کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 431

مددنا لك باعا من ختر». و الختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر و قلة الاعتماد على اللّه في دفع المكروه. و الكفور طباق الشكور. و حين بيّن الدلائل وعظ بالتقوى و خوف من هول يوم القيامة. و معنى‏ لا يَجْزِي‏ لا يقضي كما مر في أول «البقرة».

و ذكر شخصين في غاية الشفقة و المحبة و هما الوالد و الولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى، و فيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن، و الولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن، فكأنه قال: لا يجزى فيه‏ والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ‏ شيئا من الآلام‏ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً من أسباب الإهانة. قال جار اللّه: إنما أوردت الجملة الثانية اسمية لأجل التوكيد. و ذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة و في توسيط «هو» مزيد تأكيد. و في لفظ الْمَوْلُودِ دون أن يقول «و لا ولد» تأكيد آخر، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضا بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل: إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لمن فوقه. و قيل: إنما أوردت الثانية اسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق و الوالد يجزي شفقة لا وجوبا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ‏ بمجي‏ء ذلك اليوم‏ حَقٌ‏ أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد و بالعكس حق. و الْغَرُورُ بناء مبالغة و هو الشيطان أي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها و يزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة.

روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم‏ «مفاتيح الغيب خمس» و تلا قوله‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1»

إلى آخرها. و عن المنصور، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر و أشار إليه بالأصابع الخمس. فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين و بخمسة أشهر و بغير ذلك حتى قال أبو حنيفة: تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه، و أن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. قال في التفسير الكبير: ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو و كيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور، و إنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة. كان لقائل أن يقول: متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره و لكن هو كائن لدليلين ذكرهما مرارا و هو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض و خلق الأجنة في الأرحام، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى. ثم إنه كأنه قال: أيها السائل إن لك شيئا أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك و معادك فلا تعلم‏ ما ذا تَكْسِبُ غَداً مع أنه فعلك و زمانك و لا

(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 6 باب 1. مسلم في كتاب الإيمان حديث 5، 7. النسائي في كتاب الإيمان باب 6. أحمد في مسنده (2/ 24، 52) (4/ 13).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 432

تعلم أين تموت مع أنه شغلك و مكانك فكيف تعلم قيام الساعة؟ و السر في إخفاء الساعة و إخفاء وقت الموت بل مكانه هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول «طه»، و لو علم المكلف مكان موته لأمن الموت إذا كان في غيره. و السر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف أبدا مشغول السر باللّه معتمدا عليه في أسباب الرزق و غيره.

روي‏ أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه. فقال الرجل:

من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنه يريدني. و سأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان نظري إليه تعجبا منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند و هو عندك.

قال جار اللّه: جعل العلم للّه و الدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل و الحيلة كأنه قال: إنها لا تعرف و إن أعلمت حيلها و قرى‏ء بأية أرض و الأفصح عدم تأنيثه.

التأويل:

وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً هي تسخير ما في السموات و ما في الأرض من الأجسام العلوية و السفلية، البسيطة و المركبة. و باطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق و الإخلاص و التوكل و الشكر و سائر المقامات القلبية و الروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة و الانتفاع بمنافعها و الاجتناب عن مضارها. و تسخير ما في أرض النفوس من أضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة و التمتع بخواصها و التحرز عن آفاتها. ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ‏ لفساد استعدادهم‏ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ‏ سلامتهم في الظاهر معلومة، و أما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحقيقة لإراءة آيات شواهد الحق، و إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 433

(سورة ألم السجدة)

(حروفها ألف و خمسمائة و ثمانية عشر كلماتها ثلاثمائة و ثمانون آياتها ثلاثون مكية إلا قوله‏ أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى ثلاث آيات)

[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 30]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)

وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى‏ نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)

وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 434

القراآت:

خَلَقَهُ‏ بفتح اللام: عاصم و حمزة و علي و خلف و نافع و سهل. الآخرون:

بالسكون على البدل من كل شي‏ء. و على الأول يكون وصفا له‏ أَ إِذا أَ إِنَّا كما في «الرعد» ما أُخْفِيَ‏ بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم: حمزة. الباقون: بفتحها على أنه فعل ماض مجهول‏ لَمَّا صَبَرُوا بكسر اللام و تخفيف الميم: حمزة و علي و رويس. الباقون: بفتح اللام و تشديد الميم أ و لم نهد بالنون: يزيد عن يعقوب.

