کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 94

و الثناء حق للّه و ملكه كما ينبى‏ء عنه اللام الجنسية و اللام الجارة و ذلك بسبب كثرة إيلائه أنواع آلائه على عبيده و إمائه. و لا يخفى أن هذا أولى من أن يحمده شخص واحد فقط، و لهذا لو سئلت هل حصل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت نعم فقد حمدته و لكن حمدا ضعيفا، و لو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق كان أكمل. فإن قيل: أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه؟ فالأستاذ يستحق الحمد من التلميذ، و السلطان العادل يستحق الحمد من الرعية، و

قال صلى اللّه عليه و سلم: «من لم يحمد الناس لم يحمد اللّه»؟

قلنا: المنعم في الحقيقة هو اللّه لأنه خلق تلك الداعية في ذلك المنعم بعد أن خلق تلك النعمة و سلط المنعم عليها و مكن المنعم عليه من الانتفاع و أمنه من فوات الانقطاع، و لهذا قال عز من قائل‏ وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏ [النحل: 53] و أيضا كل مخلوق ينعم على غيره فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا إما ثوبا أو ثناء، أو تحصيل خلق أو تخلصا من رذيلة البخل. و طالب العوض لا يكون منعما و لا مستحقا للحمد في الحقيقة، أما اللّه سبحانه فإنه كامل لذاته و الكامل لذاته لا يطلب الكمال، لأن تحصيل الحاصل محال فكان عطاؤه جودا محضا، فثبت أن لا مستحق للحمد إلا اللّه تعالى.

الثالثة: إنما لم يقل «احمدوا اللّه» لأن الإنسان عاجز عن الإتيان بحمد اللّه و شكره فلم يحسن أن يكلف فوق ما يستطيعه، و ذلك أن نعم اللّه على العباد غير محصورة وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] و إذا امتنع الوقوف عليها امتنع اقتداره على الشكر و الثناء اللائق بها. و أيضا إنما يمكنه القيام بحمد اللّه و شكره إذا أقدره اللّه على ذلك الحمد و الشكر و خلق في قلبه داعية ذلك و أزال عنه العوائق و الصوارف، و كل ذلك إنعام من اللّه فيتسلسل. و أيضا الاشتغال بالحمد و الشكر معناه أن المنعم عليه يقابل إنعام المنعم بشكر نفسه، و من اعتقد أن حمده و شكره يساوي نعمة اللّه فقد أشرك، و هذا معنى قول الواسطي «الشكر شرك» أما إذا قال: «الحمد للّه» فالمعنى أن كمال الحمد حقه و ملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا. و نقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك و شكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي و هو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك و طاقتك.

الرابعة:

عن النبي صلى اللّه عليه و سلم‏ «إذا أنعم اللّه على عبد فقال: «الحمد للّه» يقول اللّه تعالى: انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة لا»

و معناه أن ما أنعم اللّه على العبد شي‏ء واحد، و إذا قال: الحمد لك فمعناه المحامد التي أتى بها الأولون و الآخرون من الملائكة

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 95

و الثقلين للّه تعالى، و كذا المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى‏ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ [يونس: 10] و إلى أبد الآبدين و دهر الداهرين فالمنعم به متناه و الحمد غير متناه، و إذا أسقط المتناهي من غير المتناهي بقي غير المتناهي. فالذي بقي للعبد طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعم غير متناهية، فلهذا يستحق العبد الثواب الأبدي و الخير السرمدي.

الخامسة: لا شك أن الوجود خير من العدم، و أن وجود كل ما سوى اللّه فإنه حصل بإيجاد اللّه وجوده، فإنعام اللّه تعالى واصل إلى كل من سواه، فإذا قال العبد: «الحمد للّه» فكأنه قال: الحمد للّه على كل مخلوق خلقه، و على كل محدث أحدثه من نور و ظلمة و سكون و حركة و عرش و كرسي و جني و إنسي و ذات و صفة و جسم و عرض من أزل الآزال إلى أبد الآباد، و أنا أشهد أنها بأسرها لك لا شركة لأحد فيها معك.

السادسة: التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال: سبحان اللّه و الحمد للّه. فما السبب في وقوع البداءة بالتحميد؟ و الجواب أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته و صفاته عن النقائص، و التحميد يدل على كونه محسنا إلى العباد، و لا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات و إلا إذا كان قادرا على المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، و إلا إذا كان غنيا في نفسه و إلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص و الآفات.

