کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 387

القراآت:

ما يَدْعُونَ‏ بياء الغيبة: أبو عمرو و سهل و يعقوب و عاصم غير الأعشى و البرجمي. الباقون: بتاء الخطاب آية على التوحيد: ابن كثير و عاصم سوى حفص و المفضل و حمزة و علي غير قتيبة و خلف لنفسه. وَ يَقُولُ‏ بالياء: نافع و عاصم و حمزة و علي و خلف. الباقون: بالنون‏ يا عِبادِيَ الَّذِينَ‏ بسكون الياء: أبو عمرو و سهل و يعقوب و حمزة و علي و خلف. الباقون: بفتح الياء و الوقف للجميع بالياء لا غير أَرْضِي‏ بفتح الياء ابن عامر يرجعون بضم الياء التحتانية و فتح الجيم: يحيى و هشام‏ تُرْجَعُونَ‏ بفتح التاء الفوقانية و كسر الجيم. الباقون: بضم التاء الفوقانية و فتح الجيم لنثوينهم بسكون الثاء المثلثة: حمزة و علي و خلف. و الآخرون: بفتح الياء التحتانية الموحدة. و تشديد الواو وَ لِيَتَمَتَّعُوا بسكون اللام: ابن كثير و قالون و حمزة و علي و خلف‏ سُبُلَنا بسكون الباء:

أبو عمرو.

الوقوف:

مِنْ شَيْ‏ءٍ ط الْحَكِيمُ‏ ه‏ لِلنَّاسِ‏ ط لاختلاف الجملتين و العدول عن العموم إلى الخصوص‏ الْعالِمُونَ‏ ه‏ بِالْحَقِ‏ ه‏ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ ه‏ الصَّلاةَ ط وَ الْمُنْكَرِ ط أَكْبَرُ ط ما تَصْنَعُونَ‏ ه‏ مُسْلِمُونَ‏ ه‏ إِلَيْكَ الْكِتابَ‏ ط يُؤْمِنُونَ بِهِ‏ ج فصلا بين حال الفريقين مع اتفاق الجملتين‏ يُؤْمِنُ بِهِ‏ ط الْكافِرُونَ‏ ه‏ الْمُبْطِلُونَ‏ ه‏ الْعِلْمَ‏ ط الظَّالِمُونَ‏ ه‏ مِنْ رَبِّهِ‏ ط عِنْدَ اللَّهِ‏ ط مُبِينٌ‏ ه‏ عَلَيْهِمْ‏ ط يُؤْمِنُونَ‏ ه‏ شَهِيداً ج لأن ما بعده يصلح وصفا و استئنافا وَ الْأَرْضِ‏ بِاللَّهِ‏ لا لأن ما بعده خبر الْخاسِرُونَ‏ ه‏ بِالْعَذابِ‏ ط الْعَذابُ‏ ط لا يَشْعُرُونَ‏ ه‏ بِالْعَذابِ‏ ط بِالْكافِرِينَ‏ ه لا لأن‏ يَوْمَ‏ ظرف‏ لَمُحِيطَةٌ تَعْمَلُونَ‏ ه‏ فَاعْبُدُونِ‏ ط تُرْجَعُونَ‏ ه‏ خالِدِينَ فِيها ط الْعامِلِينَ‏ قف بناء على أن التقدير هم الذين أو أعني الذين‏ يَتَوَكَّلُونَ‏ ه‏ رِزْقَهَا ق قد قيل: و الوصل أولى لأنه وصف آخر لدابة وَ إِيَّاكُمْ‏ ج لاحتمال الاستئناف و الوصل أولى ليكون حالا متمما للمعنى‏ الْعَلِيمُ‏ ه‏ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 388

