کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 579

مؤنث كالحرب أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها و أصل الكف المنع فسمي الجميع كافة لأن الاجتماع بمنع التفرق و الشذوذ. و رجل مكفوف أي كف بصره من أن ينظر.

و كفة القميص لأنها تمنع الثوب من الانتشار. و الكف طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن. و قيل: الخطاب للمنافقين و التقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام و لا تتبعوا آثار تزيين الشيطان و تسويله بالإقامة على النفاق. و قيل: نزلت في مسلمي أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام و أصحابه حين أرادوا أن يقيموا على بعض شرائع موسى كتعظيم السبت و قراءة التوراة و استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في ذلك، فأمروا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة و لا يتمسكوا بشي‏ء من أحكام التوراة لثبوت نسخها بالكلية، فإن التمسك بها بعد تبين نسخها من اتباع آثار الشيطان، و قيل: السلم الإسلام، و الخطاب لأهل الكتاب، و المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم كملوا طاعتكم بالإيمان بجميع أنبيائه و كتبه، و لا تتبعوا خطوات الشيطان بالشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏ عن أبي مسلم أن المبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره، و لا يخفى أنه أعرب عن عداوته لآدم و نسله. و قيل: مبين من الإبانة القطع و ذلك أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة اللّه و ثوابه و رضوانه. قوله‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ‏ المخاطبون هاهنا هم المخاطبون في قوله‏ ادْخُلُوا فيجي‏ء الخلاف هاهنا بحسب الخلاف هناك.

و المعنى العام: فإن دحضت أقدامكم و انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به‏ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ‏ الدلائل العقلية و السمعية على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق‏ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام منكم و هذه نهاية في الوعيد كما لو قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي و بشدّة سطوتي. كان أبلغ في الزجر من التصريح بضرب من ضروب العذاب. و كما أن قوله‏ عَزِيزٌ يشتمل على الوعيد البليغ فقوله‏ حَكِيمٌ‏ يشتمل على الوعد الحسن. فإن اللائق بالحكمة تمييز المحسن من المسي‏ء و أن لا يسوّي بينهما في الثواب و العقاب. روي أن قارئا قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره و لم يقرأ القرآن و قال: إن كان هذا كلام اللّه فلا يقول كذا. الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه يكون إغراء عليه. قوله‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ‏ الآية معنى النظر هاهنا الانتظار. و أما إتيان اللّه فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجي‏ء و الذهاب لأن هذا من شأن المحدثات و المركبات و أنه تعالى أزلي فرد في ذاته و صفاته فذكروا في الآية وجهين:

الأول: و هو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل و تفويضه إلى مراد اللّه تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على أربعة

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 580

أوجه: وجه لا يعذر أحد بجهالته، و وجه يعرفه العلماء و يفسرونه، و وجه يعرف من قبل العربية فقط، و وجه لا يعلمه إلا اللّه.

الثاني: و هو قول جمهور المتكلمين: أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل.

فقيل: جعل مجي‏ء الآيات مجيئا له تفخيما لها كما يقال «جاء الملك» إذا جاء جيش عظيم من جهته. و قيل: المراد إتيان أمره و بأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخر أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏ [النحل: 33] جاءَهُمْ بَأْسُنا و أيضا اللام في قوله‏ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ تدل على معهود سابق و ما ذاك إلا الذي أضمرناه. لا يقال أمر اللّه عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال. و عند المعتزلة أصوات فتكون أعراضا. فالإتيان عليها أيضا محال لأنا نقول:

الأمر قد يطلق على الفعل‏ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 94] و حينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال و إظهار الآيات المهيبة. و إن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن مناديا ينادي يوم القيامة ألا إن اللّه يأمركم بكذا. و معنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء و وصول تلك الظلل يكون في آن واحد، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم اللّه تعالى على أحد بما يليق به من السعادة و الشقاوة، أو أنه تعالى يخلق نقوشا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها. و سواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد و الوعيد، و تكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر. و قيل:

المأتي به محذوف و المعنى إلا أن يأتيهم اللّه ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله‏ عَزِيزٌ .

و فائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم و ذهاب فكرتهم في كل وجه.

و قيل: إن «في» بمعنى الباء أي يأتيهم اللّه بظلل من الغمام، و المراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة. و قيل: الغرض من ذكر إتيان اللّه تصوير غاية الهيبة و نهاية الفزع كقوله تعالى‏ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏ [الزمر: 67] و لا قبض و لا طي و لا يمين و إنما الغرض تصوير عظمة شأنه. و قيل: بناء علي أن الخطاب في ادخلوا و زللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام و الملائكة، و ذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه و يجوّزون المجي‏ء و الذهاب على اللّه تعالى و يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى اللّه عليه و سلم. فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود و لا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوما ينتظرون إتيان اللّه و ليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون. و الظلل جمع ظلة و هي ما أظلك‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 581

و الغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعا و متراكما. فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة و العظم، فكل قطعة ظلة و الجمع ظلل.

و الاستفهام هاهنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب اللّه في ظلل من الغمام، و فيه تفظيع شأن العذاب و تهويله لأن الغمام مظنة الرحمة، و إذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير؟ أو نزول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان: 25، 26] و استعير لتتالي العذاب تتابع القطر و إتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب و تخريب و لا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن. وَ قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من أمر إهلاكهم و تدميرهم أو عما كانوا يوعدون به، فلا تقال لهم عثرة و لا تصرف عنهم عقوبة و لا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة. و التقدير: إلا أن يأتيهم اللّه و يقضي الأمر، فوضع الماضي موضع المستقبل. إما للتنبيه في قرب العذاب أو الساعة «كل ما هو آت قريب»، و إما لأن إخبار اللّه تعالى كالواقع المقطوع به. و قيل: الأمر المذكور هاهنا هو فصل القضاء بين الخلائق و أخذ الحقوق لأربابها و إنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة و النار. و عن معاذ بن جبل و قضاء الأمر مصدر مرفوع عطفا على لفظي اللّه و الملائكة. وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ و ذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيرا من أمور خلقه، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه و هذا كقولهم «رجع أمرنا إلى الأمير» إذا كان هو يختص بالنظر فيه. فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر و يحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى. ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله، و هو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا و إقامة القيامة. فهذا معنى القراءتين في‏ تُرْجَعُ‏ و أيضا قراءة ضم التاء و فتح الجيم على مذهب العرب في قولهم «فلان معجب بنفسه» و يقول الرجل لغيره: إلى أين ذهب بك؟ و إن لم يكن أحد يذهب به. أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم و يعترفون برجوعها إليه. أما المؤمنون فبالمقال، و أما الكافرون فبشهادة الحال‏ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ‏ [الرعد: 15].

التأويل:

النفس الأمارة تظهر الأشياء المموهة و الأقوال المزخرفة و ترى أنها أولى الأولياء، و لكنها أعدى الأعداء و تسعى في تخريب أرض القلب و إبطال حرث الصدق في طلب السعادة إهلاك نسل ما يتولد من الأخلاق الحميدة و تشمخ بأنفها عن قبول الحق‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 582

فحسبه جهنم الميعاد وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي‏ هذا شأن الأولياء باعوا أنفسهم خالصا لوجه اللّه لا لأجل الجنة ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي بجميع الأجزاء و الأعضاء الظاهرة و الباطنة. و دخول القلب في الإسلام يكون بدخول الإيمان في القلب، و دخول الروح في الإسلام يكون بتخلقه بأخلاق اللّه و تسليم الأحكام و الأقضية للّه، و دخول السر في الإسلام بفنائه في اللّه و بقائه باللّه، و هذا مقام يضيق عن إعلانه نطاق النطق و لا يسع إظهاره ظروف الحروف.

و إن قميصا خيط من نسج تسعة

و عشرين حرفا من معانيه قاصر

اللّه ولي التوفيق و هو حسبي.

