کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 435

و التنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه و ذلك مما لا نزاع فيه، و إنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف و تثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل. وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ‏ و من أي بلد خرجت يا محمد فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‏ إذا صليت‏ وَ إِنَّهُ‏ و إن هذا المأمور به‏ لَلْحَقُ‏ الذي يجب أن يقبل و يعمل به حال كونه‏ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏ وعد للمتشاغلين و وعيد للمتغافلين. و اعلم أن أمر التولية ذكره اللّه تعالى ثلاث مرات، و للعلماء في سبب التكرير أقوال:

أولها: أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام، و الثانية على أن يكون غائبا عنه و لكن يكون في البلد، و الثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم.

و ثانيها: أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر، و ذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة و الإنجيل، و أكد الثاني بإخبار اللّه تعالى عن حقيته و كفى به شهيدا، و أتبع الثالث غرض التحويل و هو قوله‏ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ كما أن قوله‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ‏ و أمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة.

و ثالثها: أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلى اللّه عليه و سلم و طلبا لهواه حيث قال‏ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فأزيل الوهم بتكرار الأمر و تعقيبه بقوله‏ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ‏ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك و هواك كقبلة اليهود و المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى و التشهي، و لكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك، و في الثالثة بيان الغرض.

و رابعها: أن الأولى لتعميم الأحوال و الثانية لتعميم الأمكنة، و الثالثة لتعميم الأزمنة إشعارا بأنها لا تصير منسوخة البتة.

و خامسها: الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى. الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا و هذا قريب من الثالث.

و سادسها: هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد و التقرير.

و سابعها: قلت: الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلى اللّه عليه و سلم‏ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‏ ثم على تكليف عام له و لأمته‏ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 436

فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏ و الآية الثانية وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‏ لأجل تكليف أخص و هو تكليف الالتفات عما سوى اللّه إلى اللّه و هو تكليف الصدّيقين و هو سنة خليل الرحمن صلى اللّه عليه و سلم‏ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‏ [الأنعام: 49] و مما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله‏ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ‏ لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو و هو مقام الفناء في اللّه بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير. و أيضا اقتصر هاهنا على أمر النبي صلى اللّه عليه و سلم دون الأمة لأن هذه المرتبة و هي المسجد الحرام- حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. و أيضا قدم على الآية قوله‏ وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ‏ فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين‏ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ‏ [فاطر: 32] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه و العام له و لأمته، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باق بالنسبة إلى عموم المكلفين و اللّه تعالى أعلم بحقائق الأمور.

قوله‏ لِئَلَّا يَكُونَ‏ أي ولوا لأجل هذا الغرض. و قال الزجاج: يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة. و الناس قيل للعموم، و قيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا و يتبع قبلتنا و يقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. و قيل: هم العرب قالوا: إنه يقول أنا على دين إبراهيم، و لما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم. و إنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة، أو سماها حجة تهكما أو طباقا أو بناء على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة. و قد تكون الحجة باطلة قال تعالى‏ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ [الشورى: 16] و كل كلام يقصد به غلبة الغير حجة، و على هذا فالاستثناء متصل. و المراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه و حبا لبلده، و لو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء، أو بعض العرب القائلون بأن محمدا عاد إلى ديننا في الكعبة و سيعود إلى ديننا بالكلية. و قيل: الاستثناء منقطع. و قيل: «إلا» بمعنى الواو و أنشد شعر:

و كل أخ مفارقه أخوه‏

لعمر أبيك إلا الفرقدان‏

يعني و الفرقدان. و إذا طعنوا في دينكم من غير ما سبب‏ فَلا تَخْشَوْهُمْ‏ فإنهم لا يضرونكم‏ وَ اخْشَوْنِي‏ و احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم و فرضت عليكم على وفق مصلحتكم، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله و تروكه خشية اللّه و يقطع‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 437

الرجاء و الخوف عمن سواه. قوله‏ وَ لِأُتِمَ‏ قيل: معطوف على‏ لِئَلَّا أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين: إحداهما انقطاع حجتهم، و الثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم. و قيل: متعلقة محذوف معناه و لإتمامي النعمة عليكم و إرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك. و قيل: معطوف على علة مقدرة كأنه قال: و اخشوني لأوفقكم و لأتم نعمتي عليكم و هذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم‏ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏ [المائدة: 3] فإن للّه تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين و لها تمام بحسبها، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة، و ذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق‏

و عن علي عليه السلام: تمام النعمة الموت على الإسلام.

