کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏2، ص: 15

ذلك. و الغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع و المشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب و العقاب، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية، و الشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند اللّه و لا يعلمون أن اللّه تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا، فإنهم لا يحيطون بشي‏ء من علمه، أي من معلوماته، إلا بما علم كقوله: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] و يحتمل أن يراد: و لا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ‏ [الجن: 26] و إذا كان الشفعاء و هم الملائكة و الأنبياء لا يعلمون شيئا إلا بتعليم اللّه فغيرهم بعدم العلم أولى.

ثم إنه لما بين كمال ملكه و حكمه في السموات و في الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات و الأرضين أعظم و أجلّ، و أنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين، فقال‏ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‏ يقال وسع فلان الشي‏ء إذا احتمله و أطاقه و أمكنه القيام به.

قال صلى اللّه عليه و سلم: «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي»

أي:

لم يحتمل غير ذلك. و أما «الكرسي» فأصله من التركب و التلبد، و منه الكرس بالكسر للأبوال و الأبعار يتلبد بعضها على بعض، و الكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض، و الكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته. و للمفسرين في معناه هاهنا أقوال: فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات و الأرض و هو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش و بأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه. و قيل إنه دون العرش و فوق السماء السابعة و قد وردت الأخبار الصحيحة بهذا. و عن السدي أنه تحت الأرض. و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين و ينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند اللّه تعالى. و هاهنا أسرار لا أحبّ إظهارها لو شاء اللّه أن يطلع عليها عبدا من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره. و قيل: المراد من الكرسي أن السلطان و القدرة و الملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات، و العرب تسمّي أصل كل شي‏ء الكرسي، أو لأنه تسمية للشي‏ء باسم مكانه؛ فإن الملك مكانه الكرسي. و قيل: المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي و أيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه. و منه يقال للعلماء: كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض. و قيل: المقصود من الكلام تصوير عظمة اللّه و كبريائه و لا كرسي ثم و لا قعود و لا قاعد. و اختاره جمع من المحققين كالقفال و الزمخشري و تقريره: أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته و صفاته بما اعتادوا في ملوكهم؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏2، ص: 16

يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، و أمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم. و ذكر في الحجر الأسود أنه يمين اللّه في أرضه، ثم جعله مقبل الناس كما تقبّل أيدي الملوك. و كذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة و النبيين و الشهداء و وضع الموازين. و على هذا القياس أثبت لنفسه عرشا فقال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ [طه: 5] و وصف عرشه فقال: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 71] ثم قال‏ وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ‏ [الزمر: 75] ثم قال‏ وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] ثم أثبت لنفسه كرسيا. و لما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة و الطواف و الحجر هو تعريف عظمة اللّه و كبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش و الكرسي‏ وَ لا يَؤُدُهُ‏ لا يثقله و لا يشق عليه؛ حِفْظُهُما حفظ السموات و الأرض و فيه أن نفاذ حكمه و أمره في الكل على نعت واحد و صورة واحدة، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة. ثم بيّن أنه مع كونه مقوّما للممكنات مقيما للأرضين و السموات متعال عن المتحيزات و مقدس عن الزمنيات فقال: وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ‏ و المراد منهما علو الرتبة و عظمة الشرف لا الحيز و الجهة. و كيف لا و هو مقيم للمكان و مديم للزمان.

و قوله سبحانه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ‏ الآية: لما بيّن دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للأعذار ذكر بعد ذلك. أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان و يجبر عليه؛ و ذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء و الاختبار، و ينافيه الإكراه و الإجبار. و مما يؤكد ذلك قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ‏ يقال بان الشي‏ء و استبان و تبيّن و بيّن أيضا إذا وضح و ظهر و منه المثل: قد تبين الصبح لذي عينين. و الرشد إصابة الخير، و الغي نقيضه. أي: تميز الحق من الباطل، و الإيمان من الكفر، و الهدى من الضلال، بكثرة الحجج و البينات و وفور الدلائل و الآيات. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ‏ قال النحويون: وزنه «فعلوت» نحو جبروت و أصله من «طغى»، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفا لتحرّكها و انفتاح ما قبلها. و ذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت و الرهبوت، و الدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال: هم رضا و عدل. و لهذا قال تعالى:

أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ‏ [البقرة: 257] و الأصل فيه التذكير. قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ‏ [النساء: 60] فأما قوله تعالى: وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: 17] فالتأنيث لإرادة الآلهة. و أما معنى «الطاغوت» فعن عمر و مجاهد و قتادة: هو الشيطان. و عن سعيد بن جبير: الكاهن. و قال أبو العالية:

الساحر. و عن بعضهم: الأصنام. و قيل: مردة الجن و الإنس و كل ما يطغى، و إنما جعلت‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏2، ص: 17

هذه الأشياء أسبابا للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ‏ [إبراهيم: 36] و يعلم من قوله‏ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ‏ ثم من قوله:

وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ‏ ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلا، ثم يؤمن بعد ذلك، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ استمسك و تمسك بمعنى، و العروة واحدة عرى: الدلو و الكوز و نحوهما مما يتعلق به. و الوثقى تأنيث الأوثق، و هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر و الاستدلال بالمشاهد المحسوس و هو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية.

و الفصم كسر الشي‏ء من غير أن يبيّن فصمته فانفصم. و المقصود من قوله‏ لَا انْفِصامَ لَها هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول هاهنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله‏ وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ‏ [الصافات: 164] أي من له. و قيل: معنى قوله‏ لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ‏ لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي و الإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه. ثم قال بعضهم: إنه منسوخ بقوله‏ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ‏ [التحريم: 9] و قال بعضهم: هو في أهل الكتاب خاصة، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم و حكم المجوس حكمهم. و أما الكفار الذين تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرّون على ذلك و يكرهون على الإسلام. و قيل يقرّون على ما انتقلوا إليه و لا يكرهون.

روي‏ أنه كان لأنصاريّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصّرا قبل أن يبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما و قال: و اللّه لا أدعكما حتى تسلما. فأبيا فاختصموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال الأنصاري: يا رسول اللّه أ يدخل بعضي النار و أنا أنظر فنزلت فخلاهما.

و قيل معنى قوله‏ لا إِكْراهَ‏ أي: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرها لأنه إذا رضي بعد الحرب و صحّ إسلامه فليس بمكره، و معناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله‏ وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء:

94].

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏ يسمع قول من يتكلم بالشهادة و قول من يتكلم بالكفر، يعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطيب و ما في قلب الكافر من العقد الخبيث.

و عن عطاء عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة و كان يسأل اللّه ذلك سرا و علانية فقيل له: و اللّه سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك و اجتهادك.

قوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي متولي أمورهم و كافل مصالحهم. «فعيل»

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏2، ص: 18

بمعنى «فاعل» و التركيب يدل على القرب، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة و النصرة، و منه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير، و فيه دليل على أن ألطاف اللّه تعالى في حق المؤمنين و فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر، و ذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور و من الكفر إلى الإيمان و من الضلال إلى الهدى و من الشك إلى اليقين. و الإخراج يشمل الكافر إذا آمن و المؤمن الأصلي، و لا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات، و إن لم يكونوا في الظلمة البتة؛ فإن العبد لو خلا عن توفيق اللّه تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات و الضلالات فصار توفيقه تعالى سببا لدفع تلك الظلمات عنه، و بين الدفع و الرفع تشابه، و مثله قوله: وَ كُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران:

103] و معلوم أنهم ما كانوا قط في النار.

