کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 479

(سورة الطارق)

(مكية حروفها مائتان و أحد و تسعون كلمها اثنتان و سبعون)

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)

فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10) وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

القراآت:

لَمَّا بالتشديد: ابن عامر و عاصم و حمزة و يزيد.

الوقوف‏

الطَّارِقِ‏ ه لا الطَّارِقُ‏ ه ك‏ الثَّاقِبُ‏ ه ك‏ حافِظٌ ه ط مِمَّ خُلِقَ‏ ه ط للفصل بين الاستخبار و الإخبار. دافِقٍ‏ ه لا وَ التَّرائِبِ‏ ه ط لَقادِرٌ ه ك بناء على أن الظرف مفعول «اذكر» و من جعل‏ يَوْمَ‏ ظرفا للرجع و هو أولى لم يقف.

السَّرائِرُ ه لا وَ لا ناصِرٍ ه ط الرَّجْعِ‏ ه‏ الصَّدْعِ‏ ه ك‏ فَصْلٌ‏ ه ك‏ بِالْهَزْلِ‏ ه ط كَيْداً ه لا كَيْداً ج ه‏ رُوَيْداً ه.

التفسير:

إنه سبحانه أكثر في كتابه الكريم الأقسام بالسماويات لأن أحوالها في مطالعها و مغاربها و مسيراتها عجيبة. أما الطارق فهو كل ما ينزل بالليل و لهذا جاء في الحديث التعوّذ من طوارق الليل. و ذكر طروق الخيال في أشعار العرب كثير لأن تلك الحالة تحصل في الأغلب ليلا، و

قد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يأتي الرجل أهله طروقا.

إنه تعالى بين أنه أراد بالطارق في الآية النَّجْمُ الثَّاقِبُ‏ أي هو طارق عظيم الشأن رفيع القدر و هو جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البحر و البر. قال علماء اللغة: سمي ثاقبا لأنه يثقب الظلام بضوئه كما سمي دريا لأنه يدرأوه أي يدفعه، أو لأنه يطلع من المشرق نافذا في الهواء كالشي‏ء الذي يثقب الشي‏ء، أو لأنه إذا رمي به الشيطان ثقبه أي نفذ فيه و أحرقه. و قد خصه‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 480

بعضهم بزحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات. و قال ابن زيد: هو الثريا. و

روي‏ أن أبا طالب أتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فأتحفه بخبز و لبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ما ثم نورا ففزع أبو طالب و قال: أي شي‏ء هذا؟ فقال صلى اللّه عليه و سلم: هذا نجم رمي به و هو آية من آيات اللّه فعجب أبو طالب و نزلت السورة.

من قرأ لَمَّا مشدّدة بمعنى «إلا» ف «إن» نافية. و من قرأها مخففة على أن «ما» صلة كالتي في قوله‏ فَبِما رَحْمَةٍ [آل عمران: 159] ف «إن» مخففة من المثقلة. و الآية على التقديرين جواب القسم. و الحافظ هو اللّه أو الملك الذي يحصي أعمال العباد كقوله‏ وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ‏ [الانفطار: 10] أو الذي يحفظ الإنسان من المكاره حتى يسلمه إلى القبر. و

عن النبي صلى اللّه عليه و سلم‏ «و كل بالمؤمن مائة و ستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب و لو و كل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين»

أو الذي يحفظ عليه رزقه و أجله حتى يستوفيهما. و حين ذكر أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في مبدئه و معاده. و الدفق صب فيه دفع، و لا شك أن الصب فعل الشخص فهو من الإسناد المجازي أو على النسبة أي ماء ذي دفق كما مر في‏ عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] و معنى خروجه من بين الصلب و الترائب أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن، و الذي ينفصل من اليدين و من الدماغ يمر عليهما أيضا.

