کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 269

و بالجملة، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء، فلم يمس بعد أن كان مسجود الملك مرفوع السماك إلى السماك مشمول الرعاية موفور العناية حتى نزع عنه لباس الأمن و الفراغ، و بدل باستئناسه الاستيحاش، تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج من غير مكث و لا بحث، فأزلتهما يد التقدير بحسن التدبير، و كان الشيطان المسكين كذئب يوسف لطخ خرطومه بدم نصح، فلما وقعا من القربة في الغربة، و من الألفة في الكلفة لما ذاقا من شجرة المحبة المورثة للمحنة استوحشا من كل شي‏ء، و اتخذا عدوّا بعضكم لبعض عدو، و هكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب. فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة. فلما استقرت حبة المحبة في أرض قلب آدم جعل الأرض مستقر شخصه ليتمتع بتربية بذر المحبة بماء الطاعة و التكليف إلى حين إدراك ثمرة المعرفة وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏ [الذاريات: 56]

و قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «إن داود قال: يا رب لم خلقت الخلق؟ فقال: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف».

ثم إنه بعد ما ابتلي بالهبوط بشره بأن وحيه لا ينقطع و هدايته لا ترتفع، و إن من ربى بذر المحبة بماء الطاعة و الطباعة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏ في المستقبل‏ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ على ما مضى من الهبوط إلى الأرض، لأنهم يرجعون بجذبات العناية و الهداية إلى ذرى حظائر القدس و باللّه التوفيق.

[سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 46]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

القراآت:

إِسْرائِيلَ‏ بغير همزة حيث كان: يزيد و حمزة في الوقف‏ نِعْمَتِيَ‏ و كذلك ما بعدها ساكنة الياء: أبو زيد عن المفضل‏ فَارْهَبُونِ‏ فَاتَّقُونِ‏ بالياء في الحالين:

يعقوب، و كذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية. و روى مسيح بن حاتم و ابن دريد عن سهل و عباس بالياء في الوصل. أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ‏ ممالة: قتيبة و أحمد بن فرج‏

الوقوف:

فَارْهَبُونِ‏ (ه) ربع الجزء. كافِرٍ بِهِ‏ (ص) لاتفاق الجملتين و على‏ قَلِيلًا أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول. فَاتَّقُونِ‏ (ه) تَعْلَمُونَ‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 270

(ه) الرَّاكِعِينَ‏ (ه) الْكِتابَ‏ (ط) تَعْقِلُونَ‏ (ه) الصَّلاةِ (ط) الْخاشِعِينَ‏ (لا) لأن «الذين» صفتهم. راجِعُونَ‏

التفسير:

أنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد و النبوة و المعاد، ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر و من جملتها خلق آدم إلى تمام قصته، أردفها الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود، إلانة لشكيمتهم و استمالة لقلوبهم و تنبيها على نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم من حيث كونه إخبارا بالغيب مدرجا في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان و مكارم الأخلاق، و إسرائيل هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عير منصرف للغلمية و العجمية المعتبرة لقب له، و معناه صفوة اللّه. و قيل: عبد اللّه، لأن «إسر» بالعبرية هو العبد، «و إيل» اللّه. و قوله‏ يا بَنِي إِسْرائِيلَ‏ خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد صلى اللّه عليه و سلم. و حد النعمة و ما يتعلق بها قد سبق في تفسير الفاتحة. و العائد من الصلة محذوف أي أنعمت بها عليكم. قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرة، و عبيد المنعم قليلون، فإن اللّه تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، و لما آل الأمر إلى أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم ذكرهم المنعم فقال‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏ [البقرة: 152] عن ابن عباس أنه قال: من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون، و ظلل عليهم في التيه الغمام، و أنزل عليهم المن و السلوى، و أعطاهم الحجر الذي كان يسقيهم ما شاءوا، و أعطاهم عمودا من النور أضاء لهم بالليل، و كانت رؤوسهم لا تتشعت و ثيابهم لا تبلى، و في تذكير هذه النعم فوائد: منها أن فيها ما يشهد بصدق محمد صلى اللّه عليه و سلم و هو التوراة و الإنجيل و الزبور. و منها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية، فذكرهم إياها ليحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القرآن. و منها أن تذكر النعم الكثيرة يوجب الحياء من إظهار المخالفة. و منها أن كثرة النعم تفيد أن المنعم خصهم بها من بين سائر الناس، و من خص أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم كما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه. فتذكير النعم السالفة مطمع في النعم الآتية، و ذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة و المخاصمة. و النعمة على الآباء نعمة على الأبناء إذ لولاها لم يبق نسلهم، و لأن الانتساب إلى آباء خصهم اللّه تعالى بنعم الدين و الدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد، و لأنهم إذا علموا أن آباءهم إنما خصوا بهذه النعم لمكان طاعتهم و الإعراض عن الكفر و الجحود، رغبوا في هذه الطريقة لأن الابن مجبول على اتباع الأب «من أشبه أباه فما ظلم». و العهد يضاف إلى المعاهد و المعاهد جميعا. يقال: أوفيت بعهدي أي بما عاهدتك عليه، و أوفيت بعهدك أي بما عاهدتك عليه. و المعنى: أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي و الطاعة لي أوف بعهدكم أي أرض عنكم و أدخلكم الجنة حكاه الضحاك عن ابن‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 271

