کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 275
البلاغة
و قد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، و أنواعا من الفصاحة و البيان و البديع:
فمنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ حيث لم يقل: ما أمرت، للدلالة أن الأمر متعلق به، متوجه إليه، مستمر إلى حين الامتثال به.
و منها: الطباق بين أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ ، و بين مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ .
و منها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: بَعْلًا ؛ لأن البعل في الأصل: الذكر من الزوجين، شبه كل مستعل على غيره به، فسمي به على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية.
و منها: التشبيه في قوله: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80).
و منها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140). شبه خروجه بغير إذن ربه بإباق العبد من سيده، ثم اشتق منه أبق بمعنى خرج بغير إذن ربه، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، أو على طريق المجاز المرسل، و العلاقة هي استعمال المقيد في المطلق.
و منها: الإسناد المجازي في قوله: وَ نادَيْناهُ لما فيه من إسناد الفعل إلى الآمر لكونه سببه؛ لأن المنادى جبرائيل.
و منها: جمع المؤكدات في قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) إشعارا بفخامة الأمر. لأنه أكده ب (أن)، و بضمير الفصل، و باللام، و باسمية الجملة.
و منها: الكناية في قوله: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)؛ لأنه كناية عن الثناء الحسن و الذكر الجميل.
و منها: الإسناد المجازي، في قوله: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ ؛ لأنه من قبيل إسناد الفعل إلى السبب الحامل على الفعل.
و منها: الكناية في قوله: فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ؛ لأنه كناية عن رد العذاب
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 276
عنهم، و صرف العقوبة.
و منها: استعمال العام بمعنى الخاص في قوله: يَقْطِينٍ ؛ لأن اليقطين في الأصل: كل ما لا ساق له، فأطلق هنا على القرع فقط استعمالا للعام في بعض جزئياته.
و منها: الاستعارة التصريحية التحقيقية في قوله: وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)؛ لأنه استعير الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ من معناه الحقيقي، و هو الطريق المستوي للدين الحق، و هو ملة الإسلام. و هذا أمر تحقق عقلا، فقد نقل اللفظ إلى أمر معلوم.
و منها: الطباق في قوله: مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ .
و منها: الزيادة، و الحذف في عدة مواضع.
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 277
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة الصافات (37): الآيات 182 الى 149]
المناسبة
قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه لما «1» أمر رسوله صلى اللّه عليه و سلم في صدر هذه السورة بتبكيت قريش، و توبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة، و تظاهرها على وجوده، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده و لا جحده، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ، و استثنى منهم عباد اللّه المخلصين، و بيّن ما يلقونه من النعيم، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين، و أنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء، تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل و العبودية له عز و جل .. أمره هنا أيضا بالتشديد عليهم ثانيا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها، و هي جعل البنات للّه، و جعل البنين لأنفسهم بقولهم: الملائكة بنات اللّه، ثم بالتقريع
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 278
ثالثا على استهانتهم الملائكة بجعلهم إناثا، ثم أبطل كلا من هذين بالحجة، التي لا يجد العاقل محيصا عن التصديق بها و الإذعان لها.
قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها:
أن اللّه سبحانه لما أثبت فساد آراء المشركين و مذهبهم .. أتبع ذلك بما نبه به، إلى أن هؤلاء المشركين، لا يقدرون على حمل أحد على الضلال، إلا إذا كان مستعدا له، و قد سبق في حكم اللّه تعالى، أنه من أهل النار، و أنه لا محالة واقع فيها. ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيها إلى فساد قول من ادعى، أنهم أولاد اللّه تعالى، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه لما هدد «1» المشركين بقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ .. أردفه بما يقوي قلب رسوله صلى اللّه عليه و سلم بوعده بالنصر، و التأييد، كما جاء في آية أخرى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي .
أسباب النزول
قوله تعالى: وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ... الآية، سبب نزولها «2» : ما أخبره جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: أنزلت هذه الآية في ثلاثة أحياء من قريش: سليم و خزاعة و جهينة.
قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ... سبب نزوله: ما أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد قال: قال كبار قريش: الملائكة بنات اللّه، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن. فأنزل اللّه: وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ .. الآية.
قوله تعالى: وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ... الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك، قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل اللّه:
(1) المراغي.
(2) لباب النقول.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 279
وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) الآية. فأمرهم أن يصفوا.
قوله تعالى: أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ سبب نزوله: ما أخرجه جويبر عن ابن عباس، قال: قالوا: يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به، عجله لنا. فنزلت:
أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) الآية، صحيح على شرط الشيخين.
