کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 581

(سورة الكافرون)

(مكية حروفها أربعة و تسعون كلمها ست و عشرون آياتها ست)

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

القراآت‏

عابِدُونَ‏ و ما بعده بالإمالة قتيبة و الحلواني عن هشام و لي الدين بالفتح: نافع غير إسماعيل و حفص و المفضل و هشام و زمعة عن ابن كثير و ديني بالإسكان في الحالين: يعقوب و أفق سهل و عباس في الوصل.

الوقوف:

الْكافِرُونَ‏ ه لا ما تَعْبُدُونَ‏ ه لا أَعْبُدُ ه ج للتكرار مع العطف‏ عَبَدْتُّمْ‏ ه لا أَعْبُدُ ه ط دِينِ‏ ه.

التفسير:

هذه السورة تسمى أيضا سورة المنابذة و سورة الإخلاص و المقشقشة. و

روي‏ «من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن» «1»

فأوّلها العلماء بأن القرآن فيه مأمورات و منهيات، و كل منهما إمّا أن يتعلق بالقلب و الجوارح، و إما أن يتعلق بالجوارح، و هذه السورة تتضمن القسم الثالث أعني النهي المتعلق بالقلب فكانت ربعا لما يتعلق بالتكاليف من القرآن بل ربعا للقرآن لأن المقصود الأصلي من المواعظ و القصص و غيرها هو التزام التكاليف كما قال سبحانه‏ وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏ [الذاريات: 56]

يروى‏ أن الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن عبد المطلب و أمية بن خلف قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

تعال حتى نعبد إلهك مدّة و تعبد إلهنا مدّة فيحصل الصلح بيننا و بينك و تزول العداوة من بيننا، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا، و إن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا فنزلت هذه السورة و نزل قوله‏ قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ‏ [الزمر: 64]

فتارة وصفهم بالجهل و تارة خاطبهم بالكفر، فالجهل كالشجرة و الكفر كالثمرة، و لكن الكفر أشنع من‏

(1) رواه أحمد في مسنده (3/ 147، 221).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 582

الجهل، فقد يكون الجهل غير ضارّ كما

روي أنه صلى اللّه عليه و سلم قال في علم الأنساب‏ «علم لا ينفع و لا يضر»

و لهذا خصت السورة بهذا الخطاب لأنها بأسرها فيهم. و

روي عن علي عليه السلام‏ أن «يا» نداء النفس و «أي» نداء القلب و «ها» نداء الروح. و بوجه آخر «يا» للغائب و «أي» للحاضر و «ها» للتنبيه.

كان اللّه تعالى يقول أدعوك ثلاثا و لا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك بحقي. ثم الخطاب مع جميع الكفار أو مع بعضهم، و على الأول يدخله التخصيص لا محالة لأن فيهم من يعبد اللّه كأهل الكتاب فلا يجوز أن يقول لهم‏ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ‏ و فيهم من آمن بعد ذلك فلا يجوز أن يخبر عنهم بقوله‏ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ و على الثاني يكون خطابا لبعض الكفرة المعهودين الحاضرين و هو الذين قالوا نعبد إلهك سنة و تعبد إلهنا سنة، و لا يلزم التخصيص فيكون أولى. أما ظاهر التكرار الذي وقع في هذه السورة ففيه قولان: أحدهما أنه للتأكيد و أىّ موضع أحوج إلى التأكيد من هذا المقام فإنهم رجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم فيما طلبوا منه مرارا، و سكت الرسول صلى اللّه عليه و سلم عن الجواب فوقع في قلوبهم أنه قد مال إلى دينهم بعض الميل. و

روي‏ أنهم ذكروا قولهم تعبد إلهنا مدة و نعبد إلهك مدة مرتين،

فأجيبوا مكررا على وفق قولهم و هو نوع من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد قد يجاب عنه بنفيه مكررا للاستخفاف و حسم مادة الطمع. القول الثاني: إن الأول للمستقبل و علامته لا التي هي للاستقبال بدليل أن «لن» نفي للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد. و زعم الخليل أن أصله «لا أن» و الثاني للحال و المعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم و لا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. ثم قال‏ وَ لا أَنا عابِدٌ في الحال‏ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ‏ في الحال بعابدين لمعبودي. و على هذا القول زعم بعضهم أن الأمر بالعكس إذ الترتيب أن ينفى الحال أوّلا ثم الاستقبال، و للأولين أن يجيبوا بأنهم إنما دعوه إلى عبادة غير اللّه في الاستقبال فكان الابتداء به أهم. و فائدة الإخبار عن الحال و كان معلوما أنه ما كان يعبد الصنم و الكفار كانوا يعبدون اللّه في بعض الأحوال هي أن لا يتوهم أحد أنه يعبد غير اللّه سرا خوفا أو طمعا، و عبادة الكفار لم تكن معتدّا بها لأجل الشرك. و لأبي مسلم قول ثالث و هو أن ما في الأولين بمعنى الذي، و أما في الآخرين فمصدرية أي و لا أنا عابد عبادتكم المبنية على الإشراك، و لا أنتم عابدون عبادتي المبنية على اليقين. و وجه رابع و هو أن يحمل الأول على نفي الالتماس الصادر عنهم، و الآخر على النفي المطلق العام المتناول لجميع الجهات كمن يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعم فيقول: لا أظلم لغرض التنعم بل لا أظلم رأسا لا لهذا الغرض و لا لسائر الأغراض. قوله‏ ما تَعْبُدُونَ‏ ليس فيه إشكال إنما الإشكال فى قوله‏ ما أَعْبُدُ

