کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 264

و الجود، فإن فيضه لا ينقطع و لا تقصير إلا من القابل، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض اليه لا محالة. و أيضا يستحق المبالغة من جهة أخرى و هي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة و وصفه بالرحمة.

روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال‏ «لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر، و لو جمع بكاء أهل الدنيا و بكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر، و لو جمع بكاء أهل الدنيا و بكاء داود و بكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر، و إذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء»

و لذا

قال نبينا صلى اللّه عليه و سلم‏ «إنه ليغان على قلبي و إني لأستغفر اللّه في اليوم سبعين مرة» «1»

فنحن أحق بالاستغفار، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا رينا، و ذلك أن الغين شي‏ء يغين أي يغشى القلب و يغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس، و لكن يمنع كمال ضوئها.

و الرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعا بالكلية عن قبول الحق و ذلك صفة الكفار كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ‏ [المطففين: 14]. قيل في تأويل الحديث: إن اللّه تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف و الشقاق، و كان إذا ذكر ذلك وجد غينا في قلبه فاستغفر لأمته. قيل: كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان. و قيل: الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانيا عن نفسه بالكلية، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو، و هذا تأويل أرباب الحقيقة. و قال أهل الظاهر: إن القلب لا ينفك عن الخطرات و الشهوات و أنواع الإرادات، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر. و عن ثابت البناني: بلغنا أن إبليس قال: يا رب، إنك خلقت آدم و جعلت بيني و بينه عداوة فسلطني عليه. فقال سبحانه:

جعلت صدورهم مساكن لك. فقال: رب زدني. فقال: لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة. قال: رب زدني. قال: تجري منه مجرى الدم. قال: رب زدني. قال: اجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد. قال: فشكا آدم إلى ربه فقال: يا رب إنك خلقت إبليس و جعلت بيني و بينه عداوة و بغضاء و سلطته علي و أنا لا أطيقه إلا بك. فقال اللّه تعالى: لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء. قال: رب زدني.

قال: الحسنة بعشر أمثالها. قال: رب زدني. قال: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر، و الغرغرة تردد الروح في الحلق. و سئل ذو النون عن التوبة فقال: إنها اسم جامع لمعان ستة: أولها الندم على ما مضى، و ثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل،

(1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 41. أبو داود في كتاب الوتر باب 26.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 265

و ثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك و بين اللّه، و الرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم و أعراضهم، و الخامس إذابة كل لحم و دم نبت من الحرام، و السادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي. و كان أحمد ابن الحرث يقول: يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب، يا صاحب الذنوب أنت غدا بالذنوب مطلوب. و إنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعا له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن و السنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] الآية.

(قوله) قُلْنَا اهْبِطُوا الآية. قيل: فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان: الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، و الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض. و ضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله‏ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عقيب الهبوط الثاني أولى. و أيضا قوله‏ مِنْها يدل على أن الهبوط الثاني أيضا من الجنة و الأوجه أن آدم و حواء لما أتيا بالزلة و تابا بعد الأمر بالهبوط، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باق تحقيقا للوعد المتقدم في قوله تعالى‏ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و وجه ثالث و هو أن يكون التكرير للتأكيد، و لما نيط به من زيادة قوله‏ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ‏

روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند، و حواء بجدة من أرض الحجاز، و إبليس بالأيلة من نواحي البصرة، و الحية بأصفهان، فلم يتلاقيا مائة سنة، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة، و اجتمعا بجمع و تعارفا بعرفات يوم عرفة، و تمنيا على اللّه تعالى المغفرة و التوبة بمنى، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني.

و ما في‏ فَإِمَّا مزيدة، لتأكيد الشرط و يؤيده لحوق النون المؤكدة و الشرط الثاني و جزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول. تبع و اتبع بمعنى، و إنما جاء في طه‏ فَمَنِ اتَّبَعَ‏ [طه: 123] موافقة لقوله فيها يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ‏ [طه: 108] و في الهدى وجهان: أحدهما المراد منه كل دلالة و بيان فيدخل فيه دليل العقل و كل كلام ينزل على نبي، و فيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال: و إذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى: إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع. عن الحسن: لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى اللّه تعالى إليه: يا آدم، أربع خصال فيها كل الأمر لك و لولدك: واحدة لي، و واحدة لولدك، و واحدة بيني و بينك، و واحدة بينك و بين الناس. أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا و أما التي لك فإذا عملت آجرتك، و أما التي بيني و بينك فعليك الدعاء و علي الإجابة، و أما التي بينك و بين الناس فأن‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 266

تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به. و قيل: هو رسول و كتاب بدليل‏ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [البقرة: 39] في مقابلة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ‏ في الإقدام على ما يلزم و الإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها و لا حزن. و هذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئا كثيرا من المعاني، لأن قوله‏ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً‏ دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية و الشرعية و زيادة البيان، و جميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل و وجوه التمكين. و جمع قوله‏ فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ‏ تأمل الأدلة بحقها و النظر فيها و استنتاج المعارف منها و العمل بها، و جمع قوله‏ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ جميع ما أعد اللّه تعالى لأوليائه، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه، أو انتظار محذور، و زواله يتضمن السلامة من جميع الآفات. و الحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب، و نفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات و المرادات. و إنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي، و هذا يدل على أن المكلف الذي أطاع اللّه تعالى لا يلحقه خوف عند الموت، و لا في القبر، و لا عند البعث، و لا عند حضور الموقف، و لا عند تطاير الكتب، و لا عند نصب الميزان، و لا عند الصراط إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏ [فصلت: 30] و قال قوم من المتكلمين: إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار و الفساق و المؤمنين بدليل قوله تعالى‏ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى‏ وَ ما هُمْ بِسُكارى‏ [الحج: 2] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ‏ [المائدة: 109] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏ [الأعراف: 6]

و في الحديث‏ «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه، و منهم من يكون إلى ركبتيه، و منهم من يكون إلى حقويه، و منهم من يلجمه العرق إلجاما، و أشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيده إلى فيه» «1» .

و حديث الشفاعة و قول كل نبي‏ «نفسي نفسي» إلا نبينا صلى اللّه عليه و سلم فإنه يقول: أمتي أمتي مشهور.

قلت: لا ريب أن وعد اللّه حق، فمن وعده الأمن يكون آمنا لا محالة، إلا أن الإنسان خلق ضعيفا لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين، و أيضا إن جلال اللّه و عظمته يدهش الإنسان برا كان أو

(1) رواه أحمد في مسنده (4/ 157) (5/ 254).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 267

فاجرا. و أيضا ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة، فلا عمل إلا بالإخلاص، و لا حكم بالإخلاص إلا للّه تعالى، لأنه من عمل القلب و قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء. و لهذا

جاء «و المخلصون على خطر عظيم»

و كان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف، و الرغبة بالرهبة، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً [السجدة: 16] وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً [الأنبياء: 90] و قيل: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏ [يونس:

62] أمامهم فليس شي‏ء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فآمنهم اللّه تعالى ثم سلاهم فقال لهم‏ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ [يونس: 62] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا. ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف و الحزن بالآخرة، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف و الحزن.

و قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «1»

قلنا: المؤمن الراضي بقضاء اللّه و قدره لا يرى شيئا من المكاره مكروها، و إنما مراده مراد حبيبه‏ فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية، و بالرضوان يحصل مفاتيح الجنان، و تنكشف الهموم و الأحزان، و يتساوى الفقر و الوجدان، و تثبت حقيقة الإيمان‏ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لجحدهم مولاهم‏ وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لإثباتهم حكما لهم بحسب مشتهاهم و هواهم‏ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ و ملازموها دائما سرمدا سواء كانوا من الإنس أو من الجن، أعاذنا اللّه منها بعميم فضله و جسيم طوله.

التأويل:

إنكم تسجدون للّه بالطبيعة الملكية الروحانية اسْجُدُوا لِآدَمَ‏ بخلاف الطبيعة تعبدا ورقا و انقيادا للأمر و امتثالا للحكم، اسجدوا له تعظيما لشأن خلافته و تكريما لفضيلته المخصوصة به، فمن سجد له فقد سجد للّه تعالى كما قال‏ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ‏ اسجدوا لآدم لأجل آدم فإن عبادتكم و طاعتكم لا توجب ثوابا لكم و لا تزيد في درجاتكم، و لكن فائدتها تعود إلى الإنسان لقوله‏ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ‏ و لأن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة و يتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر و الانزجار عن الإباء و الاستكبار، كيلا يلحقه من اللعن و البعد ما لحق إبليس‏ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ‏ لأنهم خلقوا من نور، و النور من شأنه الانقياد و الإفاضة، و أنه خلق من نار و النار من شأنها الاستعلاء طبعا وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ‏ لأنه ستر الحق على آدم كما سمي إبليس لأنه أبلس الحق. وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ

(1) رواه البخاري في كتاب المرضى باب 3. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب 67. الترمذي في كتاب الزهد باب 57 أحمد في مسنده (1/ 172، 174).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 268

أي أبحت لك نعيم الجنة بما فيها و ما كان لك فيها حق لأنك ما عملت بعد عملا تستحق به الجنة فأعطني هذه الشجرة الواحدة منها و هي كلها لي و أنا خلقتها، فإن طمعت فيها أيضا فاعلم أن الإنسان له همة عالية و حرص شديد لا يزال تقول جهنم حرصه «هل من مزيد» و لا تمتلى‏ء حتى يضع الجبار فيها قدمه أي سابقة رحمته و عنايته‏

«سبقت رحمتي غضبي» «1» .