[سورة البقرة (2): الآيات 211 الى 214]

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

القراآت:

لِيَحْكُمَ‏ بضم الياء و فتح الكاف: يزيد. و كذلك في آل عمران و النور في موضعين. الباقون بفتح الياء و ضم الكاف‏ يَقُولَ‏ برفع اللام: نافع. الباقون:

بالنصب.

الوقوف:

بَيِّنَةٍ ط لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع تقدير حذف أي فبدّلوا و من يبدل إلخ‏ الْعِقابِ‏ ه‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا م لأن و «الذين» مبتدأ و «فوقهم» خبره. و لو وصل صار «فوقهم» ظرفا ليسخرون أو حالا لفاعل «يسخرون» و قبحه ظاهر. يَوْمَ الْقِيامَةِ ط حِسابٍ‏ ه‏ وَ مُنْذِرِينَ‏ ص لعطف المتفقتين‏ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏ ط بَيْنَهُمْ‏ ج لعطف المختلفتين‏ بِإِذْنِهِ‏ ط مُسْتَقِيمٍ‏ ه‏ مِنْ قَبْلِكُمْ‏ ط للفصل بين الاستفهام و الإخبار لأن قوله «و لما يأتكم» عطف على «أم حسبتم» تقديره أ حسبتم و لم يأتكم. مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ‏ ط قَرِيبٌ‏ ه.

التفسير:

أنه سبحانه لما أمر بالسلم و نهى عن مقابلها ثم قال: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ‏ [البقرة: 209] أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 583

للتهديد. ثم بين ذلك التهديد بقوله‏ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏ [البقرة: 209] ثم ثنى ذلك التهديد بقوله‏ هَلْ يَنْظُرُونَ‏ [البقرة: 210] الآية ثم ثلث التهديد بقوله‏ سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ‏ و الخطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم أو لكل أحد. و هذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة، و إلا فكثرة الآيات التي أوتوها معلومة بإعلام اللّه تعالى. و المراد سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من اللّه تعالى، و ذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات اللّه لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون كي يعتبروا و يتعظوا. و «كم» تحتمل الاستفهامية و الخبرية، و مِنْ آيَةٍ مميزها، و قد فصل بين المميز و بينها بالفعل. فإن كانت استفهامية فالتقدير:

سلهم عن عدد إيتائنا الآيات إياهم حتى يخبروك عن كميتها. و إن كانت خبرية فالمعنى:

سلهم عن أنا كثيرا من الآيات آتيناهم. و الآيات الواضحات إما معجزات موسى عليه السلام كفرق البحر و تظليل الغمام و تكليم اللّه إياه و العصا و اليد و نحوها و هي تسع‏ وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى‏ تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ‏ [الإسراء: 101] و إما الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام فمنهم من أمن و أقر و منهم من جحد و بدل‏ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ‏ قيل: إنها الآيات و الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام و هي أجل أقسام النعم، لأنها أسباب الهدى و النجاة من الضلالة. ثم إن قلنا: الآيات معجزات موسى فتبديلها أن اللّه تعالى أظهرها لتكون أسباب هدايتهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله‏ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ‏ [التوبة:

125] و إن قلنا: الآية البينة هي ما في التوراة و الإنجيل من الدلائل على صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم فتبديلها تحريفها و إدخال الشبه فيها. و قيل: المراد بنعمة اللّه ما آتاهم من أسباب الصحة و الأمن و الكفاية، فتبديلها أنهم لم يجعلوها واسطة الطاعة و القيام بما و عليهم من التكاليف، بل استعملوها في غير ما أوتيت هي لأجله. و على هذا فقوله‏ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ‏ معناه ظاهر، و أما على القول الأول و هو أن المراد من النعمة لآيات فمعنى مجيئها التمكن من معرفتها أو عرفانها كقوله‏ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ‏ [البقرة: 75] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة. فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ قال الواحدي: الرابطة محذوفة أي له. و التحقيق أن ترك هذا الإضمار أولى فإنه إذا علم كونه تعالى موصوفا بهذا الوصف لزم من ذلك أنه يعاقب المبدل إن شاء، و لكن لا يلزم من كونه شديد العقاب للمبدّل كونه متصفا بذلك وصفا ذاتيا. ثم قال الواحدي. و العقاب عذاب يعقب الجرم. ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية. و الغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة، و التذكير في زين إما لأن الحياة و الإحياء واحد،