السابعة: الحمد له تعلق بالماضي و هو وقوعه شكرا على النعم السابقة، و تعلق بالمستقبل و هو اقتضاء تجدد النعم لقوله تعالى‏ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ‏ [إبراهيم: 7] فبالأول يغلق عنك أبواب النيران، و بالثاني يفتح لك أبواب الجنان، فإن الحمد للّه ثمانية أحرف بعدد أبواب الجنة.

الثامنة: الحمد للّه كلمة جليلة لكنه يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود. قال السري: منذ ثلاثين سنة أستغفر اللّه لقولي مرة واحدة الحمد للّه. و ذلك أنه وقع الحريق في بغداد و أحرقت دكاكين الناس فأخبرني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت: الحمد للّه. و كان من حق الدين و المروءة أن لا أفرح بذلك، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة. فالحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا، و الحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح، و الحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 96

التاسعة: أول ما بلغ الروح إلى سرة آدم عطس فقال: «الحمد للّه رب العالمين» و آخر دعوى أهل الجنة «الحمد للّه رب العالمين». ففاتحة العالم مبنية على الحمد و خاتمته مبنية على الحمد، فاجتهد أن يكون أول أعمالك و آخرك مقرونا بكلمة الحمد.

العاشرة: لا يحسن عندنا أن يقدّر قولوا: «الحمد للّه» لأن الإضمار خلاف القياس، و لأن الوالد إذا قال لولده: أعمل كذا و كذا فلم يمتثل كان عاقا، فالأولى أن يقول الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل. ثم إن كان الولد بارا فإنه يجيبه و يطيعه و إن كان عاقا كان إثمه أقل، فكذلك إذا قال: الحمد للّه فمن كان مطيعا حمده و من كان عاصيا كان إثمه أقل، بخلاف ما لو قدر «قولوا الحمد للّه».

الحادية عشرة: شنعت الجبرية على المعتزلة و من يجري مجراهم بأنكم تثبتون للعبد فعلا و اختيارا، و استحقاق الحمد إنما يكون على أشرف النعم و هو الإيمان، فلو كان الإيمان بفعل العبد لكان المستحق للحمد هو العبد. و الجواب أن الإيمان باختيار العبد لكن الاختيار أيضا مستند إلى اللّه تعالى فاستحق الحمد لذلك. و شنعت المعتزلة على الجبرية بأن قوله «الحمد للّه» لا يتم إلا على مذهبنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله و لا جور في قضيته، و عندكم لا قبح إلا و هو فعله، و لا جور إلا و هو حكمه.

و الجواب أن القبح و الجور إنما يثبتان لو أمكن تصور الفعل المخصوص في القابل المخصوص أحسن و أتم مما صدر لكنه محال، فإنه تعالى حكيم و كل ما يصدر عن الحكيم كان على أفضل ما يمكن بالنسبة إلى المحل المخصوص.

الثانية عشرة: اختلفوا في أن شكر المنعم واجب عقلا أو شرعا. فمنهم من قال عقلا و من جملة أدلتهم قوله «الحمد للّه» فإنه يدل على ثبوت الاستحقاق على الإطلاق. و أيضا عقبه بقوله «رب العالمين» و ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فدل ذلك على أن استحقاقه للحمد ثابت بكونه ربا للعالمين قبل مجي‏ء الشرع و بعده. و الجواب أن استحقاقه لمثل هذا الحمد عرفناه من قبل الشرع. و اعلم أن الحمد سبيله سبيل سائر الأذكار و العبادات في أنها إنما يؤتى بها لا لأن اللّه تعالى مستكمل بها و لا لأنه تعالى مجازي بها، و لكنها لتحقيق نسبة العبودية و إضافة الإمكان اللّه حسبي الخامس في فوائد قوله رب العالمين.

