کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 365

يومئذ كانت معادا له شأن لغلبة المسلمين و ظهور عز الإسلام و أهله و ذل أهل الشرك و حزبه و السورة مكية. فقيل: وعده و هو بمكة في أذى من أهلها أنه مهاجر بالنبي منها و يعيده إليها في ظفر و دولة. و قيل: نزلت عليه هذه الآية حين بلغ الجحفة في مهاجره و قد اشتاق إلى وطنه. و في الآية إخبار عن الغيب و قد وقع كما أخبر فيكون فيه إعجاز دال على نبوّته.

و حين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال‏ قُلْ‏ لأهل الشرك‏ رَبِّي أَعْلَمُ‏ يعني نفسه و إياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده، و لا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه و حقيته. ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال‏ وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى‏ إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً قال أهل العربية: هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل: و ما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة، أو «إلا» بمعنى «لكن» أي و لكن لرحمة من ربك ألقي إليك. ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك و قد مرّ مرارا أن مثل هذا النهي من باب التهييج له و لأمته.

ثم إن مرجع الكل إليه فقال‏ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏ فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شي‏ء سواه، و الوجه يعبر به عن الذات، و منهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعا به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء كما يقال «هلك الثوب و هلك المتاع» و قال أهل التحقيق: معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود و لا للعدم من عند ذاته، و إن سميت المعدوم شيئا فممتنع الوجود أحق كل شي‏ء بأن يسمى هالكا.

استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة و النار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفناء بحكم الآية، و هذا يناقض قوله‏ أُكُلُها دائِمٌ‏ [الرعد: 35] و عورض بقوله‏ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏ [آل عمران: 133] و أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ‏ [آل عمران: 131] و يحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر و من هناك قال الضحاك: كل شي‏ء هالك إلا اللّه و العرش و الجنة و النار. و قيل:

إلا العلماء فإن علمهم باق. و يمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلا بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه و من فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال و اللّه أعلم.

التأويل:

أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ‏ ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ نهار الوصل و التجلي‏ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ‏ نهار الوصل بطلوع شمس التجلي‏ سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ‏ سر تسكنون فيه عن و عثاء سطوة التجلي‏ وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ‏ ليل السر و نهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كاد يستهلك وجوده،

و كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول‏ «إنه ليغان على قلبي»

و قال لعائشة: كلميني يا حميراء.

و ذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب و النصب. و ليس هذا السر من قبيل الحجاب و إنما هو من جملة الرحمة و اللطف‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 366

نظيره الشمس في عالم الصورة فإنها في خط الاستواء تحرق، و في الآفاق الرحوية لا تؤثر، و في الآفاق الحملية يعتدل الحر و البرد فتكثر العمارة و تسهل و يعيش الحيوان‏ وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من أرباب النفوس‏ شَهِيداً هو القلب الحاضر فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ‏ و هو حقيقة التوحيد التي لا تحصل بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق للّه‏ إِنَّ قارُونَ‏ النفس‏ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ القلب لأن اللّه تعالى جعل النفس تبعا للقلب و جعل سعادتها في متابعته‏ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ المودعة في صفاتها قد أهلك من قبله من القرون كإبليس فإنه أكثر علما و طاعة فِي زِينَتِهِ‏ هي التي زين حبها للناس من النساء و البنين و غير ذلك‏ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا و هم صفات النفس. وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏ و هم صفات الروح‏ فَخَسَفْنا بِهِ‏ الأرض دركات السفل‏ وَ بِدارِهِ‏ و هي قالبه أرض جهنم يتغلغل فيها إلى يوم القيامة بل إلى الأبد نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ‏ كما

قال في بعض الكتب المنزلة: عبدي أنا ملك حي لا أموت أبدا، أطعني أجعلك ملكا حيا لا تموت أبدا. عبدي أنا ملك إذا قلت لشي‏ء كن فيكون، أطعني أجعلك ملكا إذا قلت لشي‏ء كن فيكون.