و طالما أعطى للأكثر حكم الكل و هذا المعنى يشمل ماء الرجل و ماء المرأة، و يحتمل أن يقال: أريد به ماء الرجل فقط إما بناء على حكم التغليب و إما بناء على مذهب من لا يرى للمرأة ماء و لا سيما دافقا. و ذهب جم غفير إلى أن الذي يخرج من بين الصلب و مادّته من النخاع الآتي من الدماغ هو ماء الرجل، و الذي يخرج من الترائب و هي عظام الصدر الواحدة تربية هو ماء المرأة. و إنما لم يقل من ماءين لاختلاطهما في الرحم و اتحادهما عند ابتداء خلق الجنين. و قد يقال: العظم و العصب من ماء الرجل، و اللحم و الدم من ماء المرأة، و قد ورد في الخبر أن أيّ الماءين علا و غلب فإن الشبه يكون منه. ثم بين قدرته على الإعادة بقوله‏ إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ‏ أي على إعادة الإنسان‏ لَقادِرٌ يعني بعد ثبوت قدرته على تكوين الإنسان ابتداء من نطفة حقيرة وجب الحكم بأنه قادر على رجعه. و عن مجاهد أن الضمير في‏ رَجْعِهِ‏ يعود إلى الماء و المراد إنه قادر على ردّ الماء إلى الإحليل. و قيل: إلى الصلب و الترائب و هذا قول عكرمة و الضحاك. و قال مقاتل بن حيان: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، و من الشباب إلى الصبا، و من الصبا إلى النطفة. و القول هو الأول بدليل قوله‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي يمتحن ما أسر في القلوب من العقائد و النيات و ما أخفى من الأعمال الحسنة أو القبيحة، و حقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف و الإظهار كقوله‏ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ‏ [محمد: 31] و يحتمل أن يعود البلاء إلى المكلف كقوله‏ هُنالِكَ تَبْلُوا

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 481

كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ‏ [يونس: 30] و مثله قول ابن عمر: يبدي اللّه يوم القيامة كل سرّ منها فيكون زينا في الوجوه و شينا في الوجوه. يعني من أدّاها كان وجهه مشرقا و من ضيعها كان وجهه مغبرا. ثم نفى القوة الذاتية و القوة العرضية الخارجية عن الإنسان يومئذ بقوله‏ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ثم أكد حقية القرآن الذي فيه هذه البيانات الشافية و المواعظ الوافية فقال‏ وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ‏ أي المطر لأن اللّه يرجعه وقتا فوقتا أو على سبيل التفاؤل أو زعما منهم أن السحاب يحمل الماء من البحار ثم يرجعها إليها. و الصدع ما تتصدع عنه الأرض من النبات. و قيل: الرجع الشمس و القمر يرجعان بعد مغيبهما، و الصدع الجبلان بينهما شق و طريق. و الضمير في‏ إِنَّهُ‏ للقرآن و الفصل الفاصل بين الحق و الباطل كما قيل له «فرقان». و قال القفال: أراد إن هذا الذي أخبرتكم به من قدرتي على الرجع كقدرتي على الإبداء قول حق. ثم أكد حقيته بقوله‏ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ‏ لأن البيان الفصل لا يذكر إلا على سبيل الجد و الاهتمام بشأنه و أعلاها أن يكون خاشعا باكيا كقوله‏ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا [مريم: 58] ثم سلى نبيه و حثه على الصبر الجميل فقال‏ إِنَّهُمْ‏ يعنى أشراف مكة يَكِيدُونَ كَيْداً في إطفاء نور الحق و ذلك بإلقاء الشبهات و الطعن في النبوّة و التشاور في قتل النبي صلى اللّه عليه و سلم كقوله‏ وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:

30] وَ أَكِيدُ كَيْداً سمي جزاء الكيد بالاستدراج و الإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدّة العذاب كيدا. ثم أنتج من ذلك قوله‏ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ‏ أي لا تدع بهلاكهم و لا تستعجل به. ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة و وصف الإمهال بقوله‏ رُوَيْداً أي سهلا يسيرا.