الأولى: الموجود إما واجب لذاته و هو اللّه سبحانه و تعالى فقط، و إما ممكن لذاته و هو كل ما سواه و يسمى العالم كما مر، و ذلك إما متحيز أو صفة للمتحيز أو لا هذا و لا ذاك.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 97

القسم الأوّل: إن كان قابلا للقسمة فهو الجسم و إلا فالجوهر الفرد. فالجسم إما علوي أو سفلي، و العلوي كالسماويات و يندرج فيها العرش و الكرسي و سدرة المنتهى و اللوح و القلم و الجنة و الكواكب، و السفلي إما بسيط و هو العناصر الأربعة: الأرض بما عليها و فيها و الماء و هو البحر المحيط و ما يتشعب منه في القدر المكشوف من الأرض، و الهواء و منه كرة البخار و كرة النسيم و منه الهواء الصافي و النار. و إما مركب و هو المعادن و النبات و الحيوان على تباين أنواعها و أصنافها. القسم الثاني: الأعراض بأجناسها و أنواعها. القسم الثالث:

الأرواح و هي إما سفلية خيرة كالجن، أو شريرة كالشياطين. و إما علوية متعلقة بالأجسام كملائكة السموات‏

قال صلى اللّه عليه و سلم: «ما في السموات موضع شبر إلا و فيه ملك قائم أو قاعد»

أو غير متعلقة و هي الملائكة المقربون‏ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] و لأن كل موجود سوى الواجب يحتاج إلى الواجب في الوجود. و في البقاء أيضا فهو إله العالمين من حيث إنه أخرجها من العدم إلى الوجود، و رب العالمين من حيث إنه يبقيها حال استقرارها.

فكل من كان أكثر إحاطة بأحوال الموجودات و تفاصيلها كان أكثر وقوفا على تفسير قوله‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ .

الثانية: المربي قسمان: أحدهما أن يربي ليربح عليهم، و الثاني أن يربي ليربحوا عليه. و الأول شأن المخلوقين الذين غرضهم من التربية إما ثواب أو ثناء أو تعصب أو غير ذلك، و الثاني دأب الحق سبحانه و تعالى كما

قال: «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم»

و كيف لا يربحون عليه و أنه متعال عن الاستكمال منزه عن أن يحدث في خزائنه بسبب التربية و الإفادة و الإفاضة اختلال يحب الملحين في الدعاء و يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ [فاطر: 1] يكفي علمه من المقال و يغني كرمه عن السؤال‏ وَسِعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً [طه:

98] و يربي كل حي كرما و حلما وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ‏ [المؤمنون: 12، 13، 14] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ‏ [عبس: 24- 32] أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَ الْجِبالَ أَوْتاداً وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: 6- 16].

الثالثة: لما كان اللّه أحسن الأسماء عقبه بأكمل الصفات و هو رَبِّ الْعالَمِينَ‏ إذ

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 98

معناه أن وجود ما سواه فائض عن تربيته، و إحسانه وجوده و امتنانه، فالأول يدل على التمام و الثاني على أنه فوق التمام.

الرابعة: رب العالمين ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك و هو اللّه الواحد الأحد الصمد، و أنت تخدمه كأنّ لك أربابا غيره فما إنصافك أيها الإنسان؟ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ‏ [الأنبياء: 42] خلقت لعبادة الرب فلا تهدم حقيقتك بمعصية الرب، الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب.

السادس: في فوائد قوله‏ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ .

الأولى: الرحمن بما لا يتصور صدوره من العباد، و الرحيم بما يقدر عليه العباد. أنا الرحمن لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة.

الثانية: ذهب بعضهم إلى ملك فقال: جئتك لمهم يسير. فقال: أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير. فكأن اللّه تعالى يقول: لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت مني و لتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة، فأنا الرحمن لتطلب مني الأمور العظيمة، و أنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك و ملح قدرك.

الثالثة: الولد إذا أهمل حال ولده و لم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة و هو في الحقيقة عذاب. من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان، و عكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها، أو يضرب لتعليم حرفة، أو لتأدب بخصلة شريفة. فكل ما في العالم من محنة و بلية فهو في الحقيقة رحمة و نعمة وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ‏ [البقرة: 216] و قصة موسى مع الخضر كما تجي‏ء في موضعها تؤيد ما ذكرناه، و الحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.

الرابعة: أعطى مريم عليها السلام رحمة وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا [مريم:

21] فصارت سببا لنجاتها من توبيخ الكفار و الفجار، و أعطانا رحمة وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ‏ [الأنبياء: 107] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار.

