کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 426
قال اللّه سبحانه جلّ و علا:
[سورة ص (38): الآيات 88 الى 55]
المناسبة
قوله تعالى: هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن اللّه «1» سبحانه لما وصف ثواب المتقين أولا .. أردفه بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متمما له، فيأتي الوعيد عقب الوعد، و الترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين رجاء في الثواب، و خوف من العقاب، فيزداد في الطاعة، و ينأى عن المعصية، و تلك وسيلة التهذيب، و التأديب التي ترقى بها
(1) المراغي.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 427
النفوس إلى سبيل الكمال، في دنياها و آخرتها.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها:
أن اللّه سبحانه لما ذكر في أول السورة، أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم دعا إلى التوحيد، و أثبت أنه نبي، و دعا إلى الحشر و النشر، فقابلوه بالسفاهة، و قالوا: إنه ساحر كذاب، ثم صبّره على ذلك، و قص عليه من قصص الأنبياء، قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى، ثم أردف ذلك بذكر ثواب أهل الجنة، و عذاب أهل النار ..
عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب، التي ذكرها أول السورة، و هي تقرير التوحيد، و النبوة، و البعث.
قوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ... الآيات، قد سلف «1» ذكر هذه القصة في سور البقرة، و الأعراف، و الحجر، و الإسراء، و الكهف، كما ذكرت هنا، و العبرة منها النهي عن الحسد، و الكبر؛ لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما، و الكفار إنما نازعوا محمدا صلى اللّه عليه و سلم بسببهما، و كرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما، و المواعظ، و النصائح باب من أبواب التكرير، للمبالغة في النصح و الإرشاد.
التفسير و أوجه القراءة
هذا قال الزجاج: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر في حق المؤمنين، هذا الذي ذكرناه. فيوقف على هذا، قال ابن الأنباري: و هذا وقف حسن، ثم يبتدىء، و يجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: هذا المذكور للمؤمنين، و كلاهما من فصل الخطاب، و قال ابن الأثير: هذا في هذا المقام من الفصل، الذي هو خير من الوصل، و هي علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام إلى كلام آخر، و قال بعضهم «2» : هذا من قبيل، ما إذا فرغ الكاتب من فصل، و أراد الشروع في فصل آخر، منفصل عما قبله، قال: هذا ؛ أي: احفظ ما كان كيت و كيت، و انتظر إلى ما يجيىء.
(1) المراغي.
(2) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 428
و المعنى؛ أي: هذا الذي تقدم، هو ما يكون جزاء للمؤمنين، كفاء ما قدموا من أعمال صالحة.
وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ ؛ أي: و إن للذين طغوا على اللّه، و كذبوا الرسل؛ أي:
و إن للكافرين الخارجين عن طاعة اللّه تعالى، المكذبين لرسله لَشَرَّ مَآبٍ و أقبح مرجع في الآخرة و شر منقلب ينقلبون إليه، ثم بين ذلك فقال
جَهَنَّمَ بدل من (شر مآب)، أو عطف بيان له أو منصوب بأعني. و قوله: يَصْلَوْنَها حال من المستكن في لِلطَّاغِينَ ؛ أي: حال كونهم يدخلونها، و يجدون حرها يوم القيامة، و لكن اليوم مهدوا لأنفسهم. فَبِئْسَ الْمِهادُ ؛ أي: قبح الفراش لهم جهنم، و المهد، و المهاد: الفراش، مستعار من فراش النائم، إذ لا مهاد في جهنم، و لا استراحة، و إنما مهادها نار، و غواشيها نار، كما قال في آية أخرى لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ؛ أي: فراش من تحتهم. و مِنْ تجريدية. وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ؛ أي:
أغطية.
و المعنى: أي هم يدخلون جهنم، و يقاسون شديد حرها، فبئس شرابا هي.
ثم أمرهم أمر تهكم و سخرية، بذوق هذا العذاب. فقال:
هذا فَلْيَذُوقُوهُ ؛ أي: ليذوقوا هذا العذاب، و الذوق: وجود الطعم بالفم، و أصله في القليل، لكنه يصلح للكثير الذي يقال له: الأكل، و كثر استعماله في العذاب تهكما.
