کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏3، ص: 146

بسم اللّه الرحمن الجزء الثامن من أجزاء القرآن الكريم‏

[سورة الأنعام (6): الآيات 111 الى 121]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى‏ وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112) وَ لِتَصْغى‏ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

القراآت:

قُبُلًا بكسر القاف و فتح الباء: أبو جعفر و نافع و ابن عامر. الباقون:

بضمتين. مُنَزَّلٌ‏ بالتشديد: ابن عامر و حفص و المفضل. كَلِمَةُ رَبِّكَ‏ عاصم و حمزة و علي و خلف و سهل و يعقوب. الباقون كلمات‏ مَنْ يَضِلُ‏ من الإضلال: الأصبهاني عن نصير، فصل على البناء للفاعل و حَرَّمَ‏ على البناء للمفعول: حمزة و خلف و عاصم غير حفص و المفضل، و قرأ أبو جعفر و نافع و سهل و يعقوب و حفص جميعا بالفتح، الباقون: على البناء للمفعول فيهما لَيُضِلُّونَ‏ بضم الياء: عاصم و حمزة و علي و خلف، الباقون: بالفتح.

الوقوف:

يَجْهَلُونَ‏ ه‏ غُرُوراً ط يَفْتَرُونَ‏ ه‏ مُفَصَّلًا ط الْمُمْتَرِينَ‏ ه‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏3، ص: 147

وَ عَدْلًا ط لِكَلِماتِهِ‏ ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته و هو يسمع و يعلم، الْعَلِيمُ‏ ه‏ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏ ط يَخْرُصُونَ‏ ه‏ عَنْ سَبِيلِهِ‏ ج‏ بِالْمُهْتَدِينَ‏ ه‏ مُؤْمِنِينَ‏ ه‏ إِلَيْهِ‏ ط بِغَيْرِ عِلْمٍ‏ ط بِالْمُعْتَدِينَ‏ ه‏ وَ باطِنَهُ‏ ط يَقْتَرِفُونَ‏ ه‏ لَفِسْقٌ‏ ط لِيُجادِلُوكُمْ‏ ج‏ لَمُشْرِكُونَ‏ ه.

التفسير:

هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله‏ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ‏ [الأنعام:

109] و كان المستهزءون بالقرآن خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي و العاصي بن وائل السهمي و الأسود بن عبد يغوث الزهري و الأسود بن المطلب و الحرث بن حنظلة، أتوا الرسول صلى اللّه عليه و آله في رهط من أهل مكة فقالوا: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل، أو ائتنا باللّه و الملائكة قبيلا أي كفيلا على ما تدعيه، فنفى اللّه تعالى عنهم الإيمان و إن أوتوا هذه المقترحات. قال أبو زيد: يقال لقيت فلانا قبلا و قبلا و مقابلة كلها بمعنى واحد و هو المواجهة رواه الواحدي، و قال أبو عبيدة و الفراء و الزجاج: قبلا بكسر القاف معناه معاينة.

روي عن أبي ذر قال: قلت للنبي صلى اللّه عليه و آله: أ كان آدم نبيا؟ قال: نعم، كان نبيا كلمه اللّه تعالى قبلا،

و أما قبلا بضمتين فقيل: إنه جمع قبيل و معناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى مثل الروم و الزنج و العرب و لهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلا قبيلا. أو معناه الكفيل و العريف من قبل به يقبل قبالة، و المعنى لو حشرنا عليهم كل شي‏ء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا، و موضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق و منها ما لا ينطق، و منها حي و منها ميت، فإذا حشرها اللّه تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها و أطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات، أما قوله تعالى: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ‏ إيمانهم، فقد قالت الأشاعرة: فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم، و قالت المعتزلة: لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب، و لو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعا للّه لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد، و لو جاز من اللّه تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به، و لجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر. فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري و ما شاء الإيمان القهري. و المعنى: ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريا إلا أن يشاء اللّه مشيئة إكراه و اضطرار فحينئذ يؤمنون، و زيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن، و لا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق اللّه تعالى فكأنه لا اختيار. قال الجبائي: قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ‏ يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة و هي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط. و أجيب بأنها قديمة إلا أن‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏3، ص: 148

تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة. ثم ختم الآية بقوله: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏ قالت الأشاعرة: أي لا يعلمون أن الكل بقضاء اللّه و بقدره. و قالت المعتزلة:

إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآية التي طلبوها و المعجزات التي اقترحوها فيقسمون باللّه جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم، أو و لكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجي‏ء الآيات المقترحات.