الوقوف:

الم‏ ه كوفي‏ الْعالَمِينَ‏ ه ط لأن «أم» استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة افْتَراهُ‏ ج لعطف الجملتين المختلفتين‏ يَهْتَدُونَ‏ ه‏ الْعَرْشِ‏ ط شَفِيعٍ‏ ه‏ تَتَذَكَّرُونَ‏ ه ط تَعُدُّونَ‏ ه‏ الرَّحِيمُ‏ ط مِنْ طِينٍ‏ ه ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مَهِينٍ‏ ه ج لذلك‏ وَ الْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ‏ ه‏ جَدِيدٍ ه‏ كافِرُونَ‏ ه‏ تُرْجَعُونَ‏ ه‏ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ ط لحق القول المحذوف‏ مُوقِنُونَ‏ ه‏ أَجْمَعِينَ‏ ه‏ هذا ج للابتداء بان مع تكرار وَ ذُوقُوا تَعْمَلُونَ‏ ه‏ لا يَسْتَكْبِرُونَ‏ ه‏ وَ طَمَعاً ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول‏ يُنْفِقُونَ‏ ه‏ أَعْيُنٍ‏ ج لأن‏ جَزاءً يحتمل أن يكون مفعولا له و أن يكون مصدرا لفعل محذوف‏ يَعْمَلُونَ‏ ه‏ فاسِقاً ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار لا يَسْتَوُونَ‏ ه‏ الْمَأْوى‏ ز لمثل ما مر في‏ جَزاءً يَعْمَلُونَ‏ ه‏ النَّارُ ط تُكَذِّبُونَ‏ ه‏ يَرْجِعُونَ‏ ه‏ عَنْها ط مُنْتَقِمُونَ‏ ه‏ إِسْرائِيلَ‏ ه ج و إن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول و هو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية صَبَرُوا ط لمن شدد

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 435

يُوقِنُونَ‏ ه‏ يَخْتَلِفُونَ‏ ه‏ مَساكِنِهِمْ‏ ط لَآياتٍ‏ ط يَسْمَعُونَ‏ ه‏ وَ أَنْفُسُهُمْ‏ ط يُبْصِرُونَ‏ ه‏ صادِقِينَ‏ ه‏ يُنْظَرُونَ‏ ه‏ مُنْتَظِرُونَ‏ ه.

التفسير:

لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحدانية و دلائل الحشر و هما الطرفان، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط و هو الرسالة المصححة ببرهان القرآن. و إعرابه قريب من قوله‏ الم ذلِكَ الْكِتابُ‏ [البقرة: 1- 2] و ميل جار اللّه إلى قوله‏ تَنْزِيلُ الْكِتابِ‏ مبتدأ خبره‏ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و لا ريب فيه اعتراض لا محل له و الضمير في‏ فِيهِ‏ راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلا من عنده. و يمكن أن يقال: في وجه النظم لما عرّف في أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى و رحمة قال هاهنا: إنه من رب العالمين، و ذلك أن من عثر على كتاب سأل أولا أنه في أي علم. فإذا قيل: إنه في الفقه أو التفسير.

سأل: إنه تصنيف أي شخص؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة إلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته. ثم أضرب عما ذكر قائلا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ‏ و هو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر. ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. و معنى‏ لِتُنْذِرَ قَوْماً قد مر في «القصص» و يندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد صلى اللّه عليه و سلم، و لو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله‏ وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏ [الشعراء: 214] و حين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال‏ اللَّهُ‏ مبتدأ خبره ما يتلوه و قد مر نظائره. و قوله‏ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ‏ إثبات للولاية و الشفاعة أي النصرة من عنده و نفي لهما من غيره، و فيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعمين أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو اللّه سبحانه. و لما بين الخلق شرع في الأمر فقال‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي المأمور به من الطاعات و الأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ذلك العمل في يوم طويل، و هو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود و لا يقوى على العروج إلا العمل الخالص، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ‏ أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام اللّه و هو ألف سنة، ثم يصعد إليه مكتوبا في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم إلخ. ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله و هلم جرا. أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي. ورده مع جبرائيل أيضا و تقدير الزمان بألف سنة لأن ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام و أن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا. و قيل: إنه إشارة إلى نفوذ الأمر، فإن نفاذ الأمر كلما

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 436

كان في مدة أكثر كان حاله أعلى أي يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة منه، فكم يكون شهر منه و كم يكون سنة منه و كم يكون دهر منه؟ فلا فرق على هذا بين ألف سنة و بين خمسين ألف سنة كما في «المعارج». و قيل: إن هذه عبارة عن الشدة و استطالة أهلها إياها كالعادة في استطالة أيام الشدة و الحزن و استقصار أيام الراحة و السرور. و خصت السورة بقوله‏ أَلْفَ سَنَةٍ موافقة لما قبله و هو قوله‏ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏ و تلك الأيام من جنس هذا اليوم. و خصت سورة المعارج بقوله‏ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الآية: 4] لأن فيها ذكر القيامة و أهوالها فكان هو اللائق بها. و عن عكرمة: إن اليوم في المعارج عبارة عن أول أيام الدنيا إلى انقضائها و أنها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم كم مضى و كم بقي إلا اللّه عز و جل.

و بالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق و سعة مكانه، و الآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر و امتداد زمانه. ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه و ملكوته عليم بأمر العالمين فقال‏ ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ و في قوله‏ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏ إشارة إلى صفتي القهر و اللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك، و إنما أخر الرَّحِيمُ‏ مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ‏ نظيره‏ الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ‏ [طه:

50] و قد مر في «طه». و عطف عليه تخصيصا بعد تعميم خلق الإنسان و هو آدم بدليل قوله‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ‏ أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل، و السلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول «المؤمنين»، و قوله‏ مِنْ ماءٍ بدل من سلالة و المهين الحقير. و معنى‏ سَوَّاهُ‏ قوّمه و أداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله‏ وَ جَعَلَ لَكُمُ‏ تنبيها على جسامة نعم هذه الجوارح و توبيخا على قلة الشكر عليها. ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى و ليست الثانية بأصعب منها.

و الواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا: إن محمدا مفتر و قالوا: اللّه ليس بواحد وَ قالُوا أَ إِذا يعني أنهم و أسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن.

و معنى‏ ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ‏ غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء و تلاشيها. و العامل في‏ أَ إِذا ما يدل عليه قوله‏ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و هو نبعث أو يجدد خلقنا. ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق و اللقاء لقاء الجزاء الشامل لجميع أحوال الآخرة. ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح ثم يرجعون إلى حكم اللّه وحده. ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله‏ وَ لَوْ تَرى‏ أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ خجلا و ندامة قائلين‏ رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنا شاكين في وقوعه‏ وَ سَمِعْنا منك تصديق رسلك و جواب «لو» محذوف‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏5، ص: 437

و هو لرأيت أمرا فظيعا، و جوزوا أن يكون «لو» للتمني كأنه جعل لنبيه تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الذل و الهوان ليشمت بهم. ثم إنه سبحانه ألزمهم و ألجمهم بقوله‏ وَ لَوْ شِئْنا الآية. و فيه أنه لو ردهم إلى الدنيا لم يهتدوا لأنهم خلقوا لجهنم القهر و قد مر نظيره في آخر «هود». ثم أكد إهانتهم بقوله‏ فَذُوقُوا و انتصب‏ هذا على أنه مفعول‏ فَذُوقُوا و قوله‏ لِقاءَ مفعول‏ نَسِيتُمْ‏ أي ذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم و ذهلتم عنه بعد وضوح الدلائل أو تركتم الفكر فيه، و يجوز أن يكون‏ هذا صفة يَوْمِكُمْ‏ و مفعول‏ ذُوقُوا محذوف و هو العذاب و لِقاءَ مفعول‏ نَسِيتُمْ‏ أو هو مفعول‏ فَذُوقُوا على حذف المضاف أي تبعة لقاء يومكم و يكون‏ نَسِيتُمْ‏ متروك المفعول أو محذوفه و هو الفكر في العاقبة. و قوله‏ إِنَّا نَسِيناكُمْ‏ من باب المقابلة و المراد تركهم من الرحمة نظيره‏ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏ [التوبة: 67] و قوله‏ عَذابَ الْخُلْدِ من باب إضافة الموصوف إلى الصفة في الظاهر نحو: رجل صدق. أمرهم على سبيل الإهانة بذوق عذاب الخزي و الخجل، ثم بذوق العذاب الخلد أعاذنا اللّه منه بفضله العميم، ثم ذكر أن كما الإيمان بآيات اللّه من شأن الخلص من عباده الساجدين للّه شكرا و تواضعا حين وعظوا بآيات ربهم منزهين له عما لا يليق بجنابه و جلاله متلبسين بحمده غير مستكبرين عن عبادته‏ تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ‏ ترتفع و تتنحى عن مواضع النوم داعين ربهم أو عابدين له‏ خَوْفاً من أليم عقابه‏ وَ طَمَعاً في عظيم ثوابه،

و فسره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقيام الليل و هو التهجد. قال: «إذا جمع اللّه الأولين و الآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون و هم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون اللّه في البأساء و الضراء فيقومون و هم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس.» «1»

عن علي رضي اللّه عنه: جنبي تجافى عن الوساد* خوفا من النار و المعاد من خاف من سكرة المنايا* لم يدر ما لذة الرقاد قد بلغ الزرع منتهاه* لا بد للزرع من حصاد

عن أنس بن مالك: كان أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم. و قيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها.

صفحه بعد