و التركيب يدل على الرفق و التأني و منه قولهم في باب أسماء الأفعال «رويد زيدا» أي أروده إروادا و أرفق به فكأنه سبحانه قال: مهل مهل مهل ثلاث مرات بثلاث عبارات و هذه نهاية الإعجاز. و أجل الإمهال يوم بدر أو يوم القيامة و هذا أولى ليعم التحذير عن مثل سيرتهم و يتم الترغيب في خلاف طريقهم و اللّه المستعان على ما تصفون.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 482

(سورة الأعلى)

(و هي مكية حروفها مائتان واحد و تسعون كلمها اثنتان و سبعون آياتها تسع عشرة)

[سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ (4)

فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ (9)

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى‏ (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ (19)

القراآت:

فَسَوَّى‏ و جميع آياتها مثل «طه» و كذلك في سورة و «الشمس» و «الليل» و «الضحى» و «اقرأ باسم ربك» من قوله‏ أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ إلى آخر السورة. قدر بالتخفيف: علي بل يؤثرون على الغيبة: قتيبة و أبو عمرو و يعقوب.

الوقوف:

الْأَعْلَى‏ ه لا فَسَوَّى‏ ه ص‏ فَهَدى‏ ه ك‏ الْمَرْعى‏ ه ك‏ أَحْوى‏ ه ط فَلا تَنْسى‏ ه لا اللَّهُ‏ ط يَخْفى‏ ج ه للعدول. و قيل: قوله‏ وَ نُيَسِّرُكَ‏ معطوف على‏ سَنُقْرِئُكَ‏ و قوله‏ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ اعتراض فلا وقف‏ لِلْيُسْرى‏ ه ك و الوصل أليق‏ الذِّكْرى‏ ه ج‏ يَخْشى‏ ه لا الْأَشْقَى‏ ه لا الْكُبْرى‏ ج ه لأن «ثم» لترتيب الأخبار وَ لا يَحْيى‏ ه ط لأن ما بعده مستأنف‏ تَزَكَّى‏ ه لا فَصَلَّى‏ ه ط لأن «بل» للإضراب‏ الدُّنْيا ه بناء على أن الواو للاستئناف أو الحال أوجه‏ وَ أَبْقى‏ ه ط الْأُولى‏ ه لا وَ مُوسى‏ ه.

التفسير:

روي‏ أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يحب هذه السورة،

و أكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد و يتعرفون بركتها. و

عن عقبة بن عامر أنه قال: لما نزل قوله‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏ [الواقعة: 74] قال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: اجعلوها في ركوعكم. و لما نزل قوله‏ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏ قال: اجعلوها في سجودكم.

و من الناس من تمسك بالآية في أن الاسم نفس‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 483

المسمى لأن التسبيح أي التنزيه إنما يكون للمسمى لا للاسم. و أجاب المحققون عنه بأن الاسم صلة كقوله: «ثم اسم السلام عليكما». سلمنا أنه غير صلة و لكن تسبيح اسمه تنزيهه عما لا يليق معناه بذاته تعالى أو صفاته أو بأفعاله أو بأحكامه، فإن العقائد الباطلة و المذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه، و من جملة ذلك أن يصان اسمه عن الابتذال و الذكر لا على وجه الخشوع و التعظيم، و أن لا يسمى غيره بأسمائه الحسنى، و أن لا يطلق عليه من الأسامي إلا ما ورد به الإذن الشرعي. قال بعض العلماء: لعل الذين نقل عنهم أن الاسم نفس المسمى أرادوا به أن الاسم الذي حدّوه بأنه ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان هو نفس مدلول هذا الحد. قال الفراء: لا فرق بين‏ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ‏ و بين «سبح باسم ربك». و اعترض عليه بأن الفرق هو أن الأول معناه نزه الاسم من السوء، و الثاني معناه سبح اللّه أي نزهه بسبب ذكر أسمائه العظام، أو متلبسا بذكره إلا أن تجعل الباء صلة في الثاني نحو وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ‏ [البقرة: 195] أو مضمرة في الأول مثل‏ وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ‏ [الأعراف: 155] أي من قومه. نعم لو زعم الفراء أن المعنيين متلازمان جاز. و من الملاحدة من طعن في القرآن بأنه يقتضي أن يكون للعالم ربان أحدهما عظيم و هو في قوله‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏ [الواقعة: 96] و الآخر أعلى منه و هو سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏ و الجواب أنه عظيم في نفسه و أعلى و أجل من جميع الممكنات، و الصفة كاشفة لا مميزة و نظيره وصفه بالكبير تارة و بالأكبر أخرى. و المراد بالعظم و العلو عظم الشرف و علو القدر فلا استدلال فيه للمشبهة. ثم شرع في بعض أوصافه الكمالية فقال‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏ و قد مر نظيره في «الانفطار» أي خلق الإنسان فجعله منتصب القامة في أحسن تقويم، أو خلق كل حيوان بل كل ممكن فجعله مستعدّا للكمال اللائق بحاله.