و ارتفاع حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ على أنهما خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: ذلك العذاب حميم؛ أي: ماء حار بلغ نهاية الحرارة، وَ غَسَّاقٌ ؛ أي: قيح و صديد يسيل من أهل النار، و قيل: هذا في موضع رفع بالابتداء، و حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ خبران له، فيكون الكلام على التقديم و التأخير، فتقدير الآية: حميم و غساق فليذوقوه، قاله الفراء و الزجاج، و الحميم: الماء الذي انتهى حره، و الغساق: ما يسيل من جلد أهل النار من القيح و الصديد، كما مر آنفا. و في «القاموس»:
الغساق: الماء البارد المنتن، لو قطرت منه قطرة في المشرق، لنتنت أهل المغرب، و لو قطرت قطرة في المغرب، لنتنت أهل المشرق، و قال الحسن: هو عذاب لا يعلمه إلا اللّه، إن ناسا أخفوا للّه طاعة، فأخفى لهم ثوابا في قوله:
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 429
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ ، و أخفوا معصية، فأخفى لهم عقوبة، و قيل: هو مستنقع في جهنم، يسيل إليه سم كل ذي سم من عقرب و حية، يغمس فيه الآدمي، فيسقط جلده و لحمه عن العظام، و قيل: هو ما يسيل من فروج النساء الزواني، و من نتن لحوم الكفرة و جلودهم، و في «التأويلات النجمية»: هذا الذي مهدوا اليوم فَلْيَذُوقُوهُ يوم القيامة، يعني: قد حصلوا اليوم معنى صورته حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ يوم القيامة، و لكن مذاقهم، بحيث لا يجدون ألم عذاب، ما حصلوه بسوء أعمالهم، فليذوقوه يوم القيامة، انتهى. فإذا تنعم المؤمنون بالفاكهة، و الشراب .. تعذب الكافرون بالحميم و الغساق، و قال مجاهد، و مقاتل: الغساق:
هو الثلج البارد، الذي قد انتهى برده. و تفسير الغساق بالبارد، أنسب بما تقتضيه لغة العرب، و منه قول الشاعر:
إذا ما تذكّرت الحياة و طيبها
إليّ جرى دمع من اللّيل غاسق
أي: بارد. و أنسب أيضا بمقابلة الحميم.
و الخلاصة: أي لهم في جهنم ماء حار، يشوي الوجوه، و ماء بارد، لا يستطاع شربه لبرودته.
و قرأ ابن أبي إسحاق، و قتادة، و ابن وثاب، و طلحة، و حمزة، و الكسائي، و حفص، و الفضل، و ابن سعدان، و هارون عن أبي عمرو: غَسَّاقٌ بتشديد السين.
و قرأ باقي السبعة: بتخفيف السين، و هما لغتان بمعنى واحد، كما قال الأخفش.
و قيل: معناهما مختلف. فمن خفف، فهو اسم مثل: عذاب، و جواب، و صواب، و من شدد قال: هو اسم فاعل للمبالغة، نحو: ضراب، و قتال.
ثم زاد في التهديد، و بالغ في الوعيد. فقال:
وَ عذاب آخَرُ أو مذوق آخر. و هو مبتدأ خبره مِنْ شَكْلِهِ ؛ أي: كائن لهم من شكل الحميم، و الغساق المذكورين، و مثلها في الشدة و الفظاعة، و قوله: أَزْواجٌ صفة وَ آخَرُ . و معنى أَزْواجٌ ؛ أي: أجناس، و أنواع، و أشباه؛ أي: و عذاب آخر ذو ضروب، و أجناس كثيرة، كائن لهم من شكل الحميم و الغساق المذكورين، و مثلهما في الشدة و الفظاعة.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 430
و حاصل معنى الآية «1» : أن لأهل النار حميما و غساقا، و أنواعا أخر من العذاب، من مثل الحميم و الغساق في الشدة و الفظاعة، و في «التأويلات النجمية»؛ أي: فنون أخر، مثل ذلك العذاب، كائن لهم، يشير به إلى أن لكل نوع من المعاصي، نوعا آخر من العذاب، كما أن كل بذر يزرعونه يكون له ثمرة تناسب البذر.
و المعنى «2» : أي ليس الأمر مقصورا على هذا فحسب، بل لهم فيها أشباه، و أمثال من مثله فظاعة و شدة، كالزقوم، و السموم، و الزمهرير.
و قرأ الجمهور «3» : وَ آخَرُ على الإفراد. فقيل: مبتدأ خبره محذوف تقديره: و لهم عذاب آخر، و قيل: خبره الجملة بعده؛ لأن قوله: أَزْواجٌ مبتدأ، و مِنْ شَكْلِهِ : خبره، و الجملة خبر آخَرُ ، و قيل: خبره أَزْواجٌ ، و مِنْ شَكْلِهِ : في موضع الصفة، و جاز أن يخبر بالجمع عن الواحد، من حيث هو درجات، و رتب من العذاب، أو سمي كل جزء من ذلك الآخر، باسم الكل.
و قرأ الحسن، و مجاهد، و الجحدري، و ابن جبير، و عيسى، و أبو عمرو:
و أخر بضم الهمزة على الجمع، و هو مبتدأ، و مِنْ شَكْلِهِ في موضع الصفة، و أَزْواجٌ : خبره؛ أي: و مذوقات أخر من شكل هذا المذوق، و مثله في الشدة و الفظاعة أزواج و أجناس كثيرة. و أنكر «4» أبو عمرو على الجمهور قراءتهم بالإفراد وَ آخَرُ مفردا مذكرا لقوله: أَزْواجٌ . و أنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو، و قال: لو كانت كما قرأ لقال: من شكلها. و قرأ مجاهد: مِنْ شَكْلِهِ بكسر الشين، و الجمهور بفتحها، و هما لغتان بمعنى: المثل، و الضرب.