عباس. و تحقيقه في قوله تعالى‏ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ‏ [التوبة: 111] و قيل: المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم و أنه سيبعثه، و إليه الإشارة في قوله‏ وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً إلى قوله‏ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [المائدة: 12] و في الأعراف‏ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏ [الأعراف: 156] الآية.

و في آل عمران‏ وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ‏ [آل عمران: 81] و في الصف‏ وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ‏ [الصف: 6] و عن ابن عباس: إن اللّه كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا، فمن تبعه و صدق بالتوراة الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه و أدخلته الجنة و جعلت له أجرين، أجرا باتباع ما جاء به موسى و جاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل، و أجرا باتباع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه و سلم النبي الأمي الذي من ولد إسماعيل و تصديق هذا في القرآن‏ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ‏ [الحديد: 28].

و عن أبي موسى الأشعري مرفوعا «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين:

رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى اللّه عليه و سلم فله أجران، و رجل أدّب أمته فأحسن تأديبها و علمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها و تزوجها فله أجران، و رجل أطاع اللّه و أطاع سيده فله أجران» «1»

فإن قيل: لو كان الأمر كما قلتم، فكيف يجوز من جماعتهم جحده صلى اللّه عليه و سلم؟

قلنا: إما لأن هذا العلم به صلى اللّه عليه و سلم كان حاصلا عند العلماء بكتبهم و لم يكن لهم عدد كثير فجاز منهم كتمانه صلى اللّه عليه و سلم، و إما لأن ذلك النص كان نصا خفيا لعدم تعيين الزمان و المكان بحيث يعرفه كل أحد، فجاز وقوع الشكوك و الشبهات فيه. جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة: أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك للّه تعالى. فقال لها: يا هاجر أين تريدين؟ قالت: أهرب من سيدتي سارة. فقال: ارجعي إلى سيدتك و اخفضي لها فإن اللّه سيكثر زرعك و ذريتك، و ستحبلين و تلدين ابنا تسميه إسماعيل، من أجل أن اللّه سمع خشوعك، و هو يكون عينا بين الناس و تكون يده فوق الجميع، و يد بجميع مبسوطة إليه بالخضوع. فقيل: هذا الكلام خرج مخرج البشارة لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق و أوائل الشام إلا على أتم خوف، فلما جاء الإسلام استولوا على الخافقين بالإسلام و مازجوا الأمم و وطئوا بلادهم و مازجتهم الأمم و حجوا بيتهم و دخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة.

(1) رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 46.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 272

وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏ فلا تنقضوا عهدي و هو من قولك: زيد أرهبته أي زيدا رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص. فتقديره: و إياي ارهبوا فارهبون. و هو أوكد في إفادة الاختصاص من‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 4] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها و ما بعدها.

أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. و من قبل التكرير و لأجل الإضمار و التفسير. و الرهبة هي الخوف، و الخوف إما من العقاب و هو نصيب أهل الظاهر، و إما من الجلال و هو وظيفة أرباب القلوب، و الأول يزول، و الثاني لا يزول. و من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر و بالعكس.

يروى‏ أنه ينادي مناد يوم القيامة: و عزتي و جلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين و لا أمنين، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، و من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة.