وَ الَّذِي قَدَّرَ لكل مخلوق ما يصلح له فهداه إليه و عرّفه وجه الانتفاع به كما يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت و قد ألهمها اللّه أن تمسح العين بورق الرازيانج الرطب فتطلبه إلى أن تجده فيعود بصرها، و إلهامات البهائم و الطيور مشروحة مكتوبة في كتب العجائب. و قال الحكيم: كل مزاج فإنه مستعدّ لقوة خاصة، و كل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين فالتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمية، و تركيبها على وجه خاص لأجله يستعدّ لقبول تلك القوى، و الهداية عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوّة مصدرا لفعل معين، و يحصل من مجموعها إتمام المصلحة. و قد خصه بعض المفسرين فقال مقاتل: هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها. و قال غيره: هداه لمعيشته و مرعاه. و قيل: هداه لسبيل الخير و الشر. و قال السدّي: قدر مدة مكث الجنين في الرحم‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 484

ثم هداه للخروج. و قال الفراء: قدّر فهدى و أضل فاكتفى بذكر أحدهما كقوله‏ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] و قيل: الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان أي قدّر دعاء الكل إلى الإيمان فدعاهم إليه كقوله‏ وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ [الشورى: 52] و قيل: دلهم بأفعاله على توحيده و كبريائه «ففي كل شي‏ء له آية تدل على أنه واحد» و من جملة ذلك إخراج المرعى و هو الكلأ الأخضر، ثم جعله غثاء و هو ما يبس من النبات فحملته الأهوية و طيرته الرياح. و الظاهر أن أحوى صفة للغثاء. و الحوّة السواد، فالعشب إذا يبس و استولى البرد عليه جعل يضرب إلى السواد، و قد يحتمله السيل فيلصق به أجزاء كدرة. و قال الفراء و أبو عبيدة: الأحوى هو الأسود لشدّة خضرته و على هذا يكون حالا من ضمير الْمَرْعى‏ أي صيره في حال حوّته غثاء. و قال جار اللّه: هو حال من‏ الْمَرْعى‏ أي أخرجه أسود من الخضرة و الري فجعله غثاء و حين أمره بالتسبيح بشره و شرفه بإيتاء آية باهرة و هي أن يقرأ عليه جبرائيل ما يقرأ من الوحي الذي هو أشرف أنواع الذكر فيحفظه لا ينساه إلا ما شاء اللّه أن ينساه و هو أحد طريقي النسخ.

فقال مجاهد و مقاتل و الكلبي: كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه القرآن كثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى فقيل له: لا تعجل بالقراءة فإن جبرائيل مأمور بأن يكرر عليك إلى أن تحفظه‏

نظيره‏ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏ [طه: 114] و على هذا يجوز أن يراد بالتعليم و الإقراء شرح الصدر و تقوية الحفظ بحيث يبقى القرآن محفوظا له من غير دراسة، و مع أنه أمي فيكون إعجازا. و عن بعضهم أن قوله‏ فَلا تَنْسى‏ نهي لا خبر، و الألف مزيدة للفاصلة نحو الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] و السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] و ضعف بأن الزيادة خلاف الأصل فلا يصار إليها إلا لدليل ظاهر. و أما إذا جعلناه خبرا كان معنى الآية البشارة بأنا جعلناك بحيث لا تنسى، و إن جعلناه نهيا كان أمرا بالمواظبة على الأسباب المانعة من النسيان و هي الدراسة و القراءة و البحث فلا يكون من البشارة في شي‏ء. و أيضا النسيان لا يتعلق بقدرة العبد فيلزم أن يحمل النهي عنه على الأمر بالأسباب المانعة منه و هو خلاف الظاهر، أما الاستثناء ففيه قولان: الأول أنه ليس على حقيقته، فقد روي عن الكلبي أنه صلى اللّه عليه و سلم لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئا. و على هذا فالمقصود من الاستثناء إما نفي النسيان رأسا كما تستعمل القلة في معنى العدم، و إما التبرك بذكر هذه الكلمة و تعليم العباد أن لا يتركوها في كل ما يخبرون عنه، و فيه أنه تعالى قادر على إنسائه إلا أنه لا ينسيه بفضله و إحسانه، و فيه لطف للنبي صلى اللّه عليه و سلم أن يكون متيقظا مبالغا دراسة ما ينزل عليه من الوحي قليلا كان أو كثيرا، فإن كل جزء من أجزائه يحتمل أن يكون هو المستثنى. الثاني أنه حقيقة. ثم حمله مقاتل على النسخ كما مر. و قال الزجاج: أراد إلا أن يشاء اللّه فتنساه ثم تذكره بعد النسيان كما