ثم إنه أبيح له و لزوجه مشتهيات النفس كلها فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ‏ و قيل لهما اقتنعا بها و لا توقدا نار الفتنة على أنفسكما، و لا تصبا من قربة المحبة ماء المحنة على رأسكما، و لا تقربا شجرة المحبة و قد غرست لأجله في الحقيقة يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ‏ [المائدة: 54]. و لكن سبب النهي هو الدلال الذي يقتضيه غاية الجمال. و أيضا لو لم ينه عنها فلعله ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانية و كانت المحبة غذاء روحانيا فذكرها كان كالتحريض عليها فإن الإنسن حريص على ما منع و أيضا إنه تعالى وسع أسباب الانبساط أولا ثم ضيق عليه الأمر آخرا.

و أدنيتني حتى إذا ما فتنتني‏

بقول يحل العصم سهل الأباطح .

تجافيت عني حين لالي حيلة

و غادرت ما غادرت بين الجوانح .

خلقه بيده و نفخ فيه من روحه و أسجد له ملائكته و أسكنه الجنة في جواره و زوجه حواء حتى شاهد جمال الحق في مرآة وجهه، و أنبت شجرة المحبة بين يديه ثم منعه عنها و كان في ذلك المنع تذكير و تحريض. أيضا كما مر ثم عاتبه بقوله‏ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ‏ و هذا كما أسكر موسى بأقداح الكلام و أذاقه لذة شراب السماع و قربه نجيا حتى اشتاق إلى جماله و طمع في وصاله و قال‏ رَبِّ أَرِنِي‏ [الأعراف: 143] عاتبه بسطوة لَنْ تَرانِي‏ [الأعراف: 143] و ذلك أن البلاء و الولاء توأمان و المحبة و المحنة رضيعا لبان، و المطلوب كلما كان أرفع كان أعز و أمنع و الجمال لا بد له من الدلال، و به يتميز العاشق الصادق من المدعي المختال. فَلَمَّا ذاقَا شجرة الغرام خرجا من دار السلام فما لأهل الغرام و دار السلام؟ و أين الفارغ السالي من المحب الغالي؟

فبتنا على رغم الحسود و بيننا

حديث كطيب المسك شيب به الخمر .

فلما أضاء الصبح فرق بيننا

و أي نعيم لا يكدره الدهر؟ .

(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 269

و بالجملة، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء، فلم يمس بعد أن كان مسجود الملك مرفوع السماك إلى السماك مشمول الرعاية موفور العناية حتى نزع عنه لباس الأمن و الفراغ، و بدل باستئناسه الاستيحاش، تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج من غير مكث و لا بحث، فأزلتهما يد التقدير بحسن التدبير، و كان الشيطان المسكين كذئب يوسف لطخ خرطومه بدم نصح، فلما وقعا من القربة في الغربة، و من الألفة في الكلفة لما ذاقا من شجرة المحبة المورثة للمحنة استوحشا من كل شي‏ء، و اتخذا عدوّا بعضكم لبعض عدو، و هكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب. فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة. فلما استقرت حبة المحبة في أرض قلب آدم جعل الأرض مستقر شخصه ليتمتع بتربية بذر المحبة بماء الطاعة و التكليف إلى حين إدراك ثمرة المعرفة وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏ [الذاريات: 56]

و قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «إن داود قال: يا رب لم خلقت الخلق؟ فقال: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف».

ثم إنه بعد ما ابتلي بالهبوط بشره بأن وحيه لا ينقطع و هدايته لا ترتفع، و إن من ربى بذر المحبة بماء الطاعة و الطباعة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏ في المستقبل‏ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ على ما مضى من الهبوط إلى الأرض، لأنهم يرجعون بجذبات العناية و الهداية إلى ذرى حظائر القدس و باللّه التوفيق.

[سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 46]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

القراآت:

إِسْرائِيلَ‏ بغير همزة حيث كان: يزيد و حمزة في الوقف‏ نِعْمَتِيَ‏ و كذلك ما بعدها ساكنة الياء: أبو زيد عن المفضل‏ فَارْهَبُونِ‏ فَاتَّقُونِ‏ بالياء في الحالين:

يعقوب، و كذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية. و روى مسيح بن حاتم و ابن دريد عن سهل و عباس بالياء في الوصل. أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ‏ ممالة: قتيبة و أحمد بن فرج‏

الوقوف:

فَارْهَبُونِ‏ (ه) ربع الجزء. كافِرٍ بِهِ‏ (ص) لاتفاق الجملتين و على‏ قَلِيلًا أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول. فَاتَّقُونِ‏ (ه) تَعْلَمُونَ‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 270

(ه) الرَّاكِعِينَ‏ (ه) الْكِتابَ‏ (ط) تَعْقِلُونَ‏ (ه) الصَّلاةِ (ط) الْخاشِعِينَ‏ (لا) لأن «الذين» صفتهم. راجِعُونَ‏

التفسير:

صفحه بعد