر مجنون. ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون، و لا هو بالشاعر، بل جاء بما هو الحق، الذي لا محيص عن تصديقه، و هو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة.
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 132
قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن اللّه سبحانه و تعالى لما ذكر فيما سلف حوار الأتباع و الرؤساء من أهل الضلال، و إلقاء كل منهما تبعة ما وقعوا فيه من الهلاك على الآخرين .. بيّن هنا أن لا فائدة من مثل هذا الخصام و الجدل. فإن العذاب واقع بكم لا محالة، جزاء ما قدمتم من عمل. ثم أردفه ما يلقاه عباده المخلصون من النعيم المقيم، و اللذات التي قصها علينا في تلك الآية، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.
التفسير و أوجه القراءة
و الواو في قوله:
وَ الصَّافَّاتِ للقسم. و الصافات «1» : جمع صافة بمعنى جماعة صافة، فالصافات بمعنى الجماعات الصافات. و لو قيل: و الصافين و ما بعدها بالتذكير لم يحتمل الجماعات. و الصف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم، كالناس لأداء الصلاة أو الحرب أو الأشجار في الغرس.
و قوله: صَفًّا مصدر مؤكد لما قبله؛ أي: صفا بديعا. أقسم اللّه سبحانه، بالملائكة الذين يصفون للعبادة في السماء، و يتراصون في الصف؛ أي: بطوائف الملائكة الفاعلات للصفوف على أن المراد: إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول، و اللاتي يقفن صفا صفا، في مقام العبودية و الطاعة، أو الصافات أنفسها؛ أي: الناظمات لها في سلك الصفوف، بقيامها في مواقف الطاعة و منازل الخدمة. و في الآية «2» بيان شرف الملائكة حيث أقسم بهم، و فضل الصفوف.
و قد صح أن الشيطان يقف في فرجة الصف، فلا بد من التلاصق و الانضمام و الاجتماع ظاهرا و باطنا.
و الفاء في
فَالزَّاجِراتِ و ما بعده للعطف، و الترتيب الرتبي، أو الوجودي كما سيأتي. و قوله: زَجْراً مصدر مؤكد لما قبله. و الزجر: الصرف عن الشيء بتخويف؛ أي: فأقسمت بالملائكة الذين يزجرون السحاب زجرا، و يؤلفونه
(1) روح البيان.
(2) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 133
و يسوقونه إلى البلد الذي لا مطر فيه، أو الذين يزجرون العباد عن المعاصي، أو الشيطان عن الوسوسة و الإغواء، و عن استراق السمع زجرا بليغا. و قوله:
فَالتَّالِياتِ معطوف أيضا على ما قبله. و قوله: ذِكْراً مفعول (التاليات)؛ أي:
فأقسمت بالملائكة الذين يتلون ذكرا عظيم الشأن، من آيات اللّه و كتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، و غيرهما من التسبيح و التقديس و التحميد و التمجيد، أو المراد بالمذكورات: نفوس العلماء، العمال، الصافات أنفسها في صفوف الجماعات، و أقدامها في الصلاة الزاجرات بالمواعظ، و النصائح التاليات، آيات الدارسات شرائعه و أحكامه، أو طوائف الغزاة، الصافات أنفسهم في مواطن الحرب، كأنهم بنيان مرصوص، أو طوائف قوادهم، الصافات لهم فيها الزاجرات الخيل للجهاد سوقا، و العدو في المعارك طردا، التاليات آيات اللّه و ذكره و تسبيحه في تضاعيف ذلك، لا يشغلهم عن الذكر مقابلة العدو. و ذلك لكمال شهودهم و حضورهم مع اللّه. و في الحديث: «ثلاثة أصوات يباهي اللّه بهن الملائكة: الأذان، و التكبير في سبيل اللّه، و رفع الصوت بالتلبية».
و هذه الصفات إن أجريت على الكل فعطفها بالفاء، للدلالة على ترتيبها في الفضل، إما بكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، فيكون من باب الترقي، أو على العكس، فيكون من باب التدلي. و إن أجريت كل واحدة منهن على طوائف معينة، فهو للدلالة على ترتيب الموصوفات في مراتب الفضل، بمعنى:
أن طوائف الصافات ذوات فضل، و الزاجرات أفضل، و التاليات أبهر فضلا أو على العكس. و في تفسير الشيخ و غيره: و جاء بالفاء، للدلالة على أن القسم بمجموع المذكورات. و في «الصاوي» «1» : الفاء للترتيب في الوجود الخارجي؛ لأن مبدأ الصلاة الاصطفاف، ثم يعقبه زجر النفس، ثم يعقبه التلاوة، و هكذا.
و يحتمل أنها للترتيب في المزايا، ثم هو إما باعتبار الترقي، فالصافات ذوات فضل، فالزاجرات أفضل، فالتاليات أكثر فضلا أو باعتبار التدلي، فالصافات أعلى ثم الزاجرات ثم التاليات، و كل صحيح، انتهى.