لا للاستفهام مع الفاء يُؤْفَكُونَ‏ ه‏ وَ يَقْدِرُ لَهُ‏ ط عَلِيمٌ‏ ه‏ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏ ط الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ ط لتمام المقول‏ لا يَعْقِلُونَ‏ ه‏ وَ لَعِبٌ‏ ط الْحَيَوانُ‏ ط لأن الشرط غير معلق‏ يَعْلَمُونَ‏ ه‏ الدِّينَ‏ ه‏ يُشْرِكُونَ‏ لا لتعلق لام كي و من جعلها لام أمر تهديد وقف عليه‏ آتَيْناهُمْ‏ ط لمن قرأ وَ لِيَتَمَتَّعُوا بالجزم على استئناف الأمر، و من جعل لام‏ لِيَكْفُرُوا للأمر عطف هذه عليها فلم يقف. وَ لِيَتَمَتَّعُوا لا لاستئناف التهديد يَعْلَمُونَ‏ ه‏ مِنْ حَوْلِهِمْ‏ ط يَكْفُرُونَ‏ ه‏ جاءَهُ‏ ط لِلْكافِرِينَ‏ ه‏ سُبُلَنا ط الْمُحْسِنِينَ‏ ه.

التفسير:

هذا توكيد للمثل المذكور و زيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا هذا على تقدير كون «ما» نافية و «من» زائدة، و يجوز أن تكون استفهاما نصبا ب يَدْعُونَ‏ أو بمعنى الذي و «من» للتبيين المراد ما يدعون من دونه من شي‏ء فإن اللّه يعلمه. و هو العزيز الحكيم قادر على إعدامه و إهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة و الحياة عن بينة. و فيه أيضا تجهيل لهم حيث عبدوا ما هو أقل من لا شي‏ء و تركوا عبادة القاهر القادر الحكيم. ثم إن الجهلة من قريش كانوا يسخرون من ضرب المثل بالذباب و العنكبوت و نحوهما فنزلت‏ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ‏ و ذلك لأن الأمثال و التشبيهات و سائل إلى المعاني المحتجبة في الأستار كما سبق في أول البقرة، حيث ضرب المثل بالبعوضة. قال الحكيم: العلم الحدسي يعرفه العاقل، و أما إذا كان فكريا دقيقا فإنه لا يعقله إلا العالم لافتقاره إلى مقدمات سابقة. و المثل مما يفتقر في إدراك صحته و حسن موقعه إلى أمور سابقة و لا حقة يعرف بها تناسب مورده و مضربه و فائدة إيراده فلا يعقل صحتها إلا العلماء. و حين أمر الخلق بالإيمان و أظهر الحق بالبرهان و قص قصصا فيها عبر، و أنذر أهل الكفر بإهلاك من غبر و وصف سبيل أهل الأباطيل بالتمثيل، قوى قلوب أهل الإيمان بأن كفرهم ينبغي أن لا يورث شكا في صحة دينكم، و شكهم يجب أن لا يؤثر في رد يقينكم، ففي خلق السموات و الأرض بالحق بيان ظاهر و برهان باهر و إن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر. و إنما قال هاهنا لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏ مع قوله‏ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏ و قوله‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إلى قوله‏ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏ [البقرة: 164] لأن المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب و لكنه يرتقي منه إلى نعوت الكمال و الجلال فيعرف أنه خلقهما متقنا محكما و هو المراد بقوله‏ بِالْحَقِ‏ و الخلق المتقن المحكم لا يصدر إلا عن العالم بالكليات و الجزئيات، و إلا عن الواجب الواحد الذات و الصفات كقوله‏ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ثم يرتقي من مجموع هذه المقدمات إلى صحة الرسالة و حقيقة المعاد فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه. و إنما