و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم‏ «عنوان كتاب اللّه إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت»

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ‏ أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن‏ لَرادُّكَ إِلى‏ مَعادٍ هو مقام الفناء في اللّه و البقاء به‏ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى‏ و هو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏ أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن و اللّه المستعان.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 367

(سورة العنكبوت)

(و هي مكية حروفها 4595 كلمها 1981 آياتها 69 آية)

[سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14)

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)

الوقوف:

الم‏ كوفي. لا يُفْتَنُونَ‏ ه‏ الْكاذِبِينَ‏ ه‏ يَسْبِقُونا ط يَحْكُمُونَ‏ ه ج‏ لَآتٍ‏ ط الْعَلِيمُ‏ ه‏ لِنَفْسِهِ‏ ط الْعالَمِينَ‏ ه‏ يَعْمَلُونَ‏ ه‏ حُسْناً ط فَلا تُطِعْهُما ط تَعْمَلُونَ‏ ه‏ الصَّالِحِينَ‏ ه‏ كَعَذابِ اللَّهِ‏ ط مَعَكُمْ‏ ط الْعالَمِينَ‏ ه‏ الْمُنافِقِينَ‏ ه‏ خَطاياكُمْ‏ ط شَيْ‏ءٍ* ط لَكاذِبُونَ‏ ه‏ مَعَ أَثْقالِهِمْ‏ ط فصلا بين‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 368

الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين. يَفْتَرُونَ‏ ه‏ عاماً ط لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأخذهم‏ الطُّوفانُ‏ ط ظالِمُونَ‏ ه‏ لِلْعالَمِينَ‏ ه.

التفسير:

إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى‏ مَعادٍ [القصص: 85] أي إلى مكة ظاهرا ظافرا، و كان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده‏ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ‏ إلى قوله‏ وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ‏ بالجهاد أو نقول: لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله‏ وَ ادْعُ إِلى‏ رَبِّكَ‏ [القصص: 87] و كان دونه من المتاعب و أعباء الرسالة ما لا يخفى، بدأ السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك. و أيضا لما بين أن كل هالك له رجوع إليه، ردّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ما حسبوه و لكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء و الحساب. قال أهل البرهان: وقوع الاستفهام بعد «ألم» يدل على استقلالها و انقطاعها عما بعدها في هذه السورة و في غيرها من السور. و في تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب و إيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل: اسمع و كن لي. و لا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن و بالخطاب اهتمام، و لهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه و الاهتمام بشأنه كقوله‏ الم ذلِكَ الْكِتابُ‏ [البقرة: 1] الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ‏ [آل عمران: 1] المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ [الأعراف: 1] يس وَ الْقُرْآنِ‏ [يس: 1] ص وَ الْقُرْآنِ‏ [ص: 1] الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ‏ [السجدة:

1] إلا ثلاث سور كهيعص‏ [مريم: 1] الم أَ حَسِبَ النَّاسُ‏ الم غُلِبَتِ الرُّومُ‏ [الروم:

1] و لا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله و عبؤه بما فيه من التكاليف، و بيانه في سورة مريم ظاهر، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني و العجوز العاقر معجز. و كذا الإخبار عن غلبة الروم قبل وقوعها. و معنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف. و اختلفوا في سبب نزولها فقيل: نزلت في عمار بن ياسر و الوليد بن الوليد و سلمة بن هشام و كانوا يعذبون بمكة. و قيل: نزلت في أقوام هاجروا و تبعهم الكفار فاستشهد بعضهم و نجا الباقون.

و قيل: في مهجع بن عبد اللّه مولى عمر بن الخطاب و هو أول قتيل من المسلمين، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: سيد الشهداء مهجع، و هو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة.

قال جار اللّه: مفعولا الحسبان الترك و علته و التقدير: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال: و الترك بمعنى التصيير. فقوله‏ وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ‏ حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه. و قال آخرون: تقديره‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 369

أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن قالوا آمنا و أقول: إن من خواص «أن» مع الفعل و «أن» مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب، و الحكم بأن الترك هاهنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرنا من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة: 16] و الفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان و كل ما يحب و يستلذ، و من ملاقاة الأعداء و المصابرة على أذاهم و سائر ما تكرهه النفس. و التحقيق أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة للّه. فإذا قال باللسان: آمنت فقد ادعى طاعة اللّه بالجنان فلا بدّ له من شهود و هو الإتيان بالأركان، و إذا حصل الشهود فلا بد له من مزك و هو بذل النفس و المال في سبيل الرحمن. فمعنى الآية: أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود و شهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات و هو مقام الإخلاص و القربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلا وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ أراد كذلك فعل اللّه بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم «آمنا»، بل أمرهم بالطاعات و زجرهم عن المنهيات. و قوله‏ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ‏ كقوله‏ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ‏ [الآية: 140] و قد مر تحقيقه في «آل عمران». و الحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم و لا إلى العلم، و ذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. و أما عبارات المفسرين فقال مقاتل: فليرين اللّه و ليظهرن اللّه. و قيل: فليميزن، و جوز جار اللّه أن يكون وعدا و وعيدا كأنه قال: و ليبينن الذين صدقوا و ليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي:

في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف و عن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه، فقال في حق الأوّلين‏ الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد، و قال في حق الآخرين‏ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ‏ بالصيغة المنبئة عن الثبات. و إنما قال‏ يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏ [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإسلام. ثم بين بقوله‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ‏ إلخ. أن من كلف بشي‏ء و لم يمتثل عذب في الحال و إلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا [الأنفال: 59] و الحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال، و التعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لو لا الاستعجال.

و معنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه و هذا يظن أنه لا يجازى بمساويه و لهذا ختم الآية بقوله‏ ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ و المخصوص محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة و التقدير: بئس الذي يحكمون حكمهم هذا، و بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا. و في الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 370

إرشادات و إلا يعاد عليها ترغيب و ترهيب و لا يوجب من اللّه تعذيب. و اعلم أن أصول الدين ثلاثة: معرفة المبدأ و أشار إليه بقوله‏ آمَنَّا ، و معرفة الوسط و هو إرسال الرسل. و إيضاح السبل و إليه أشار بقوله‏ وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا و معرفة المعاد إما للأشقياء و هو قوله‏ الم أَ حَسِبَ‏ الآية و إما للسعداء و هو قوله‏ مَنْ كانَ يَرْجُوا أي يأمل‏ لِقاءَ جزاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ‏ فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن، فلو لا البقاء لما حصل اللقاء كقولك: من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل. فإنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله. و مثله: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب. إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. و يحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر. و قيل:

يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي:

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها وَ هُوَ السَّمِيعُ‏ لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا الْعَلِيمُ‏ بنياتهم و طوياتهم و بسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت، و بالمرئي ما لا عين رأت و بالنيات ما لا خطر على قلب بشر.

ثم بين بقوله‏ وَ مَنْ جاهَدَ الآية. أن فائدة التكاليف و المجاهدات إنما ترجع إلى المكلف و اللّه غني عن كل ذلك. قال المتكلمون من الأشاعرة: في الآية دلالة على أن رعاية الأصلح لا تجب على اللّه و إلا كان مستكملا بذلك، و أن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني، و أنه ليس في مكان و إلا لزم افتقاره، و أنه ليست قادريته بقدرة و لا عالميته بعلم لأن القدرة و العلم غيره فيلزم افتقاره. و يمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال. و عن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد. و عن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه. و عن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات اللّه مع صفاته. و في الآية بشارة من وجه و إنذار من وجه آخر، و ذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح و لا شي‏ء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله‏ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ الآية و قد مر مرارا أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال اللّه تعالى و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تفصيلا فيما علم و إجمالا فيما لم يعلم، و العمل الصالح هو الذي ندب اللّه و رسوله إليه، و الفاسد ما نهى اللّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم عنه. و عند المعتزلة الأمر و النهي مترتب على الحسن و القبح. ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد و الفاسد هو الهالك التالف. يقال:

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 371

فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع. و لكن العمل عرض لا يبقى بنفسه و لا بالعامل لأن كل شي‏ء هالك إلا وجهه، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه اللّه. و منه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة و هي كونها للّه تعالى. و خالف زفر في نية الصوم و أبو حنيفة في نية الوضوء، و قد مر. ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان و العمل الصالح أمرين: تكفير السيئات و الجزاء بالأحسن. فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، و الجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، و منه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة و هو ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و لا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها. و هاهنا بحث و هو أن قوله‏ لَنُكَفِّرَنَ‏ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، فالمراد بالذين آمنوا و عملوا إما قوم مسلمون مذنبون، و إما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله. أو يقال:

صفحه بعد