کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 306
1- أنه ذكر فيها من قصص الأنبياء، ما لم يذكر في تلك كداود، و سليمان.
2- أنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار، أنهم قالوا: لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد اللّه المخلصين، و أنهم كفروا بالذكر لما جاءهم .. بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذي الذكر، و فصّل ما أجمله هناك من كفرهم.
و قال أبو حيان «1» : مناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها، أنه لما ذكر عن الكفار، أنهم كانوا يقولون: لو أن عندنا ذكرا من الأولين؛ لأخلصوا العبادة للّه، و أخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به .. بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن؛ لأنه الذكر الذي جاءهم، و أخبر عنهم أنهم كافرون، و أنهم في تعزز مشاقة للرسول الذي جاء به، ثم ذكر من أهلك من القرون، التي شاقّت الرسل ليتعظوا.
و اللّه أعلم
(1) البحر المحيط.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 307
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة ص (38): الآيات 26 الى 1]
المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة، و آخر السابقة آنفا.
قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ .. الآية، مناسبة هذه الآية لما
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 308
قبلها: أن اللّه سبحانه لما ذكر أنهم إنما توانوا، و تكاسلوا عن النظر و الاستدلال، لأنهم لم ينزل بهم العذاب .. بيّن في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين، كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، و في هذا، تخويف لأولئك الكافرين، الذين كذبوا الرسول صلى اللّه عليه و سلم.
قوله تعالى: وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) ... الآية، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه لما ذكر فيما تقدم، أن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد، و النبوات، و المعاد .. فأشار إلى الأولى بقولهم: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، و إلى الثانية بقولهم: أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا . أشار هنا إلى الثالثة بقوله: وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) سخرية و تهكما حين سمعوا بالمعاد، و أن هناك دارا أخرى يحاسبون فيها، و يجازون على ما يعملون، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين، و على ما يقولون في شأنه من أنه شاعر، و أنه مفتر كذاب.
قوله تعالى: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه، لما أمر رسوله، بالصبر على أذى المشركين .. أردف ذلك، ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاق و الأذى، مثل ما حدث له، فصبروا حتى فرّج اللّه تعالى عنهم، و أحسن عاقبتهم، ترغيبا له في الصبر و إيذانا ببلوغه ما يريد، كما كان ذلك عاقبة من قبله.
قوله تعالى: وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه «1» ، لما مدح داود، و أثنى عليه بما سلف .. أردف ذلك، ذكر نبأ عجيب من أنبائه، مشوقا إليه السامع، و معجبا له.
قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ... الآية، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه سبحانه، لما قص علينا قصص داود عليه السلام، و الخصمين ..
أردف ذلك، ببيان أنه فوّض إلى داود خلافة الأرض، و أوصاه بالحكم بين الناس
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 309
بالحق، و عدم اتباع الهوى، حتى لا يضل عن سبيل اللّه، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب، و سوء المنقلب، إذ قد نسي يوم الحساب و الجزاء.
أسباب النزول
قوله تعالى: ص وَ الْقُرْآنِ ... الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه «1» ابن أبي شيبة، و أحمد، و عبد بن حميد، و الترمذي و صححه، و النسائي، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الحاكم، و صححه، و ابن مردويه، و البيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش، فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، و يفعل و يفعل، و يقول و يقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه. فجاء النبي صلى اللّه عليه و سلم، فدخل البيت، و بينهم و بين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب و يكون أرق عليه، فوثب، فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك، يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم، و تقول و تقول، قال:
و أكثروا عليه من القول، و تكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فقال، يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، و تؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته، و لقوله فقال القوم كلمة واحدة: نعم و أبيك لنعطينكها و عشرا، قالوا: فما هي؟ قال: لا إله إلا اللّه، فقاموا فزعين، ينفضون ثيابهم، و هم يقولون: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5). فنزل فيهم: ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) إلى قوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ .
التفسير و أوجه القراءة
ص تقدم «2» الكلام في مثل هذا مرارا، و قلنا: إن هذه حروف يراد بها
(1) الشوكاني.
(2) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 310
تنبيه المخاطب، للإصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته. نحو: ألا ويا.
و ينطق بأسمائها فيقال: صاد بالسكون.
و قال الشوكاني: و قد اختلف في معنى «صاد»، فقال الضحاك: معناه:
صدق اللّه، و قال عطاء: صدق محمد صلى اللّه عليه و سلم. و قال سعيد بن جبير: هو بحر يحيي اللّه به الموتى بين النفختين. و قال محمد بن كعب: هو مفتاح اسم اللّه، صادق الوعد، صانع المصنوعات، صبور على ذنوب عباده، الصمد لحوائج عباده.
و قال قتادة: هو اسم من أسماء اللّه تعالى، و روي عنه: أنه قال: هو اسم من أسماء القرآن. و قال مجاهد: هو فاتحة السورة، و قيل: هو مما استأثر اللّه بعلمه، و هذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة، قيل: و هو إما اسم للحروف مسرودا على نمط التعبد، أو اسم للسورة أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر أو اقرأ.
و قرأ الجمهور «1» : صاد بسكون الدال، كسائر حروف التهجي في أوائل السور، فإنها ساكنة الأواخر على الوقف، و قرأ أبي بن كعب، و الحسن، و ابن أبي إسحاق، و نصر بن عاصم، و ابن أبي عبلة، و أبو السمال «صاد» بكسر الدال من غير تنوين، و الظاهر: أنه كسر لالتقاء الساكنين، و هو حرف من حروف المعجم، نحو: ق، و نون. و قال الحسن: هو أمر من صادى يصادي إذا عارض و المعنى: صاد القرآن بعملك؛ أي: عارضه بعملك، و قابله فاعمل به، و منه:
الصدى، و هو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة، الخالية من الأجسام.