الخامسة: وصف النبي صلى اللّه عليه و سلم بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه‏

قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون، و أنه يوم القيامة يقول: أمتي أمتي.

فلما وصف نفسه بكونه‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 99

رحمانا رحيما أيضا فكأنه يقول: الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات فذرني و عبيدي فإني أنا الرحمن الرحيم، رحمتي غير متناهية و معصيتهم متناهية و المتناهي لا يدرك غير المتناهي فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي‏ وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏ [الضحى: 5].

السادسة: حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: كنت ضيفا لبعض القوم، فقدم المائدة فنزل غراب و سلب رغيفا فاتبعته تعجبا، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. و عن ذي النون أنه قال: كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج من البيت، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقربا قويا يعدو، فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر، فقفز العقرب عليه و أخذ الضفدع يسبح، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره و أخذ يعدو، فتبعته فرأيت شابا نائما تحت شجرة و عنده أفعى يقصده، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى و لدغتها و الأفعى أيضا لدغتها و ماتتا معا. و في أدعية العرب: يا رازق النعاب في عشه. و حكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفرا منه، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه، فيبعث اللّه تعالى إليه في تلك المدة ذبابا يغتذي به.

و روي‏ أن فتى قربت وفاته و اعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا اللّه، فأتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم و أخبروه، فقام فدخل عليه و كان يعرض عليه الشهادة و لا يعمل لسانه فقال صلى اللّه عليه و سلم: أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم؟ فقالوا: بلى.

فقال: فهل عق والدته؟ قالوا: نعم. فقال: هاتوا أمه. فأتي بعجوز عوراء. فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:

هلا عفوت عنه؟ فقالت: لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني. فقال صلى اللّه عليه و سلم: هاتوا بالحطب و النار فقالت: و ما تصنع بالنار؟ فقال صلى اللّه عليه و سلم: أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل. فقالت:

عفوت عفوت أ للنار حملته تسعة أشهر أ للنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه و ذكر «أشهد أن لا إله إلا اللّه»

و النكتة أنها كانت رحيمة فقط و لم تجوّز الإحراق، فالرحمن الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الرحمن الرحيم سبعين سنة؟

قال صلى اللّه عليه و سلم: إن للّه تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس و الجن و الطير و البهائم و الهوام فيها يتعاطفون و يتراحمون، و أخر تسعا و تسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» «1»

و لعل هذا على سبيل التفهيم و التمثيل و إلا فكرمه بلا غاية و رحمته بلا نهاية.

(1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 19. مسلم في كتاب التوبة حديث 19. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 100

السابع: في فوائد قوله «مالك يوم الدين».

الأولى: من قضية العدالة الفرق بين المحسن و المسي‏ء، و المطيع و العاصي، و الموافق و المخالف، و لا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى‏ [طه: 15] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏ [الزلزلة: 6- 8]

روي‏ أنه يجاء برجل يوم القيامة و ينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة، فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك. فيقول: إلهي ماذا عملت؟ فيقول اللّه: أ لست لما كنت نائما تقلب من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك «اللّه»، ثم غلبك النوم في الحال فنسيت؟ أما أنا فلا تأخذني سنة و لا و لا نوم، فما نسيت ذلك. و يجاء برجل و توزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة «أن لا إله إلا اللّه» فلا يثقل مع ذكر اللّه غيره.

و اعلم أن حقوق اللّه تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين، و أما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها.

روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «أ تدرون ما المفلس؟ قالوا:

المفلس فينا من لا درهم له و لا متاع قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة و زكاة و صيام و يأتي قد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار» «1» .

الثانية: من قرأ «مالك» احتج بوجوه: الأول أن فيه حرفا زائدا فيكون ثوابه أكثر.

الثاني: في القيامة ملوك و لا مالك إلا اللّه. الثالث: المالكية سبب لإطلاق التصرف و الملكية ليست كذلك. الرابع: العبد أدون حالا من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية. الخامس: الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك. السادس: الملك يجب عليه رعاية حال الرعية

«كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته» «2»

و لا يجب على الرعية خدمة الملك، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه و أن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء و الإمامة و الشهادة، و يصير مسافرا

(1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 60. الترمذي في كتاب القيامة باب 2. أحمد في مسنده (2/ 303، 334).

صفحه بعد