کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 368

الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين. يَفْتَرُونَ‏ ه‏ عاماً ط لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأخذهم‏ الطُّوفانُ‏ ط ظالِمُونَ‏ ه‏ لِلْعالَمِينَ‏ ه.

التفسير:

إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى‏ مَعادٍ [القصص: 85] أي إلى مكة ظاهرا ظافرا، و كان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده‏ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ‏ إلى قوله‏ وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ‏ بالجهاد أو نقول: لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله‏ وَ ادْعُ إِلى‏ رَبِّكَ‏ [القصص: 87] و كان دونه من المتاعب و أعباء الرسالة ما لا يخفى، بدأ السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك. و أيضا لما بين أن كل هالك له رجوع إليه، ردّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ما حسبوه و لكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء و الحساب. قال أهل البرهان: وقوع الاستفهام بعد «ألم» يدل على استقلالها و انقطاعها عما بعدها في هذه السورة و في غيرها من السور. و في تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب و إيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل: اسمع و كن لي. و لا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن و بالخطاب اهتمام، و لهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه و الاهتمام بشأنه كقوله‏ الم ذلِكَ الْكِتابُ‏ [البقرة: 1] الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ‏ [آل عمران: 1] المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ [الأعراف: 1] يس وَ الْقُرْآنِ‏ [يس: 1] ص وَ الْقُرْآنِ‏ [ص: 1] الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ‏ [السجدة:

1] إلا ثلاث سور كهيعص‏ [مريم: 1] الم أَ حَسِبَ النَّاسُ‏ الم غُلِبَتِ الرُّومُ‏ [الروم:

1] و لا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله و عبؤه بما فيه من التكاليف، و بيانه في سورة مريم ظاهر، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني و العجوز العاقر معجز. و كذا الإخبار عن غلبة الروم قبل وقوعها. و معنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف. و اختلفوا في سبب نزولها فقيل: نزلت في عمار بن ياسر و الوليد بن الوليد و سلمة بن هشام و كانوا يعذبون بمكة. و قيل: نزلت في أقوام هاجروا و تبعهم الكفار فاستشهد بعضهم و نجا الباقون.

و قيل: في مهجع بن عبد اللّه مولى عمر بن الخطاب و هو أول قتيل من المسلمين، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: سيد الشهداء مهجع، و هو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة.

قال جار اللّه: مفعولا الحسبان الترك و علته و التقدير: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال: و الترك بمعنى التصيير. فقوله‏ وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ‏ حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه. و قال آخرون: تقديره‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 369

أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن قالوا آمنا و أقول: إن من خواص «أن» مع الفعل و «أن» مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب، و الحكم بأن الترك هاهنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرنا من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة: 16] و الفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان و كل ما يحب و يستلذ، و من ملاقاة الأعداء و المصابرة على أذاهم و سائر ما تكرهه النفس. و التحقيق أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة للّه. فإذا قال باللسان: آمنت فقد ادعى طاعة اللّه بالجنان فلا بدّ له من شهود و هو الإتيان بالأركان، و إذا حصل الشهود فلا بد له من مزك و هو بذل النفس و المال في سبيل الرحمن. فمعنى الآية: أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود و شهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات و هو مقام الإخلاص و القربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلا وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ أراد كذلك فعل اللّه بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم «آمنا»، بل أمرهم بالطاعات و زجرهم عن المنهيات. و قوله‏ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ‏ كقوله‏ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ‏ [الآية: 140] و قد مر تحقيقه في «آل عمران». و الحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم و لا إلى العلم، و ذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. و أما عبارات المفسرين فقال مقاتل: فليرين اللّه و ليظهرن اللّه. و قيل: فليميزن، و جوز جار اللّه أن يكون وعدا و وعيدا كأنه قال: و ليبينن الذين صدقوا و ليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي:

في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف و عن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه، فقال في حق الأوّلين‏ الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد، و قال في حق الآخرين‏ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ‏ بالصيغة المنبئة عن الثبات. و إنما قال‏ يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏ [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإسلام. ثم بين بقوله‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ‏ إلخ. أن من كلف بشي‏ء و لم يمتثل عذب في الحال و إلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا [الأنفال: 59] و الحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال، و التعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لو لا الاستعجال.

و معنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه و هذا يظن أنه لا يجازى بمساويه و لهذا ختم الآية بقوله‏ ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ و المخصوص محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة و التقدير: بئس الذي يحكمون حكمهم هذا، و بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا. و في الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 370

إرشادات و إلا يعاد عليها ترغيب و ترهيب و لا يوجب من اللّه تعذيب. و اعلم أن أصول الدين ثلاثة: معرفة المبدأ و أشار إليه بقوله‏ آمَنَّا ، و معرفة الوسط و هو إرسال الرسل. و إيضاح السبل و إليه أشار بقوله‏ وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا و معرفة المعاد إما للأشقياء و هو قوله‏ الم أَ حَسِبَ‏ الآية و إما للسعداء و هو قوله‏ مَنْ كانَ يَرْجُوا أي يأمل‏ لِقاءَ جزاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ‏ فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن، فلو لا البقاء لما حصل اللقاء كقولك: من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل. فإنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله. و مثله: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب. إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. و يحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر. و قيل:

يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي:

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها وَ هُوَ السَّمِيعُ‏ لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا الْعَلِيمُ‏ بنياتهم و طوياتهم و بسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت، و بالمرئي ما لا عين رأت و بالنيات ما لا خطر على قلب بشر.

ثم بين بقوله‏ وَ مَنْ جاهَدَ الآية. أن فائدة التكاليف و المجاهدات إنما ترجع إلى المكلف و اللّه غني عن كل ذلك. قال المتكلمون من الأشاعرة: في الآية دلالة على أن رعاية الأصلح لا تجب على اللّه و إلا كان مستكملا بذلك، و أن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني، و أنه ليس في مكان و إلا لزم افتقاره، و أنه ليست قادريته بقدرة و لا عالميته بعلم لأن القدرة و العلم غيره فيلزم افتقاره. و يمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال. و عن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد. و عن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه. و عن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات اللّه مع صفاته. و في الآية بشارة من وجه و إنذار من وجه آخر، و ذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح و لا شي‏ء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله‏ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ الآية و قد مر مرارا أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال اللّه تعالى و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تفصيلا فيما علم و إجمالا فيما لم يعلم، و العمل الصالح هو الذي ندب اللّه و رسوله إليه، و الفاسد ما نهى اللّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم عنه. و عند المعتزلة الأمر و النهي مترتب على الحسن و القبح. ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد و الفاسد هو الهالك التالف. يقال:

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 371

فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع. و لكن العمل عرض لا يبقى بنفسه و لا بالعامل لأن كل شي‏ء هالك إلا وجهه، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه اللّه. و منه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة و هي كونها للّه تعالى. و خالف زفر في نية الصوم و أبو حنيفة في نية الوضوء، و قد مر. ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان و العمل الصالح أمرين: تكفير السيئات و الجزاء بالأحسن. فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، و الجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، و منه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة و هو ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و لا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها. و هاهنا بحث و هو أن قوله‏ لَنُكَفِّرَنَ‏ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، فالمراد بالذين آمنوا و عملوا إما قوم مسلمون مذنبون، و إما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله. أو يقال:

إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء، نظيره قول الملك لقوم: إذا أطعتموني أكرم آباءكم و أحترم أبناءكم. و هذا لا يقتضي أن يكرم آباء من توفي أبوه و يحترم ابن من لم يولد له ابن، و لكن مفهومه أنه يكرم آباء من له أب و يحترم ابن من له ابن. أو يقال: ما من مكلف إلا و له سيئة حتى الأنبياء، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين. و حين بين حسن التكاليف و وقوعها و ذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها و فروعها أشار بقوله‏ وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ‏ الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة و لا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، و مع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيرهم؟ و منه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. و معنى‏ وَصَّيْنَا أمرنا كما مر في قوله‏ وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ‏ [البقرة: 132] و قوله‏ بِوالِدَيْهِ‏ أي بتعهدهما و رعاية حقوقهما، و على هذا ينتصب‏ حُسْناً بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسنا أو افعل بهما حسنا كأنه قال: قلنا له ذلك و قلنا له‏ وَ إِنْ جاهَداكَ‏ إلى آخره فلو وقف على قوله‏ بِوالِدَيْهِ‏ حسن و يجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والديه حسنا و قلنا له‏ وَ إِنْ جاهَداكَ‏ و قوله‏ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏ كقوله‏ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الأنعام: 81] أي لا معلوم ليتعلق العلم به. و إذا كان التقليد في الإيمان قبيحا فكيف يكون حال التقليد في الكفر. و على وجوب ترك طاعة الوالدين إذا أرادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي، و ذلك أن طاعتهما وجبت بأمر اللّه فإذا نفيا طاعة اللّه في الإشراك به فقد أبطلا طاعة اللّه مطلقا، و يلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر اللّه، و كل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل. فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك باللّه من الممتنعات. و في قوله‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 372

إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏ ترغيب في رعاية حقوق الوالدين و ترهيب عن عقوقهما و إن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك. و فيه أن المجازي للمؤمن و المشرك إذا كان هو اللّه وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما. و في قوله‏ فَأُنَبِّئُكُمْ‏ دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شي‏ء.

يروى‏ أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين أسلم قالت أمه و هي حمنة بنت أبي سفيان: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فو اللّه لا يظلني سقف بيت و إن الطعام و الشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد. و كان أحب ولدها إليها فأبى سعد و بقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سعدا أن يداريها و يرضيها بالإحسان.

ثم أكد جزاء من آمن و عمل صالحا بتكرير قوله‏ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ‏ أي في زمرتهم‏ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] قال الحكماء: أي في المجردين الذين لا كون لهم و لا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم. ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر و الوفاق فقال‏ وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ‏ يعني أنا و المؤمنون حقا آمنا ادّعى أن إيمانه كإيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله‏ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ‏ أي في سبيله و دينه‏ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ‏ قال جار اللّه: أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب اللّه صارف للمؤمنين عن الكفر، و هذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب اللّه صارفا و هذا في الواقع. و قيل: جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب اللّه. و بالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها و انقطاعها كعذاب اللّه الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر و قالوا: ان آمنا نتعرض للتأذي من الناس، و ذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار، و إن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل و نافقوا. و إنما قال‏ فِتْنَةَ النَّاسِ‏ و لم يقل «عذاب الناس» لأن فعل العبد ابتلاء من اللّه. و ليس في الآية منع من إظهار كلمة الكفر إكراها، و إنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها.

و مما يؤكد تذبذبهم قوله‏ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ‏ و يلزمه الغنيمة غالبا لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ‏ يعني دأب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر، و إن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر و أظهر المعية و ادّعى التبعية. و في تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة و الرحمة هي التي أوجبت النصر. ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم، لأنه خبير بما بأنفسهم كما هي و هم لا يعرفون نفوسهم كما هي، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى اللّه شيئا لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله‏ وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ‏ و فيه وعد للمؤمنين و وعيد

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 373

للمنافقين. اعتبر أمر القلب هاهنا و هو في المؤمن التصديق، و في المنافق النفاق، و اعتبر في أول السورة أمر اللسان و هو في الكافر الكذب لأنه يقول: اللّه غير موجود، أو اللّه أكثر من واحد. و في المؤمن الصدق لأنه يقول: اللّه واحد. و حين بين أحوال الفرق الثلاثة و ذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة، و بين أن عذاب اللّه فوقها و كان للكافر أن يقول للمؤمن لم تصبر في الذل على الإيذاء و لم لا تدفع الذل و العذاب عن نفسك بموافقتنا، و كان جواب المؤمن أن يقول خوفا من عذاب اللّه خطيئة مذهبكم فقالوا: لا خطيئة فيه، و إن كان فيه خطيئة فعلينا، أشار إلى جميع ذلك قوله‏ وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ‏ أرادوا و ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا و أن نحمل خطاياكم، نظيره «ليكن منك العطاء و ليكن مني الدعاء» و ليس هو في الحقيقة أمر طلب و إيجاب و لكنه حكاية قول صناديد قريش. كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن و لا أنتم فإن عسى كان جزاء و معاد فإنا نتحمل عنكم الإثم. و ترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول: افعل هذا و إثمه عليّ، و كم من مغرور بمثل هذا الضمان. ثم أخبر اللّه تعالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئا من خطاياهم، و لا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم اللّه عليهم بأنهم كاذبون. و يجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا و في قلوبهم نية الخلف. و لا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف. أما الجمع بين قوله‏ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ‏ و بين قوله‏ وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ‏ فهو أن النفي راجع إلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسببه، و الإثبات يرجع إلى أنهم يحملون وزر الإضلال و وزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما

قال عليه الصلاة و السلام‏ «من سن سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شي‏ء» «1»

قال‏ وَ لَيُسْئَلُنَ‏ سؤال تقريع‏ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ‏ من أنه لا حشر، و على تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين. ثم أجمل قصة نوح و من بعده تصديقا لقوله في أول السورة وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ و فيه تثبيت للنبي عليه الصلاة و السلام كأنه قيل له: إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا يدعو قومه و لم يؤمن منهم إلا قليل، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك و كثرة عدد أمتك، و فيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون؟

(1) رواه مسلم في كتاب العلم حديث 15. النسائي في كتاب الزكاة باب 64. أحمد في مسنده (4/ 357، 359).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 374

سؤال: ما الفائدة في قوله‏ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً دون أن يقول: تسعمائة و خمسين. الجواب: لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز و التقريب. فإن من قال: عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريبا لا تحقيقا. فإذا قال: إلا شهرا أو إلا سنة، زال ذلك الوهم. و أيضا المقصود تثبيت النبي صلى اللّه عليه و سلم، و ذكر الألف الذي هو عقد معتبر أوصل إلى هذا الغرض. و إنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفا لما في المستثنى منه تجنبا من التكرار الخالي عن الفائدة و توسعة في الكلام. قال بعض الأطباء: العمر الطبيعي للإنسان مائة و عشرون سنة. فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه السلام و غيره، و ذلك أن المفسرين قالوا: عمر نوح ألفا و خمسين سنة بعث على رأس أربعين، و لبث في قومه تسعمائة و خمسين، و عاش بعد الطوفان ستين. و عن وهب أنه عاش ألفا و أربعمائة سنة. و يمكن أن يقال: إنهم أرادوا بالطبيعي ما كان أكثريا في أعصارهم. و لا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائدا على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار و الأدوار، و لهذا

قال صلى اللّه عليه و سلم‏ «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين»! «1»

و الطوفان ما عم كل المكان بكثرة و غلبة من سيل أو ظلام ليل. و في قوله‏ وَ هُمْ ظالِمُونَ‏ دليل على أن العذاب أخذهم و هم مصرون على الظلم و لو كانوا قد تركوه لما أهلكهم. و الضمير في قوله‏ وَ جَعَلْناها إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة. و أعاجيب هذه القصة و أحوال السفينة و أهوالها قد تقدّمت مرارا و لا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها.

التأويل:

أقسم بفردانيته و بآلائه و نعمائه أنه مهما يكون من العبد التقرب إليه بأصناف العبودية يكون منه التقرب إلى العبد بألطاف الربوبية يؤكده قوله‏ أَ حَسِبَ النَّاسُ‏ أي الناسون من أهل البطالة أَنْ يُتْرَكُوا بمجرد الدعوى و لا يطالبون بالبلوى، فالمحبة و المحنة توأمان و بالامتحان يكرم الرجل أو يهان، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه. فالبلاء للنفوس لإخراجها عن أوطان الكسل و تصريفها في حسن العمل، و البلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيب، و البلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق، و البلاء على الأسرار في اعتكافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه، و إن أشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه نكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق لا يدري أنه من الحق و لا يقال: إنه الحق و عزيز من يهتدي إلى ذلك‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ‏ فيه أن موجبات عمل السيئات سواد مرآة

صفحه بعد