التفسير و أوجه القراءة
و لما كانت قريش، و قبائل من العرب، يزعمون أن الملائكة بنات اللّه، أمر اللّه سبحانه رسوله صلى اللّه عليه و سلم باستفتائهم على طريقة التوبيخ و التقريع. فقال:
فَاسْتَفْتِهِمْ يا محمد؛ أي: استخبر يا محمد هؤلاء المشركين، و سلهم. و الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان اللّه سبحانه موصوفا بنعوت الكمال، و العظمة و الجلال متفردا بالخلق و الربوبية، و جميع الأنبياء مقرين بالعبودية، داعين للعبيد إلى حقيقة التنزيه و التوحيد، و أردت توبيخ هؤلاء المشركين و تقريعهم على زعمهم الفاسد، فأقول لك: استخبرهم على سبيل التوبيخ و التجهيل؛ أي: سل قريشا و بعض طوائف العرب نحو: جهينة، و بني سلمة، و خزاعة، و بني مليح. فإنهم كانوا يقولون: إن اللّه تعالى تزوج من الجن، فخرجت منها الملائكة، فهم بنات اللّه. و لذا يسترهن عن العيون، فأثبتوا الأولاد للّه تعالى، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور، و قسموا القسمة الباطلة، حيث جعلوا الإناث للّه تعالى، و جعلوا الذكور لأنفسهم. فإنهم كانوا يفتخرون بذكور الأولاد، و يستنكفون من البنات، و لذا كانوا يقتلونهن، و يدفنونهن حياء، كما قال تعالى: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) الآية. و من «1» هنا أنه: من رأى في المنام أنه اسود وجهه، فإنه يولد له بنت.
و في «الكشاف» قوله: فَاسْتَفْتِهِمْ معطوف «2» على مثله في أول السورة؛ أي: على قوله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً و إن تباعدت المسافة بينهما، أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا، ثم ساق الكلام
(1) روح البيان.
(2) الزمخشري.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 280
موصولا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزي، التي قسموها، حيث جعلوا للّه تعالى الإناث، و لأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات اللّه مع كراهتهم الشديدة لهن، و و وأدهم، و استنكافهم عن ذكرهن. و هذا العطف الذي قاله الزمخشري بعيد.
أي: سلهم يا محمد أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ اللاتي هي أوضع الجنسين وَ لَهُمُ الْبَنُونَ الذين هم أرفعهما. و فيه تفضيل لأنفسهم على ربهم، و ذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل، و ارتكبوا «1» في زعمهم ثلاثة أنواع من الكفر: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام، و تفضيل أنفسهم حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم و غيره للّه تعالى، و استهانتهم بمن هو مكرم عند اللّه تعالى، حيث أنثوهم، و هم الملائكة بدأ أولا بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله:
أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ ، و عدل عن قوله: ألربكم إلى ما قاله، لما في ترك الإضافة إليهم من تخسيسهم و شرف نبيه بالإضافة إليه.
و المعنى «2» : أي سل يا محمد قريشا مؤنبا لها، و مقرعا على ضعف أحلامها، و سفاهة عقولها: ألربي البنات، و لكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم، و إلام تستندون؟. و إنكم لتكرهون البنات، و تبغضونها أشد البغض، كما جاء في قوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ ...* الآية. و فيه إشارة إلى كمال جهالة الإنسان، و ضلالته. إذا وكل إلى نفسه الخسيسة، و خلي إلى طبيعته الركيكة، أنه يظن بربه و رب العالمين نقائص لا يستحقها أدنى عاقل، بل غافل من أهل الدنيا.
ثم زاد في توبيخهم و تقريعهم، فقال:
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً جمع أنثى وَ هُمْ شاهِدُونَ ؛ أي: و الحال أنهم حاضرون، خلقنا إياهم إناثا، فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت، و التهكم بهم، و يجوز أن تكون «3» أَمْ منقطعة بمعنى بل و همزة الاستفهام الإنكاري، و أن تكون متصلة معادلة
(1) البحر المحيط.
(2) المراغي.
(3) زاده.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 281
للهمزة، كأن المستفهم يدعي ثبوت أحد الأمرين عندهم، و يطلب تعيينه منهم قائلا: أي هذين الأمرين تدعونه، اه «زاده».
و المعنى على الأول: أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق، و أبعدهم من صفات الأجسام و رذائل الطبائع إناثا، و الأنوثة من أخس صفات الحيوان. و لو قيل لأدناهم: فيك أنوثة لتمزقت نفسه من الغيظ لقائله، ففي جعلهم الملائكة إناثا استهانة شديدة بهم.
أي: كيف جعلوهم إناثا و هم لم يحضروا عند خلقنا لهم. و هذا كقوله:
وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ . فبيّن سبحانه، أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، و لم يشهدوا، و لا دل دليل على قولهم من السمع، و لا هو مما يدرك بالعقل، حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم.
و هذا «1» ترق في التوبيخ لهم على هذه المقالة، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل، و لا سبيل إلى معرفته بالعقل حتى يقوم الدليل، و البرهان على صحته، و النقل الصحيح الذي يؤيد ما تدعون لا يوجد، فلم تبق إلا المشاهدة، و هذه لم تحصل.
ثم بيّن فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة، فقال:
أَلا حرف تنبيه إِنَّهُمْ ؛ أي: إن هؤلاء المشركين مِنْ إِفْكِهِمْ ، أي: من أجل كذبهم الأسوأ. و هو متعلق بقوله: لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللَّهُ : فعل، و فاعل. وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يتدينون به من قولهم: ذلك كذبا بيّنا لا ريب فيه. قرأ الجمهور: وَلَدَ اللَّهُ فعلا ماضيا، مسندا إلى اللّه سبحانه. و قرىء «2» بإضافة وَلَدَ إلى اللَّهُ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: يقولون الملائكة ولد اللّه. و ولد فعل بمعنى مفعول، يستوي فيه الواحد، و المثنى و الجمع، و المذكر و المؤنث، و القليل و الكثير. و فيه «3» تجسيم له تعالى، و تجويز الفناء عليه؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام القابلة للكون
(1) المراغي.
(2) الشوكاني.