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 389

وحد الآية هاهنا لأنه إشارة إلى التوحيد و هو سبحانه واحد لا شريك له. و في قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة و في النبيين صلى اللّه عليهم و سلم كثرة. و حيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقوله‏ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ‏ لتعلم أن نوحا و لوطا و غيرهما بلغوا الرسالة و بالغوا في إقامة الدلالة، و لم ينقذوا قومهم من الضلالة و الجهالة، و لهذا قال‏ اتْلُ‏ و لم يقل «اتل عليهم» لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى اللّه عليه و سلم. أو نقول: إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر و ينقله قرن إلى قرن و يأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور. و أيضا فيه من العبر و المواعظ ما يهش لها الأسماع و تطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة، و كالروض يستلذه النظر ساعة فساعة. و في الجمع بين الأمرين التلاوة و إقامة الصلاة معنيان: أحدهما زيادة تسلية النبي صلى اللّه عليه و سلم كأنه قيل له: إذا تلوت و لم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك واسطة بين الطرفين، فإن لم يتصل الطرف الأول و هو من الخالق إلى المخلوق، فليتصل الطرف الآخر و هو من المخلوق إلى الخالق. و الثاني أن العبادات إما اعتقادية و هي لا تتكرر بل تبقى مستمرا عليها. و إما لسانية، و إما بدنية خارجية و أفضلها الصلاة، فأمر بتكرار الذكر و الصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال‏ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ فقال بعض المفسرين: أراد بالصلاة القرآن و فيه النهي عنهما و هو بعيد و قيل: أراد نفس الصلاة و إنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، و ضعف بأنه ليس مدحا كاملا لأن غيرها من الأعمال الفاضلة و المباحة قد يكون كذلك كالنوم و غيره. و الذي عليه المحققون أن للصلاة لطفا في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها و ذلك إذا كانت الشروط من الخشوع و غيره مرعية. فقد روي عن ابن عباس: من لم تأمره صلاته بالمعروف و لم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من اللّه إلا بعدا.

و روي‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قيل له: إن فلانا يصلي بالنهار و يسرق بالليل. فقال: إن صلاته لتردعه‏

و روي‏ أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش، فوصف ذلك للنبي صلى اللّه عليه و سلم فقال: إن صلاته ستنهاه، فلم يلبث أن تاب.

و على كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح. و اللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر و كيف لا تنهى و نحن نرى أن من لبس ثوبا فاخرا فإنه يتجنب مباشرة القاذورات، فمن لبس لباس التقوى كيف لا يتجنب الفواحش.

و أيضا الصلاة توجب القرب من اللّه تعالى كما قال‏ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ‏ [العلق: 19] و مقرّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الأشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي؟

و أيضا من دخل في خدمة ملك فأعطاه منصبا له مقام خاص مرتفع فإذا دخل و جلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة و حقوقها من‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 390

أصحاب اليمين فكيف يتركه اللّه الكريم في أصحاب الشمال؟ و تفسير الفحشاء و المنكر مذكور مرارا، و قال أهل التحقيق: الفحشاء التعطيل و هو إنكار وجود الصانع، و المنكر الإشراك به و هو إثبات إله غير اللّه و ذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس و إنكار الظاهر منكر ظاهر. و اعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي اللّه كوقوف العبد بين يدي السلطان، و آخرها جثو بين يدي اللّه كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان. و إذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال‏ وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] فالمصلي إذا قال «اللّه» نفى التعطيل و إذا قال «أكبر» نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، و إذا قال‏ بِسْمِ اللَّهِ‏ نفى التعطيل، و إذا قال‏ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق و الرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق، و هكذا الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ خلاف التعطيل، و قوله‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ خلاف التشريك و في قوله‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ نفى التعطيل و الإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة، و كذا قوله‏ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و في قوله‏ اهْدِنَا الصِّراطَ نفي التعطيل لأن المعطل لا مقصد له.

و في قوله‏ الْمُسْتَقِيمَ‏ نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق و هو أحد، و المشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط. و على هذا إلى آخر الصلاة و هو قوله في التشهد «أشهد أن لا إله إلا اللّه» نفى التعطيل و الإشراك، فأول الصلاة «اللّه» و آخرها «اللّه». ثم إن اللّه سبحانه كأنه قال للعبد: أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى اللّه عليه و سلم، فقل بعد ذكري:

أشهد أن محمدا رسول اللّه، و اذكر إحسانه بالصلاة عليه. ثم إذا رجعت من معراجك و انتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم و بلغهم سلامي كما هو دأب المسافرين‏ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ‏ أي الصلاة أَكْبَرُ من غيرها من الطاعات. و في تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر. و جوز في الكشاف أن يراد و لذكر اللّه عند الفحشاء و المنكر و ذكر نهيه عنهما و وعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. و عن ابن عباس:

و لذكر اللّه إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ‏ من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك.