(1) الصاوي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 134
و المعنى: أي أقسمت لكم يا بني آدم، أو يا أهل مكة (بالصافات)؛ أي «1» : بالملائكة الناظمات لأنفسها في سلك الصفوف، بقيامها في مقاماتها المعلومة أو الصافات أقدامها في السماء، لأداء العبادات أو الباسطات أجنحتها في الهواء، واقفة حتى يأمرها اللّه تعالى بما يريد. صَفًّا بديعا. فَالزَّاجِراتِ ؛ أي: فأقسمت لكم بالملائكة التي تزجر السحاب؛ أي: يأتون بها من موضع إلى موضع، أو الزاجرات لبني آدم عن المعاصي، بالإلهامات، أو الزاجرات للشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر و الإيذاء، و عن استراق السمع. زَجْراً بليغا. فَالتَّالِياتِ ؛ أي: فأقسمت لكم بالملائكة، التي تتلو الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، و غيرها من التسبيح، و التقديس، و التحميد، و التمجيد.
إِنَّ إِلهَكُمْ يا أهل مكة- فإن الآية «2» نزلت فيهم إذ كانوا يقولون: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً - أو يا بني آدم؛ أي: أقسمت لكم بهذه المذكورات، على أن إلهكم و معبودكم الذي يستحق منكم العبادة لَواحِدٌ لا شريك له، فلا تتخذوا آلهة من الأصنام و الدنيا و الهوى و الشيطان. إذ لو لم يكن واحدا لاختل هذا الاصطفاف، و الزجر، و التلاوة. و في «الصاوي»: وَ الصَّافَّاتِ الواو «3» : حرف جر و قسم، وَ الصَّافَّاتِ مقسم به مجرور بواو القسم، و ما بعده عطف عليه، و قوله: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) جواب القسم، و هو المقسم عليه. و المعنى: و حق الصافات و حق الزاجرات و حق التاليات. و إنما خص ما ذكر لعظم قدرها عنده تعالى. و لا يعكر عليه ما ورد من النهي عن الحلف بغير اللّه تعالى، لأن النهي للمخلوق حذرا من تعظيم غير اللّه، و أما هو سبحانه و تعالى، فيقسم ببعض مخلوقاته للتعظيم كقوله: و الشمس و الليل و الضحى و النجم، و غير ذلك.
فإن قلت: ما الحكمة في ذكر القسم هنا، لأنه إن كان المقصود المؤمنين، فلا حاجة إليه؛ لأنهم مصدقون و لو من غير قسم. و إن كان المقصود الكفار، فلا
(1) المراح.
(2) روح البيان.
(3) الصاوي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 135
حاجة إليه أيضا، لأنهم غير مصدقين على كل حال؟
قلت: إن الحكمة في القسم، تأكيد الأدلة التي تقدم تفصيلها في سورة يس، ليزداد الذين آمنوا إيمانا و يزداد الكافرون بعدا و طردا. أو الحكمة فيه تعظيم المقسم به، و إظهار شرفه، و تأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم.
و قد أنزل القرآن على لغتهم، و على أسلوبهم في محاوراتهم. و قيل: تقدير الكلام فيها و في أمثالها: و رب الصافات، و رب الشمس، و رب الضحى، و رب التين و الزيتون، و رب الذاريات، و رب النجم إلى غير ذلك.
و قرأ ابن مسعود «1» ، و مسروق، و الأعمش، و أبو عمرو، و حمزة بإدغام التاء من الصافات و الزاجرات و التاليات في صاد صَفًّا و زاي زَجْراً و ذال ذكرا و كذلك فعلا في وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً (1)، و في فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً بخلاف عن خلاد في الأخيرين. و هذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها. و قرأ الباقون بإظهار جميع ذلك.
قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة؛ لأنها مشعرة بالتأنيث، و الملائكة مبرؤون عن هذه الصفة. و أجيب عنه بوجهين:
الأول: أن الصفات المذكورة جمع الجمع، فإنه يقال جماعة صافة، ثم يجمع على صافات.
الثاني: أنهم مبرؤون عن التأنيث المعنوي، و أما التأنيث اللفظي فلا و كيف و هم يسمون بالملائكة، مع أن علامة التأنيث حاصلة، انتهى.
قال الغزالي، رحمه اللّه سبحانه: الواحد في أسمائه تعالى هو الذي لا يتجزأ و لا يثنى، و هو سبحانه الواحد المطلق أزلا و أبدا، و خاصية هذا الاسم، إخراج الكون من القلب، فمن قرأه ألف مرة خرج الخلائق من قلبه، فكفي خوف الخلق. و هو أصل كل بلاء في الدنيا و الآخرة. و سمع النبي صلى اللّه عليه و سلم رجلا يقول في