و هذا حكاه النحاس عن الحسن البصري، و قال: إنه فسر قراءته هذه بهذا. و عنه:
أن المعنى: أتله، و تعرض لقراءته، و عنه أيضا: صاديت بمعنى: حادثت؛ أي:
حادث. و هو قريب من القول الأول. و قرأ عيسى بن عمر، و محبوب عن أبي عمر، و فرقة صاد بفتح الدال، و الفتح لالتقاء الساكنين، طلبا للتخفيف، و كذا قرأ: (قاف، و نون) بفتح الفاء و النون، و قيل: انتصب على أنه مقسم به، حذف
(1) البحر المحيط و الشوكاني.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 311
منه حرف القسم، نحوه: قوله: اللّه لأفعلن، و هو اسم للسورة، و امتنع من الصرف للعلمية و التأنيث. و قيل: نصب على الإغراء. و قيل: معناه: صاد محمد صلى اللّه عليه و سلم قلوب الخلق، و استمالها حتى آمنوا به. و روي عن ابن أبي إسحاق أيضا. أنه قرأ صاد، بالكسر و التنوين، تشبيها لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. و قرأ هارون الأعور، و ابن السميقع: صاد، بالضم من غير تنوين على البناء، نحو: منذ، و حيث، فجملة القراءات في ص 38: 1 خمس. و الجمهور على السكون. قال ابن جرير الطبري: و الصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون؛ لأن ذلك القراءة التي جاء بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم، و أنها حروف هجاء لأسماء المسميات، فيعربن إعراب الأسماء و الأدوات الأصوات، فيسلك بهن مسالكهن، فتأويلها إذا كانت كذلك تأويل نظائرها التي تقدم بيانها فيما مضى، اه.
و الواو في قوله: وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ هي واو القسم. و الإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره، و علو منزلته. و في المراد «1» بالذكر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الشرف؛ أي: و القرآن صاحب الشرف، و العظمة، و المنزلة كما في قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ؛ أي: شرفكم؛ أي: أن من آمن به له شرف في الدارين، قاله ابن عباس، و سعيد بن جبير، و السدي.
و الثاني: البيان؛ أي: و القرآن صاحب البيان؛ أي: الذي يبين ما يحتاج إليه في الدين من العقائد و الأحكام، قاله قتادة.
و الثالث: التذكير، و الموعظة؛ أي: القرآن صاحب الموعظة و التذكير لمن اتعظ، قاله الضحاك، و رجح الطبري القول الثالث، و هو أنه بمعنى التذكير.
قال: لأن اللّه تعالى أتبع ذلك قوله:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2)، فكان معلوما بذلك، أنه إنما أخبر عن القرآن، أنه أنزله ذكرا لعباده ذكرهم به، و أن الكفار من الإيمان به في عزة و شقاق، اه. و قال ابن كثير: إن في هذا القرآن
(1) زاد المير.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 312
لذكرى لمن يتذكر، و عبرة لمن يعتبر. و إنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم فِي عِزَّةٍ ؛ أي: استكبار عنه و حمية، وَ شِقاقٍ ؛ أي: و مخالفة له، و معاندة، و مفارقة، اه.
و قولنا: و الواو في قوله: وَ الْقُرْآنِ للقسم إن جعل «1» ص اسما للحرف و مذكورا للتحدي أو للرمز بكلام، مثل: صدق محمد صلى اللّه عليه و سلم، أو اسما للسورة خبرا لمحذوف؛ أي: هذه السورة ص ، و للعطف إن جعل مقسما به؛ أي: أقسمت ب ص و بالقرآن ذي الذكر، و الجواب محذوف دل عليه ما في ص من الدلالة على التحدي، و التقدير؛ أي: أقسمت ب ص و بالقرآن ذي الذكر أنه لمعجز، أو الواجب العمل به، أو إن محمدا صلى اللّه عليه و سلم لصادق. «و في الشوكاني»:
و اختلف في جواب هذا القسم ما هو؟. فقال الزجاج، و الكسائي، و الكوفيون، غير الفراء: إن الجواب قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ . و قال الفراء: لا نجده مستقيما لتأخره جدا عن قوله: وَ الْقُرْآنِ . و رجح هو، و ثعلب: أن الجواب قوله:
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ . و معناه: لكم أهلكنا، فلما طال الكلام حذفت اللام، و مثله قوله: «و الشمس و ضحاها قد أفلح». فإن المعنى: لقد أفلح، غير أنه لما اعترض بينهما كلام تبعه قوله: قَدْ أَفْلَحَ* . و قال الأخفش: الجواب هو قوله:
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14). و قيل: الجواب هو صاد؛ لأن معناه: حق و ثبت إرسالك أقسمت بالقرآن، أو حق واجب اتباعك أقسمت بالقرآن. أو المعنى: و القرآن ذي الذكر لقد صدق محمد صلى اللّه عليه و سلم كقولك: وجب و اللّه نزل و اللّه، ذكره ابن الأنباري. و روي أيضا عن ثعلب، و الفراء. و هو مبني على أن جواب القسم، يجوز تقدمه، و هو ضعيف جدا. و قيل: الجواب محذوف، تقديره: أقسمت بالقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يزعم الكفار. و يدل على هذا المحذوف قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2)، ذكره جماعة من المفسرين، و إلى نحوه ذهب قتادة. و هو الذي رجحه الطبري في تفسيره. و قال ابن عطية:
و القول بالحذف أولى. و قيل: إن قوله: ص مقسم به، و على هذا القول تكون
(1) البيضاوي.