و حين بين طريقة إرشاد المسلمين و نفع من انتفع و اليأس ممن امتنع، أراد أن يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب و هي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن، يعني مقابلة الخشونة باللين و الغضب بالحلم و العجلة بالتأني. قال بعض المفسرين: أراد لا تجادلهم بالسيف و إن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية. و قيل: إلّا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد للّه و القول بثالث ثلاثة و قيل: إلا الذين آذوا رسول اللّه. و التحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد صلى اللّه عليه و سلم فوحدوا و آمنوا بإنزال الكتب و إرسال الرسل‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 391

و المبدأ و المعاد، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن، و لا تستهجن آراؤهم و لا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم‏ آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا إلى آخر الآية. و

عن النبي صلى اللّه عليه و سلم‏ «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم و لا تكذبوهم و قولوا آمنا باللّه و كتبه و رسله، فإن كان باطلا لم تصدقوهم، و إن كان حقا لم تكذبوهم» «1»

ثم ذكر دليلا قياسيا فقال‏ وَ كَذلِكَ‏ يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك و قال جار اللّه: هو تحقيق لقوله‏ آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا أي و مثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ‏ هم عبد اللّه بن سلام و أضرابه‏ وَ مِنْ هؤُلاءِ أي من أهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب، و الآخرون هم المعاصرون منهم للنبي صلى اللّه عليه و سلم و قيل: الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم و من هؤلاء هم أهل الكتاب‏ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب بن الأشرف و أصحابه. و اعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله: الزكاة تجب في مال الصغير. فإذا قيل له: لم؟ قال: كما تجب النفقة في ماله و لا يذكر الجامع بينهما. فإن فهم الجامع من نفسه فذاك، و إلا قيل له: لأن كليهما مال فضل عن الحاجة. فاللّه سبحانه ذكر أولا التمسك بقوله‏ وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا ثم ذكر الجامع بقوله‏ وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا الآية. و في قوله‏ بِيَمِينِكَ‏ زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. و معنى‏ إِذاً لَارْتابَ‏ لو كان شي‏ء من ذلك أي من التلاوة و الخط لارتاب‏ الْمُبْطِلُونَ‏ من أهل الكتاب، و ارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل، لأن النبي إذا كان قارئا كاتبا أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام اللّه، و إذا كان أميا فلا مجال لهذا الوهم. أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين و وجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب أليس صاحب آيات و معجزات فإذا هم مبطلون على كل حال. ثم أكد إزالة ريبهم بقوله‏ بَلْ هُوَ يعني القرآن‏ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏ و هو الحفاظ و القراء و سائر الكتب السماوية، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس و لهذا جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم» وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم. سماهم أولا كافرين لأجل مجرد الجحود، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالمين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع. و يجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغلوهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكما أو حقيقة. و لما بين الدليل من جانب النبي صلى اللّه عليه و سلم ذكر شبهتهم و هي الفرق بين المقيس و المقيس عليه، و ذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند اللّه و أنت ما أوتيت شيئا منها فأرشد اللّه نبيه إلى الجواب‏

(1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 29. كتاب تفسير سورة 2 باب 11. أبو داود في كتاب العلم باب 2. أحمد في مسنده (4/ 136).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 392