و في الحديث‏ «تمام النعمة دخول الجنة» «1»

كَما أَرْسَلْنا «ما» مصدرية أو كافة. ثم إن الجار و المجرور يتعلق بما قبله أو بما بعده. و على الأول قيل: معناه و لأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف و في الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، أو لأتم نعمتي ببيان الشرائع، أو أهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال‏ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: 128] كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته حيث قال‏ رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة: 129] و قيل: معناه كذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا، و على الثاني معناه كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني أذكركم تارة أخرى. و فيه أن نعمه على العبد لا تنقطع، فكل نعمة سابقة فسيضم إليها أخرى لاحقة حتى يكون له الفضل أولا و أخيرا و بداية و نهاية. و في إرساله فيهم و منهم أي من العرب نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف، و لأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه اللّه تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب. و كون القرآن متلوا من أعظم النعم لأنه معجزة باقية و لأنه يتلى فتتأدى به العبادات، و لأنه يتلى فتستفاد منه جميع العلوم، و لأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا و الآخرة. و معنى التزكية و تعليم الكتاب و الحكمة قد مر في دعاء إبراهيم. و في قوله‏ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ‏ تنبيه على أنه تعالى أرسله على فترة من الرسل و جهالة من الأمر و تحير الناس في أمر الديانة، فعلمهم ما احتاجوا إليه في صلاح معاشهم و معادهم و ذلك من أعظم أنواع النعم‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ‏ تكليف بأمرين:

الذكر و الشكر. و قد مر ذكر الشكر في تفسير الحمد و قوله‏ وَ لا تَكْفُرُونِ‏ عطف بالواو ليعلم أن جحود النعمة منهيّ عنه كما أن الشكر مأمور به. و لو قطع على طريقة قوله:

(1) رواه الترمذي في كتاب الدعاء باب 93. أحمد في مسنده (5/ 231، 235).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 438

«أقول له ارحل لا تقيمن عندنا» لأوهم أن المقصود بالذات هو الثاني و الأول في حكم المنحى. و يحتمل من حيث العربية أن تكون «لا» نافية و النون ليست للوقاية، و محل الجملة النصب على الحال أي اشكروا لي غير جاحدين لنعمتي. و أما الذكر فباللسان و هو أن يحمده و يسبحه و يمجده و يقرأ كتابه، أو بالقلب و هو أن يتفكر في الدلائل على ذاته و صفاته، و في الأجوبة عن شبه الطاعنين فيها و في الدلائل على كيفية تكاليفه و أحكامه و أوامره و نواهيه و وعده و وعيده ليعمل بمقتضاها، ثم يتفكر في أسرار المخلوقات متوصلا من كل ذرة إلى موجدها، أو بالجوارح و هو أن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها فارغة عن الأشغال المنهي عنها. و بهذا الوجه سمى الصلاة ذكرا فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ‏ [الجمعة: 9] و أما ذكر اللّه تعالى فلا بد أن يحمل على ما له تعلق بالثواب و إظهار الرضا و استحقاق المنزلة و الإكرام فالحاصل اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة، اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة، اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات، اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء، اذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية، اذكروني بالصدق و الإخلاص أذكركم بالخلاص و مزيد الاختصاص، اذكروني بالعبودية أذكركم بالربوبية، اذكروني بالفناء أذكركم بالبقاء.

[سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 157]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

القراآت:

إِنَّا لِلَّهِ‏ بالإمالة فيهما: قتيبة و نصير. و إنما جازت مع امتناعها في الحروف لكثرة استعمال كلمة الاسترجاع.

الوقوف:

وَ الصَّلاةِ ط الصَّابِرِينَ‏ لا أَمْواتٌ‏ ط لا تَشْعُرُونَ‏ ه‏ وَ الثَّمَراتِ‏ ط الصَّابِرِينَ‏ لا لأن صفتهم‏ مُصِيبَةٌ لا لأن «قالوا» جواب «إذا» راجِعُونَ‏ ط لأن «أولئك» مبتدأ على الأصح و من ابتداء بالذين فخبره «أولئك» مع ما يتلوه و وقف على الصابرين و لم يقف على‏ راجِعُونَ‏ الْمُهْتَدُونَ‏ ه.

التفسير:

أنه تعالى لما أوجب بقوله‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي‏ جميع الطاعات و رغب بقوله‏ وَ لا تَكْفُرُونِ‏ عن جميع المنهيات فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم اللّه تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله، ندب إلى الاستعانة على تلك‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 439

الوظائف بالصبر و الصلاة. فالصبر قهر النفس على احتمال المكاره في ذات اللّه تعالى، و الصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع و التذلل للمعبود و التدبر لآيات الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب، انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات و الاجتناب عن جميع الفواحش و المنكرات‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏ بالنصر و التأييد و مزيد التوفيق و التسديد وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً‏ [مريم: 76] و قيل: الصبر الصوم. و قيل: الجهاد بدليل قوله‏ وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ أي هم أموات بل هم أحياء.

و على الوجه الأول كأنه قيل: استعينوا بالصبر و الصلاة في إقامة ديني و سلوك سبيلي، فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوّي بأموالكم و أنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي، من قتله محبته فديته رؤيته. ثم إن أكثر المفسرين على أنهم أحياء في الحال، فمن الجائز أن يجمع اللّه تعالى من أجزاء الشهيد جملة فيحييها و يوصل إليها النعيم و إن كانت في حجم الذرة فيرى معظم جسد الشهيد ميتا فلا يحس بحياته و إليه الإشارة بقوله‏ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ‏ و مما يؤيد هذا القول الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا [غافر: 46] أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] و الفاء للتعقيب و

قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران» «1»

. و لم يزل أرباب القلوب يزورون قبور الشهداء و يعظمونها. و قيل: المعنى لا تسموهم بالأموات و قولوا لهم الشهداء الأحياء. أو المراد: قولوا لهم أحياء في الدين و إنهم على هدى و نور من ربهم لا كما يزعم المشركون أنهم ليسوا من الدين في شي‏ء أو لا تقولوا مثل ما يقول منكرو البعث إنهم لا ينشرون و قد ضيعوا أعمارهم، و لكنهم سيحيون فيثابون و ينعمون في الجنة. و على هذه الوجوه لا يبقى لتخصيص الشهداء بكونهم أحياء فائدة و كذا لقوله مع المؤمنين و لكن لا تشعرون. و قيل: إن الثواب و كذا العقاب للروح لا للقالب، لأنه مدرك للجزئيات أيضا فلا يمتنع أن يتألم و يلتذ. ثم إنه سبحانه يرد الروح إلى البدن في القيامة الكبرى حتى يضم الأحوال الجسمانية إلى الإدراكات الروحانية. عن ابن عباس أن الآية نزلت في شهداء بدر و كانوا أربعة عشر، ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار.

و عن كعب بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة» «2»

أي تأكل‏ وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ‏ و لنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون‏

(1)

رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 36. بدون لفظ «أو حفرة من حفر النار».

(2) رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 13. الدارمي في كتاب الجهاد باب 18. أحمد في مسنده (6/ 386) بدون لفظ «حواصل».