قوله‏ وَ آمِنُوا معطوف على‏ اذْكُرُوا و المراد بِما أَنْزَلْتُ‏ القرآن و مُصَدِّقاً حال مؤكدة من الراجع المحذوف و فيه تفسيران: أحدهما أن في القرآن أن موسى و عيسى حق، و التوراة و الإنجيل حق، و التوراة أنزل على موسى، و الإنجيل على عيسى، فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة و الإنجيل و الثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و بالقرآن في التوراة و الإنجيل، فكان الإيمان بمحمد و القرآن تصديقا للتوراة و الإنجيل، و التكذيب بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القرآن تكذيبا لهما، و في هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقا، و من جهة أنه صلى اللّه عليه و سلم أخبر عن كتبهم و لم يكن له صلى اللّه عليه و سلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي‏ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ‏ صلى اللّه عليه و سلم أي أوّل من كفر به صلى اللّه عليه و سلم، أو أوّل فريق أو فوج كافر به صلى اللّه عليه و سلم، أو و لا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله «كسانا حلة» أي كل واحد منا.

(و هاهنا سؤالان) الأول: كيف جعلوا أوّل من كفر به صلى اللّه عليه و سلم و قد سبقهم إلى الكفر به صلى اللّه عليه و سلم مشركو العرب؟ و في الجواب وجوه: الأوّل: انه تعريض و أنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلى اللّه عليه و سلم لمعرفتهم به صلى اللّه عليه و سلم و بصفته، و لأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى اللّه عليه و سلم و المستفتحين به على الذين كفروا، و كانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم. فلما بعث كان أمرهم على العكس‏ فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏ [البقرة: 89]. و الثاني: و لا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي و لا تكونوا- و أنتم تعرفونه صلى اللّه عليه و سلم موصوفا في التوراة- مثل من لم يعرفه صلى اللّه عليه و سلم لأنه لا كتاب له. الثالث: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ‏ من أهل الكتاب، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به و بالقرآن من بني إسرائيل. الرابع‏ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ‏ يعني بكتابكم. يقول ذلك لعلمائهم، لأن تكذيبكم بمحمد صلى اللّه عليه و سلم يوجب تكذيبكم بكتابكم. الخامس: المراد بيان تغليظ كفرهم، و ذلك أن السابق الى الكفر كفره‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 273

غليظ

«من سن سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها» «1»

و الكافر عن دليل و معرفة بما يوجب الإيمان كفره أغلظ ممن كفر و لا دليل له على الإيمان، فاشتركا من هذا الوجه، فصح إطلاق أحدهما على الآخر. السادس: و لا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة. السابع:

أوّل فريق كفر من اليهود لأن النبي صلى اللّه عليه و سلم قدم المدينة و بها قريظة و النضير، فكفروا ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر. الثامن: و لا تكونوا أول الكافرين به صلى اللّه عليه و سلم عند سماعكم بذكره صلى اللّه عليه و سلم، بل تثبتوا و راجعوا عقولكم فيه صلى اللّه عليه و سلم.

السؤال الثاني: كأنه يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّل الجواب ليس في ذكر الشي‏ء دلالة على أن ما عداه بخلافه. و أيضا في قوله‏ وَ آمِنُوا دلالة على أن كفرهم أولا و آخرا محظور. و أيضا قوله‏ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير.

و قوله‏ رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد: 2] لا يدل على وجود عمد لا نراها فكذلك هاهنا. قال المبرد: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم، فقيل لهم:

لا تكفروا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم فإنه سيكون بعدكم كفار، فلا تكونوا أنتم أول الكفار فإنه يكون عليكم وزر من كفر إلى يوم القيامة. و الاشتراء استعارة للاستبدال كما قلنا في‏ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏ [البقرة: 16] أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا، و إلا فالثمن هو المشترى به، و الثمن القليل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم. خافوا عليها لفوات لو تبعوا دين الإسلام.

و قيل: الثمن هو الرشا التي يأخذها علماؤهم على تحريف الكلم عن مواضعه و تسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع‏ وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ‏ مثل‏ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏ و قيل: الاتقاء إنما يكون عند الجزم الجزم بحصول ما يتقى عنه، فكأنه أمرهم بالرهبة. على أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم.