روي‏ أنه أسقط في‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 485

قراءته آية في الصلاة فحسب أبيّ أنها نسخت فسأله فقال: نسيتها.

و قيل: أريد القلة و الندرة لا في الواجبات فإنه يورث الخلل في الشرع و لكن في غيرها. ثم علل حسن النسخ بقوله‏ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ و إذا كان كذلك كان وضع الحكم و رفعه واقعا بحسب مصالح المكلفين. و قيل: أراد أنك تجهر بقراءتك مع قراءة جبرائيل مخافة النسيان و اللّه يعلم ما في نفسك من الحرص على تحفظ الوحي، فلا تفعل فأنا أكفيك ما تخافه. ثم بشره ببشارة أخرى و هو تيسيره أي توفيقه للطريقة التي هي أيسر و هي حفظ القرآن و الشريعة السهلة السمحة. و عن ابن مسعود: هي الجنة يعني العمل المؤدي إليها. و العبارة المشهورة أن يقال: جعل الفعل الفلاني ميسرا لفلان و إنما عكس الترتيب في الآية لدقيقة هي أن الفاعل ما لم يوجد فيه قابلية لصدور الفعل عنه امتنع حصوله منه و هذا معنى‏

قوله صلى اللّه عليه و سلم‏ «كل ميسر لما خلق له».

و في الآية دلالة على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب قبول الفيض ما لم يفتحه على غيره حتى صار يتيم أبي طالب قدوة للعالمين و هاديا للخلائق أجمعين كما قال‏ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ و إن لم تنفع فحذفت إحدى القرينتين للعلم بها كقوله‏ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] و هو بناء على الأغلب فإن التذكير إنما يكون غالبا إذا كان رجاء التذكر حاصلا كقوله‏ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور: 33] و فيه حث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق: قد أوضحت لك إن كنت تسمع و تقبل، و يكون مراده البعث على السماع و القبول. أو تنبيه للنبي صلى اللّه عليه و سلم على أن الذكرى لا تنفعهم كما يقال للرجل: أدع فلانا إن أجابك. و المعنى ما أراه يجيبك. و وجه آخر و هو أن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر. و أما التكرير فالضابط فيه هو العرف فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا أردفه بالشرط. قيل: التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلا بعواقب الأمور. و الجواب أن أمر الدعوة و البعثة مبنيّ على الظواهر لا على الخفيات. و روي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى‏ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ [طه: 44] و أنا أشهد أنه لا يتذكر أو يخشى. و إنما سمى الوعظ بالتذكير لأن حسن هذا الدين مركوز في العقول‏ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] فكأن هذا العلم كان حاصلا في نفسه بالقوّة ثم زال عنها بالعوائق و الغواشي، و عند بعض العقلاء أن النفوس قبل تعلقها بالأبدان عالمة بما لها أن تعلم إلا أنها نسيتها لاشتغالها بتدبير البدن، و من هنا قال أفلاطون: لست أعلمكم ما كنتم تجهلون و لكن أذكركم ما كنتم تعلمون. ثم إنه تعالى بين أن المنتفع بالتذكير من هو فقال‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ قال في التفسير الكبير:

صفحه بعد