و يروى‏ أنه صلى اللّه عليه و سلم سمع إنسانا قال:

أشهد أن لا إله إلا اللّه فقال: «على الفطرة» فلما قال: أشهد أن محمدا رسول اللّه قال:

«خرج من النار»

و من المعلوم أنه ما كان فيها. قال الواحدي: كل ما في القرآن من الظلمات و النور فإنه تعالى أراد بهما الكفر و الإيمان إلا قوله في أول الأنعام‏ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام: 1] فإنه عنى به الليل و النهار. قال: و إنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك، و جعل الإيمان نورا لأنه كالسبب في حصول الإدراك.

قلت: قد مر أن الإيمان و العلم و جميع الكمالات النفسانية و المعارف اليقينية أنوار تزداد النفس بها نورية و إشراقا فلا حاجة إلى هذا التكلف. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ‏ مصدر، و لهذا وحد في موضع الجمع‏ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ‏ و إنما وحد النور و جمع الظلمة لأن الحق و ما يرجع إليه طريقه واحد و هو أيضا في نفسه واحد، و أما الباطل فلا حصر له و لا لطرقه. كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد، و المنحنية غير محدود. و إسناد الإضلال إلى الطاغوت، و هو كل من ينسب إلى الطغيان، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة و تنتهي إلى قضائه و قدره كما سبق تحقيقه مرارا. أُولئِكَ‏ الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط و الوسائل‏ أَصْحابُ النَّارِ فيكون زجرا للكل و وعيدا لهم أعاذنا اللّه من ذلك.

التأويل:

الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏ : أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه «الحي» مشتمل على جميع أسمائه و صفاته. فإن من لوازم الحي أن يكون قادرا عالما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا إلى غير ذلك من نعوت الكمال. و اسمه «القيوم» دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه؛ فإذا تجلى اللّه للعبد بهاتين الصفتين، انكشف للعبد عند تجلي صفته «الحي» معاني جميع أسمائه و صفاته؛ و عند تجلي صفته «القيوم» فناء جميع المخلوقات، إذ كان قيامها

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏2، ص: 19

بقيومية الحق لا بأنفسهم، فلما جاء الحق و زهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا «الحي القيوم» إذ سلب «الحي» جميع أسماء اللّه و سلب «القيوم» قيام الممكنات، ففني التعدد و بقيت الوحدة. فيذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، و إذا سئل به أعطى؛ لأنه حينئذ ينطق باللّه فيكون الحال كما جرى على لسانه. فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته، و عند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم. كما سئل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال: الاسم الأعظم ليس له حد محدود و لكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ‏ ، لأن النوم أخو الموت و الموت ضد الحياة، و هو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏ هذا الاستثناء راجع إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم كأنه قيل: من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد صلى اللّه عليه و سلم فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها و عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79].

و يَعْلَمُ‏ محمد صلى اللّه عليه و سلم‏ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏ من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق،

كقوله صلى اللّه عليه و سلم‏ «أول ما خلق اللّه نوري، أول ما خلق اللّه العقل أن اللّه خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام»

وَ ما خَلْفَهُمْ‏ من أحوال القيامة و فزع الخلق و غضب الرب و طلب الشفاعة من الأنبياء و قولهم نفسي نفسي و رجوعهم إليه بالاضطرار، وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ‏ و إنما هو شاهد على أحوالهم و سيرهم و معاملاتهم و قصصهم‏ وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ‏ [هود: 120] و يعلم أمور آخرتهم و أحوال أهل الجنة و النار، و هم لا يعلمون شيئا من ذلك‏ إِلَّا بِما شاءَ أن يخبرهم عنه‏ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‏ : مثال العرش في عالم الإنسان قلبه؛ و مثال الكرسي: سره. و سوف يجي‏ء تمام التحقيق إن شاء اللّه تعالى في قوله‏ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ [طه: 9] و إن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء و الأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن. وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما لا يثقل الروح الإنساني حفظ أسرار السموات و الأرض، وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] و لما أظهر لمخلوقاته من العرش و الكرسي و لقلب المؤمن و سره علوا في المرتبة و عظمة في الخلقة إظهارا لكمال القدرة و الحكمة، تردّى برداء الكبرياء و اتّزر بإزار العظمة و البهاء و هو أولى بالمدح و الثناء فقال: وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ‏ فمن علا في الآخرة و الأولى فبإعلائه، و من عظم فبتعظيمه. ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله‏ لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ‏ كما

قال صلى اللّه عليه و سلم: «ليس الدين بالتمني»

مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏2، ص: 20

الإجبار، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهرا و التسليم لأحكام الحقّ باطنا من غير حرج و ضيق عطن.

ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله‏ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ‏ يتبرأ منه؛ فطاغوت العوام الأصنام، و طاغوت الخواص هو النفس، و طاغوت خواص الخواص ما سوى اللّه. و إيمان العوام إقرار باللسان و تصديق بالجنان و عمل بالأركان، و إيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا و سلوك طريق العقبى. و شهود القلب مع المولى. و إيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر و الباطن في طاعة اللّه، و إنابة القلب إلى الفناء في اللّه، و إخلاء السر للبقاء باللّه، و هذا هو السكر الموجب للشكر. و لهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي‏ تُبْتُ إِلَيْكَ‏ [الأحقاف: 15] أي عن هذه الإفاقة، فكان مخصوصا عن عالمي زمانه بالإيمان العياني و شريكا مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل:

لي سكرتان و للندمان واحدة

شي‏ء خصصت به من بينهم وحدي‏

ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله‏ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏ [القصص: 88] و لا تكون أيضا من بطشك و إلا كانت منفصمة، بل تكون من بطشه‏ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] و لكل مؤمن عروة مناسبة لمقامه في الإيمان؛ فهي للعوام توفيق الطاعة، و للخواص مزيد العناية بالمحبة يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ‏ [المائدة: 54] و لخواص الخواص الجذبة الإلهية التي تفنيه عن ظلمات الغيرية و تبقيه بنور الربوبية و لهذا

قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين»

و أعمالهما فانية من عالم الحدوث، و جذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام، فالمجذوب لا يخلص منها أبد الآبدين.

ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يخرج العوام من ظلمات الكفر و الضلالة إلى نور الإيمان و الهداية، و الخواص من ظلمات الصفات النفسانية و الجسمانية إلى نور الروحانية و الربانية، و خواص الخواص من ظلمات الحدوث و الفناء إلى نور الشهود و البقاء. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ‏ : ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان، و الأولياء بلفظ الجمع، ليعلم أن الولاء و المحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله‏ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏ [البقرة: 165]؛ فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية و إن فسر بالشيطان أو النفس؛ فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية و صفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية و السبعية

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏2، ص: 21

و الشيطانية، ظلمات بعضها فوق بعض، دركات بعضها تحت بعض‏ أُولئِكَ‏ أي أرواح الكفار مع النفس و الشيطان و الأصنام أصحاب النار، لأن الأرواح، و إن لم تكن من جنسهم و لكن من تشبه بقوم فهو منهم. و اللّه المستعان.

[سورة البقرة (2): الآيات 258 الى 260]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى‏ طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى‏ حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (259) وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى‏ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

القراآت:

رَبِّيَ الَّذِي‏ مرسلة الياء: حمزة. الباقون بالفتح. أَنَا أُحْيِي‏ بالمد: أبو جعفر و نافع، و كذلك ما أشبهها من المفتوحة و المضمومة، و زاد أبو نشيط بالمد في المكسورة في قوله تعالى‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ [الأعراف: 188] و أشباه ذلك‏ مِائَةَ و بابه مثل «فئة» و قد مر. لَبِثَ‏ و بابه بالأظهار: ابن كثير و نافع و خلف و سهل و يعقوب‏ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏ في الوصل و الوقف بالهاء: حمزة و علي و خلف و سهل و يعقوب، لأن الهاء للسكت و هاء السكت تزاد للوقف. الباقون: بالهاء الساكنة في الحالين، و الهاء إما أصلية مجزومة بلم، أو هاء سكت. و أجروا الوصل مجرى الوقف. إِلى‏ حِمارِكَ‏ كمثل الحمار بالإمالة:

صفحه بعد