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 584

أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي. عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل و أضرابه من كبار قريش. و قيل: رؤساء اليهود و علمائهم. و عن مقاتل: نزلت في المنافقين. و لا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم و هم في التنعم و الراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين و المهاجرين. ثم المزين من هو؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن و الإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار و أوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال:

أ تترك لذة الصهباء نقدا

بما و عدوك من لبن و خمر؟

قالوا: و أما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل. لأن المزين للشي‏ء هو المخبر عن حسنه، و إذا كان المزين هو اللّه تعالى فلا بد أن يكون صادقا في ذلك الإخبار، فيكون فاعله المستحسن له مصيبا. و إن كان كافرا و إصابة الكافر كفر فهذا القول كفر، و زيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لا بد أن يكون خارجا منهم. و قولهم: «المزين للشي‏ء هو المخبر عن حسنه» مردود، و إنما المزين من يجعل الشي‏ء موصوفا بالأوصاف الحسنة. سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن اللّه تعالى يكون مخبرا عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات و الراحات؟ و هذا إخبار عما ليس بكذب و التصديق به ليس بكفر. و قال أبو مسلم: الكفار زينوا لأنفسهم و العرب تقول: «أين يذهب بك» لا يريدون أن ذاهبا ذهب به و منه قوله تعالى‏ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏ [المائدة: 75] أَنَّى يُصْرَفُونَ‏ [غافر:

69]. و لما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه. و التحقيق أن المزين هو اللّه تعالى كما صرح بذلك في قوله‏ إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] و كيف لا و انتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة و النضارة و الطيب و الحلاوة، و ركب في الطبائع حب الشهوات و الميل إلى الطيبات، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح و يكفها عن الحرام و يتم غرض الابتلاء. أو نقول: المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا و لم يمنعهم عن الإقبال عليها و الحرص الشديد في طلبها.

و قيل: إن اللّه تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات و هو ضعيف، لأن اللّه تعالى خص بهذا التزيين الكفار و تزيين المباحات لا يختص بالكفار. و إن قيل: المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به.

و إن قلت: ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا، بخلاف‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏1، ص: 585

المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا و بهجتها و إن كثر ماله و جاهه مكدر بالخوف و الوجل من الحساب في الآخرة. قلنا: تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح. أيضا فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله و لا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مرارا في حقيقة الجبر و القدر. و لما أخبر اللّه تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال: وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا كابن مسعود و عمار و صهيب و غيرهم يقولون: هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا و تحملوا المتاعب لطلب الآخرة. و لا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه، لكنه لو ثبت القول بالمعاد و صح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي و النعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه‏ وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أما بالمكان فلأنهم في عليين و هم في سجين، و أما بالرتبة و الشرف فلأنهم في معارج الأنس و هم في هاوية الهوان. و يحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار و شبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان، و بمجرد استبعاد أمر المعاد و حجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان و بمدد الرحمن‏ وَ نادى‏ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ‏ [الأعراف: 44] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة و باقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة و منقضية. و في قوله‏ وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا دون أن يقول آمنوا كما قال: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بعث على التقوى و أن كرامة المؤمن منوطة بها. وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ‏ بغير تقدير. و ذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق و بحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل، فرد اللّه تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة، و قد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر و الابتلاء في حق المؤمن، أو يرزق من يشاء من مؤمن و كافر بغير حساب يكون لأحد عليه و لا مطالبة و لا سؤال سائل، فالأمر أمره و الحكم حكمه و لا يسأل عما يفعل. أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل «إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي» و المعنى أن الكفار و إن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل اللّه تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا، و لقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش و رؤساء اليهود، و يسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى و قيصر، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب و لحلالها حساب، و ما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب و بغير حساب.

صفحه بعد