ثم قال: وَ كَذلِكَ‏ قيل: إنه منسوق على قوله: كَذلِكَ زَيَّنَّا [الأنعام: 108] أي و كما زينا لكل أمة عملهم‏ جَعَلْنا و قيل: إن المشار إليه محذوف أي و كما خلينا بينك و بين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء و أعدائهم، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات و الصبر و كثرة الثواب و الأجر. قالت الأشاعرة:

لا شك أن تلك العداوة معصية و كفر، و أن جعلها شرفا لآية تدل على أن خالق الخير و الشر و الطاعة و المعصية و الإيمان و الكفر هو اللّه. قال الجبائي: المراد بهذا الجعل أنه حكم و بين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره، و إذا أخبر عن عدالته قيل عدله. و قال الكعبي: إنه أمر الأنبياء بعداوتهم و أعلمهم بكونهم أعداء لهم فاقتضى ذلك أنهم صاروا أعداء للأنبياء. لأن العداوة تكون من الجانبين. أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمدا إلى العالمين و خصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سببا للحسد و العداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له. و زيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي و هي من اللّه تعالى، و بأن العداوة و المحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة و التكلف فلا يقدر عليها إلا اللّه تعالى. و انتصاب ال شَياطِينَ‏ كما مر في قوله: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ‏ [الأنعام:

100] قال الزجاج و ابن الأنباري: عَدْواً في معنى الجمع، و لقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا: و كذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّا واحدا. إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد. عن ابن عباس: كل عات متمرد من الجن و الإنس فهو شيطان. و قال مجاهد و قتادة و الحسن: إن من الجن شياطين و من الإنس شياطين، و إن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس و هو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه.

روي‏ أن النبي صلى اللّه عليه و آله قال لأبي ذر: هل تعوّذت باللّه من شر شياطين الإنس و الجن؟ قال: قلت: و هل للإنس من شياطين؟ قال:

نعم، هم شر من شياطين الجن.

و قيل: إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس، و الذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن. و زيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء و هم الشياطين. و عن‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏3، ص: 149

مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت باللّه ذهب شيطان الجن عني و شيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. و معنى الإيحاء الإيماء أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، و كذلك بعض الجن إلى بعض، و بعض الإنس إلى بعض، و كأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير. و زُخْرُفَ الْقَوْلِ‏ ما يزينه من القول و الوسوسة و الإغراء على المعاصي، و التحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعا لم يرغب فيه. ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للواقع فهو الحق و الصدق و الإلهام و كان صادرا من الملك و إلا كان مزخرفا أي يكون باطنه فاسدا و ظاهره مزينا، قال الواحدي: غُرُوراً نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور. وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ‏ استدلال الأشاعرة به ظاهر و المعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء. فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ‏ منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي و افتراءهم أو ما يفترونه. قال ابن عباس: يريد ما زين لهم إبليس و غرهم به، و فيه تحذير من الكفر و ترغيب في الإيمان و تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و تنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب و له من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم و تلطفه بهم. الصغو في اللغة الميل. يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت. و أصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض. و يقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا و أصغى. قال الجوهري: صغا يصغو و يصغي صغوا أي مال، و كذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى و صغيا، و اللام في‏ وَ لِتَصْغى‏ لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة: التقدير و إنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّا للنبي لتميل‏ إِلَيْهِ‏ أو إلى قوله المزخرف‏ أَفْئِدَةُ الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي‏ وَ لِيَرْضَوْهُ‏ و ليختاروه على أنفسهم‏ وَ لِيَقْتَرِفُوا و ليكتسبوا من الآثام‏ ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ‏ و قال الجبائي: إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر و معناه الزجر كقوله: وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ‏ [الإسراء: 14]. و زيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف. و قال الكعبي: هي لام العاقبة تقديره: و لتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء و وسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدوا. و عن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع‏ غُرُوراً و التقدير: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك و لتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة. و أورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشي‏ء على نفسه. و هاهنا بحث و هو أن الأشاعرة قالوا: البنية ليست شرطا للحياة، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به، و العالم هو الجزء الذي قام العلم به. و قالت المعتزلة: الحي و العالم هو الجملة لا ذلك الجزء. حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏3، ص: 150

بالميل و الرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي، و بمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن. ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل و كمل و الزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه، و إنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين: الأول: أن اللّه تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة و الفصاحة الكاملة و قد عجز الخلق عن معارضته و أشار إلى هذا الوجه بقوله: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير اللّه حكما فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. الوجه الثاني: اشتمال التوراة و الإنجيل على أن محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حقا، و على أن القرآن كتاب حق من عند اللّه و أشار إليه بقوله: وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ‏ ثم قال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏ و الخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد. و قيل: الخطاب للرسول في الظاهر و المراد به الأمة. و قيل: الخطاب للرسول في الحقيقة و المراد التهييج و الإلهاب كقوله:

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏ [الأنعام: 14] و المراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، و لا يريبك جحود أكثرهم. قال الواحدي: الحكم و الحاكم واحد عند أهل اللغة. و قال بعض أهل التأويل: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم و الحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق.