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 440

و تثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة و تسلمون لأمر اللّه و حكمه، أم تنقلبون على أعقابكم و تظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير؟ أمر أولا بالشكر على إكمال الشرائع، ثم بالصبر على التكاليف الدينية، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب و بروق المصائب، و معنى‏ بِشَيْ‏ءٍ بيان من هذه الأشياء و أيضا لو قال «بأشياء» لأوهم أن من كل واحد من الخوف و غيره ضروبا و ليس بمراد. و فيه أن كل بلاء أصاب الإنسان و إن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه، و فيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. و اعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه و محبوب فإذا خطر ببالك و هو قد مضى سمي ذكرا و تذكرا، و إن كان في الحال سمي ذوقا و وجدا لأنها حالة تجدها من نفسك، و إن تعلق بالاستقبال و غلب خطوره على قلبك سمي انتظارا و توقعا، فإن كان المنتظر مكروها حصل منه ألم في القلب يسمى خوفا و إشفاقا، و إن كان محبوبا سمي ذلك ارتياحا و الارتياح رجاء. و أما الجوع فالمراد منه القحط و تعذر تحصيل القوت. عن عطاء و الربيع بن أنس: أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم بعد الهجرة و قد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم و اجتماعهم عليهم و قد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان‏ هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب: 11] و أما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه صلى اللّه عليه و سلم كان يشد الحجر على بطنه.

و قد روي‏ أنه صلى اللّه عليه و سلم خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال: ما أخرجك؟ قال: الجوع. قال: أخرجني ما أخرجك و كانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون.

فهناك يحصل النقص في المال و النفس، و قد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ إلى قوله‏ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ‏ [التوبة: 120] و قد يكون النقص في النفس بموت الإخوان و الأخدان. و إما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب و قد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد. و عن الشافعي: الخوف خوف اللّه، و الجوع صيام شهر رمضان، و النقص من الأموال الزكوات و الصدقات، و من الأنفس الأمراض، و من الثمرات موت الأولاد.

قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة أ قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون:

نعم. فيقول: أ قبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول اللّه تعالى: ماذا قال عبدي؟

فيقولون: حمدك و استرجع فيقول اللّه: «ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد» «1»

(1) رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 36.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 441

وَ نَقْصٍ‏ عطف على‏ بِشَيْ‏ءٍ و يحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى و شي‏ء من نقص الأموال. و الخطاب في‏ وَ بَشِّرِ لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. قال الإمام الغزالي رحمه اللّه: الصبر من خواص الإنسان و لا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا، و لا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال و تمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال. و أما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء، ثم شهوة اللعب بعد حين، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها و الإقبال على تحصيل السعادات الباقية، فيقع بين داعيتي العقل و الشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر. و إنه ضربان: بدني فعلا كتعاطي الأعمال الشاقة، أو انفعالا كالثبات على الآلام، و نفساني و هو منع النفس عن مقتضيات الطبع، فإن كان حبسا عن شهوة البطن و الفرج سمي عفة، و إن كان احتمال مكروه، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر و يضاده حالة هي الجزع و هي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت و ضرب الخد و شق الجيب و نحوها، و إن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس، و يضاده حالة البطر. و إن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة و يضاده الجبن، و إن كان في كظم الغيظ و الغضب يسمى حلما و يضاده النزق، و إن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر و يضاده الضجر و ضيق الصدر، و إن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس، و إن كان عن فضول العيش سمي زهدا و ضده الحرص، و إن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه و يضاده الشره. و ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه و لا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن، و إنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع. و لا بأس بظهور الدمع و تغير اللون‏

فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال: إنها رحمة، و إنما يرحم اللّه من عباده الرحماء. ثم قال: العين تدمع و القلب يحزن و لا نقول إلا ما يرضي ربنا.

ثم الصبر عند الصدمة الأولى و إلا سمي سلوا و هو مما لا بد منه و لهذا قيل: لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه. و قد وصف اللّه تعالى الصبر في القرآن في نيف و سبعين موضعا و أضاف أكثر الخيرات إليه فقال‏ وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:

صفحه بعد