و قال خزنة جهنم لرؤساء الكفار في أتباعهم، إذا دخلوا النار:
هذا الجم الغفير فَوْجٌ و جمع مُقْتَحِمٌ و داخل مَعَكُمْ في النار؛ أي «5» هذا جمع
(1) الشوكاني.
(2) المراغي.
(3) البحر المحيط.
(4) الشوكاني.
(5) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 431
كثيف، قد دخل معكم النار، كما كانوا قد دخلوا معكم في الضلال.
و المعنى: يقول الخزنة لرؤساء الطاغين، إذا دخلوا النار مشيرين إلى الأتباع الذين أضلوهم: هذا ؛ أي: الأتباع فوج، و جمع تبعكم في دخول النار بالاضطرار، كما كانوا قد تبعوكم في الكفر و الضلالة بالاختيار، فانظروا إلى أتباعكم لم يحصل بينكم و بينهم تناصر، و انقطعت مودتكم، و صارت عداوة، قيل: يضرب الزبانية المتبوعين، و الأتباع معا بالمقامع، فيسقطون في النار خوفا من تلك المقامع. فذلك هو الاقتحام.
أي: و هذا حكاية لقول الملائكة، الذين هم خزنة النار، و ذلك أن القادة، و الرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: هذا فوج، يعنون: الأتباع مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ؛ أي: داخل و مدفوع معكم إلى النار.
و قوله: لا مَرْحَباً بِهِمْ من قول القادة و الرؤساء، لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا؛ أي: الرؤساء و القادة في شأن الأتباع: لا مَرْحَباً بِهِمْ ؛ أي: لا اتسعت منازلهم في النار.
و المعنى: لا كرامة لهم، و جملة «1» لا مَرْحَباً بِهِمْ دعائية، لا محل لها من الإعراب أو صفة للفوج أو حال منه، أو بتقدير القول؛ أي: مقولا في حقهم: لا مرحبا بهم. و قيل: إنها من تمام قول الخزنة، و الأول أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي.
و جملة إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ ؛ أي: داخلون فيها، كما دخلنا فيها تعليل من جهة القائلين؛ أي: إنهم صالوا النار كما صليناها، و مستحقون لها كما استحققناها. أو تعليل من جهة الخزنة، لاستحقاقهم الدعاء عليهم؛ أي: داخلون النار بأعمالهم السيئة، و باستحقاقهم.
و قوله: لا مَرْحَباً مصدر «2» بمعنى: الرحب، و هو السعة. و بِهِمْ بيان
(1) الشوكاني.
(2) روح البيان.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج24، ص: 432
للمدعو عليهم، و انتصابه على أنه مفعول به لفعل مقدر؛ أي: لا يصادفون رحبا وسعة، أو لا يأتون رحب عيش، و لا وسعة مسكن، و لا غيره.
و حاصله: لا كرامة لهم، أو على المصدر؛ أي: لا رحبهم عيشهم.
و منزلهم رحبا بل ضاق عليهم، يقول الرجل لمن يدعوه: مرحبا؛ أي: أتيت رحبا من البلاد، و أتيت واسعا و خيرا كثيرا قاله الكاشفي. و قال غيره: يقصد به: إكرام الداخل، و إظهار المسرة بدخوله، ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء.
و في بعض شروح الحديث: التكلم بكلمة مَرْحَباً سنة اقتداء بالنبي صلى اللّه عليه و سلم، حيث قال: مرحبا يا أم هانىء حين ذهبت إلى رسول اللّه عام الفتح. و هي بنت أبي طالب، أسلمت يوم الفتح، و من أبواب الكعبة باب يسمى باب أم هانىء، لكون بيتها في جانب ذلك الباب، و قد صح أنه صلى اللّه عليه و سلم، قد عرج به من بيتها.
و قال أبو حيان: و الظاهر «1» : أن قوله: هذا فوج مقتحم معكم، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض. و الفوج: الجمع الكثير، و هم الأتباع، ثم دعوا عليهم بقولهم: لا مرحبا بهم؛ لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب ..
ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب، و لم يكن هو السالم من العذاب و أتباعه في العذاب.
و الحاصل: أن اللّه سبحانه، بعد ما وصف مساكنهم و مشاربهم، حكى ما يتناجون به، و يقوله بعضهم لبعض؛ أي: هم يتلاعنون، و يتكاذبون. فتقول الطائفة التي دخلت قبل الأخرى، حين تقبل التي بعدها مع الخزنة و الزبانية: هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم. قال ابن عباس في تفسير الآية: إن القادة إذا دخلوا النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، تقول الخزنة للقادة: هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة: لا مرحبا بهم، و المراد بذلك الدعاء عليهم. قال النابغة:
لا مرحبا بغد و لا أهلا به
إن كان تفريق الأحبّة في غد
ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله: إنهم صالوا النار؛ أي «2» : إنهم
(1) البحر المحيط.