و هو أن يقول‏ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ‏ و وجهه أنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة و إنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة، و لهذا علم وجود رسل كشيث و إدريس و شعيب، و لم يعلم لهم معجزة و كان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم إلا بقول موسى أو غيره، فليس على النبي إلا النذارة. و أما إنزال الآية فإلى رحمة اللّه إذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ و تكذيب النبي. ثم قال‏ أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ‏ الآية. و المعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصحائهم كافيا في بيان الإعجاز؟ إِنَّ فِي ذلِكَ‏ المتلو على وجه الأرضين‏ لَرَحْمَةً من اللّه على الخلق و إلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ‏ وَ ذِكْرى‏ ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان. و إنما كانت هذه الرحمة من اللّه على الخلق و التذكرة مختصة بالمؤمنين، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة و الخلود في النار، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه صلى اللّه عليه و سلم بكلام منصف و هو قوله‏ كَفى‏ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً و قال في آخر سورة الرعد قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ‏ [الآية: 43] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضا و أما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة اللّه، ثم بين كون شهادة اللّه كافية بقوله‏ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ثم هددهم بقوله‏ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ‏ و هما متلازمان لأن الإيمان بما سوى اللّه و هو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر باللّه و جحود بحقه. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن أفحش من اشتراء الباطل بالحق و الكفر بالإيمان و إضاعة العمر في عبادة ما لا ينفعهم بل يضرهم قيل: إن ناسا من المسلمين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر إليها ألقاها و قال: كفى بها حماقة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت‏ أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ‏ الآية. و

يروى‏ أن كعب بن الأشرف و أصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك بأنك رسول اللّه؟ فنزلت‏ قُلْ كَفى‏ الآية.

فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين، و على ما مر فهل يتناول أهل الكتاب؟ قالوا: نعم، لأنه صح عندهم معجزة محمد صلى اللّه عليه و سلم و قطعوا بأنها ليست من عند اللّه بل من تلقاء محمد صلى اللّه عليه و سلم فيلزمهم أن يقولوا: إن محمدا هو اللّه فيكون إيمانا بالباطل و كفرا باللّه. قلت: و لعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة و عبدوا العجل و اللّه أعلم. ثم إن النضر بن الحرث و غيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم و تكذيبا فنزلت‏ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى‏ هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة. و قوله‏ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ‏ تأكيد للبغتة، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر و يظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 393

ثم كرر قوله‏ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ‏ تعجبا منهم و تعجيبا، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة و يقول: هات ما عندك. و أما الذي توعد بإحراق و نحوه فكيف يتجلد و يستعجل خصوصا إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد و يقدر على كل ما أراد. و قوله‏ لَمُحِيطَةٌ بمعنى الاستقبال أي ستحيط بهم يوم كذا و يجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا، أو مجازا لأن جهنم مآلهم و مرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم. و الظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر أي‏ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ‏ كان كيت و كيت. و إنما خص الغشيان بالفوق و التحت دون باقي الجهات، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا، لا تنزل من فوق و لا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم، و إنما لم يقل «و من تحتهم» كما قال‏ مِنْ فَوْقِهِمْ‏ لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الرأس أو من موضع آخر. و أما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل. و يجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويرا لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها. و قوله‏ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ‏ أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة، و حين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب و المشركين و جمعهم في الإنذار و جعلهم من أهل النار اشتد عنادهم و زاد فسادهم و سعوا في إيذاء المؤمنين و منعهم من عبادة اللّه فقال‏ يا عِبادِيَ‏ فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله‏ عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ‏ [الدهر: 6] فقوله‏ الَّذِينَ آمَنُوا صفة موضحة. و إن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة.

و معنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة اللّه في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالا أو أرفع حالا و أقل عوارض نفسانية و أكمل دواعي روحانية

عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم‏ «من فر بدينه من أرض إلى أرض و إن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة و كان رفيق إبراهيم و محمد».

و اعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعا إلى اللّه الكريم و مستمدا من إعجاز الفرقان العظيم: اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشي‏ء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سببا لنجح المقاصد و حصول المآرب و الاشتمال على الفوائد الدنيوية و الدينية و الخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير و بالإسعاف و الإجابة جدير. و الفاء في قوله‏ فَإِيَّايَ‏ للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه.

صفحه بعد