قوله‏ وَ لا تَلْبِسُوا أمر بترك الإغواء و الإضلال كما أن قوله‏ وَ آمِنُوا أمر بترك الكفر و الضلال. و لإضلال الغير طريقان: لأنه إن سمع الدلائل فإضلاله بتشويشها عليه، و إن لم يسمعها فإضلاله بكتمانها و منعه من الوصول إليها. فقوله‏ وَ لا تَلْبِسُوا إشارة إلى القسم الأول، و قوله‏ وَ تَكْتُمُوا المجزوم بلا المقدرة للنهي عطفا على المنهي قبله إشارة إلى القسم الثاني. و الباء التي في‏ بِالْباطِلِ‏ إما للوصل كما في قولك «لبست الشي‏ء بالشي‏ء» خلطته به، فكان المعنى: و لا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل‏

(1) رواه مسلم في كتاب العلم حديث 15. النسائي في كتاب الزكاة باب 64. أحمد في مسنده (4/ 357، 359).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 274

الذي كتبتم حتى لا يميز بينهما. و إما للاستعانة كما في «كتبت بالقلم» فالمعنى: و لا تجعلوا الحق ملتبسا بباطلكم و هو الشبهات التي توردونها على السامعين. و ذلك أن النصوص الواردة في التوراة و الإنجيل في أمر محمد صلى اللّه عليه و سلم كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها و يشوّشون وجه الدلالة على المتأملين كقوله‏ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ‏ [غافر: 5] قيل: و يجوز أن يكون‏ وَ تَكْتُمُوا منصوبا بإضمار «أن»، و الواو بمعنى الجمع أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل و كتمان الحق نحو «لا تأكل السمك و تشرب اللبن». قلت: هذا التقدير يوهم أن يكون المحظور هو الجمع بين الأمرين كالجمع بين أكل السمك و شرب اللبن حتى لو أتى بكل منهما منفردا عن الآخر جاز، اللهم إلا أن يحال ذلك على القرينة كما في قوله‏ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الدهر: 24] إذ لا يجوز أن يريد أطع أحدهما لقرينة الإثم و الكفر. وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏ ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة

«من سن سنة سيئة فله وزرها و وزر من عمل بها» «1»

و النهي عن اللبس و الكتمان و إن قيد بالعلم لم يدل على جوازهما حال عدم العلم، لأن السبب في ذكره أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضارا أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضارا، و النهي و إن كان خاصا لكنه عام، فكل عالم بالحق يجب عليه إظهاره و يحرم عليه كتمانه. ثم لما أمرهم بذكر نعمته و بالإيمان برسوله و كتابه و نهاهم عن اللبس و الكتمان، بين لهم ما لزمهم من أصول الشرائع فقال‏ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي التي عرفتموها بوصف النبي، بناء على أنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب. و أما القائلون بجواز التأخير فقد جوزوا ورود الأمر بالصلاة و إن لم يعرف حقيقتها، و يكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال و إن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما لو قال السيد لعبده: إني آمرك غدا بشي‏ء فلا بد أن تفعله. و يكون الغرض أن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني. و معنى الصلاة لغة و شرعا قد تقدم في أول البقرة. و أما الزكاة فهي في اللغة، الزيادة و النماء، و في الشرع القدر المخرج من النصاب لأنها تزيد في بركة المخرج عنه، و يمكن أن يقال: مأخوذة من التطهير من زكى نفسه تزكية إذا مدحها و طهرها من العيوب. قال تعالى‏ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] فإن المخرج يطهر ما بقي من المال.

قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «عليك بالصدقة فإن فيها ست خصال: ثلاث في الدنيا و ثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فتزيد في‏

(1) المصدر السابق.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 275

الرزق، و تكثر المال، و تعمر الدار. و أما التي في الآخرة فتستر العورة، و تصير ظلا فوق الرأس، و تكون سترا من النار».

و في هذا الخطاب مع اليهود دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.

و في قوله‏ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ‏ وجوه: أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم، فخص الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين. و ثانيها صلوا مع المصلين فلا تكرار لأن الأول أمر بإقامتها، و الثاني أمر بالجماعة. و ثالثها الركوع و الخضوع لغة سواء، فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم و أمرا بالتذلل للمؤمنين، ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان و الشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر، و هو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول. و الهمزة في‏ أَ تَأْمُرُونَ‏ للتقرير مع التقريع، و التعجيب من حالهم. و البر اسم جامع لأعمال الخير، و منه بر الوالدين و هو طاعتهما و عمل مبرور مرضي. و اختلف في البر هاهنا. قال السدي: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة اللّه ثم يتركونها و ينهونهم عن معصية اللّه و يرتكبونها. و قال ابن جريج.

تأمرون الناس بالصلاة و الزكاة و تتركونهما. أبو مسلم: كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم و يدعو إلى الحق و يرغبونهم في اتباعه، فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و سلم حسدوه و أعرضوا عن دينه. الزجاج: يأمرون الناس بالصدقة و يشحون بها.

و قيل: يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم و غيرهم باتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم و لا يتبعونه.

صفحه بعد