ثم لما بين أن القرآن معجز قال: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ‏ أي القرآن. و قوله: صِدْقاً وَ عَدْلًا مصدران منتصبان على الحال من الكلمة، و معنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علما و عملا، أو المراد بالتمام أنها أزلية و لا يحدث بعد ذلك شي‏ء. و اعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان: الخبر و التكليف؛ فالخبر كل ما أخبر اللّه تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته و حصول صفاته أعني كونه تعالى قادرا سميعا بصيرا و يدخل فيه الخبر عن صفات التقديس و التنزيه كقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3] لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ‏ [البقرة: 255] و يدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال اللّه تعالى و كيفية تدبيره لملكوته في السموات و الأرض و في عالم الأرواح و الأجسام، و يدخل فيه الخبر عن أحكام اللّه تعالى في الوعد و الوعيد و الثواب و العقاب، و يدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء اللّه تعالى و الخبر عن النبوات و أقسام المعجزات، و الخبر عن أحوال النشر و القيامة و صفات أهل الجنة و النار، و الخبر عن أحوال المتقدمين و الخبر عن المغيبات. و أما التكليف فيدخل فيه‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏3، ص: 151

كل أمر و نهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكا أو بشرا أو شيطانا، و سواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات و الجنة و النار و العرش و ما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا اللّه تعالى. فإذن المراد و تمت كلمات ربك صدقا إن كان من باب الخبر و عدلا إن كان من باب التكاليف و هذا ضبط حسن. و قيل: إن كل ما أخبر اللّه تعالى عنه من وعد و وعيد و ثواب و عقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعا، و هو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم. ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ‏ و المعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالا على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة البتة لجلاء الدلالة و وضوحها. أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف و التغيير كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ‏ [الحجر: 9] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] أو المعنى أن أحكام اللّه تعالى لا تتغير و لا تتبدل لأنها أزلية و الأزلي لا يزول، و هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقيا و بالضد. ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة و تبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏ و المضل لا بد أن يكون ضالا و يعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة و عبدة الكواكب و الأصنام، و كالذين يحرمون البحائر و السوائب و الوصائل و يحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل و على الباطل بأنه حق. ثم قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ‏ يقدرون على أنهم على شي‏ء أو يكذبون في أن اللّه أحل كذا و حرم كذا. و أصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمرا. و ليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة فلم يتم أنه كذلك. ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏ و المراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو و الباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن اللّه تعالى عالم بأن المهتدي من هو و الضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله، أو المراد أن هؤلاء الكفار و إن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم و اليقين فهم كاذبون و اللّه تعالى عالم بأحوال قلوبهم و بواطنهم، و مطلع على تحيرهم في أودية الجهالة و تيه الضلال، قال النحويون: إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله، فإن لم يقدر محذوف قوي بالباء كما في القلم‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏3، ص: 152

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏ [القلم: 7] و هذا هو الأصل، و إنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ‏ [الأنعام:

124] و عدل إلى لفظ المستقبل تنبيها على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل «أفعل من» يستعمل مع الماضي نحو «أعلم من دب و درج» و «أحسن من قام و قعد» و «أفضل من حج و اعتمر». فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى اللّه عن ذلك. و جوّز بعضهم أن يكون «من» للاستفهام كقوله: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ [الكهف: 12] ثم قال: فَكُلُوا و الفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام و يحرّمون الحلال، و ذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون اللّه فما قتله اللّه أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فقال اللّه سبحانه للمسلمين: إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه و هو المذكى ببسم اللّه. فإن قيل: إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم اللّه تعالى و لا ينازعون فيه. و إنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها و المسلمون يحرمونها، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه و ترك الحكم في المختلف فيه؟

فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة و يبيحون أكل الميتة فرد اللّه تعالى عليهم في الأمرين بقوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏ و بقوله: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏ [الأنعام: 145] أو نقول: المراد اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم اللّه عليه، و على هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط و اللّه أعلم. أما قوله: وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ‏ فأكثر المفسرين قالوا: المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] إلى آخر الآية، و اعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية و المائدة من آخر ما نزل بالمدينة، و الآية تقتضي أن يكون المفصل مقدما على هذا المجمل بل الأولى أن يقال:

المراد قوله تعالى بعد هذه الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: 145] إلى آخرها. فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر. و قوله: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ‏ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ‏ المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالا، و قد يكون الضال غير مضل، قيل: إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل و اتخذ البحائر و السوائب و أكل الميتة.

صفحه بعد