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 583

فأجيب بعد تسليم أن «ما» ليست أعم بأن المراد به الصفة كأنه قيل: لا أعبد الباطل و لكن أعبد الحق، أو هي «ما» المصدرية على نحو ما مر، أو هي للطباق كقوله‏ وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ [الشورى: 40] فإن قيل: لما كان المقام مقام التأكيد و المبالغة و لهذا كرر ما كرر فلم لم يقل «لن أعبد» كما قال أصحاب الكهف لن ندعو من دونه إلها [الكهف: 14] قلت: إن أصحاب الكهف كانوا متهمين بعبادة الأصنام لأنه قد وجد منهم ذلك قبل أن أرشدهم اللّه، و إن محمدا صلى اللّه عليه و سلم لم يكن متهما بذلك قط فلم يحتج إلى المبالغة ب «لن». ثم أوّل السورة لما اشتمل على التشديد البليغ و هو النداء بالكفر و التكرير فاشتمل آخرها على اللطف من بعض الوجوه كأنه قال: قد بالغت في منعكم من هذا الأمر القبيح فإن لم تقبلوا قولي فاتركوني سواء بسواء. قال ابن عباس: لكم كفركم باللّه ولي التوحيد و الإخلاص. و من هنا ذهب بعضهم إلى أن السورة منسوخة بآية القتال. و المحققون على أنه لا نسخ بل المراد التهديد كقوله‏ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ‏ [فصلت: 40] و قيل: الدين الجزاء. و قيل: المضاف محذوف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني. و قيل: الدين العبادة.

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 584

(سورة النصر)

(مدنية و قيل مكية حروفها تسعة و تسعون كلمها تسع و عشرون آياتها ثلاث)

[سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)

الوقوف:

وَ الْفَتْحُ‏ ه‏ أَفْواجاً ه لا وَ اسْتَغْفِرْهُ‏ ط تَوَّاباً ه.

التفسير:

السورة المتقدمة اشتملت على نصرة اللّه بقوله‏ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ‏ [الكافرون: 1] و على فتح مكة القلب بعسكر التوحيد، و على تسخير جميع القوى البدنية في طاعة خالقها بقوّة البراءة عن الأديان الباطلة كلها فقال اللّه سبحانه: نصرتني بلسانك فكان جزاؤه‏ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ‏ فتح مكة في الظاهر و سخرت قواك لطاعتي فجازيناك بدخول الناس في دين اللّه أفواجا. ثم إنه قابل هذه الخلع الثلاث بحكم تهادوا تحابوا بثلاثة أنواع من العبودية إن نصرتك فسبح تنزيها لفعلي عن مشابهة المحدثات و تنبيها على أن لا يستحق أحد عليّ شي‏ء، و إذا فتحت مكة فاحمد لأن النعمة يجب مقابلتها بالحمد، و إذا رأيت الناس قد أطاعوك فاستغفر لذنبك و هو الاشتغال بما عسى أن يقع من لذة الجاه و القبول و للمؤمنين و المؤمنات، لأنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر و كان احتياجهم إلى الاستغفار أشد. و قوله‏ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ‏ معناه لا تذهب إلى النصر بل النصر يجي‏ء إليك نظيره‏

«زويت لي الأرض»

يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجي‏ء الأرض إليك، و لا ترحل إلا إلى مقام قاب قوسين‏ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا، فإذا بقي الفقراء من غير مطية أسوق الجنة إليهم‏ وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] و إنما قال في السورة المتقدّمة ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3] و هاهنا قال‏ نَصْرُ اللَّهِ‏ إشارة إلى أنه يجب أن لا يذكر اسمي مع الأعداء حتى لا يهينوه و لكن اذكر اسمي مع الأحباب حتى يكرموه. و الفرق بين النصر و الفتح أن النصر أي الإعانة على تحصيل المطلوب هو الطريق،

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 585

و الفتح هو المقصود، و لهذا قدم الأول على الثاني. و قيل: النصر كمال الدين و الفتح الإقبال الدنيوي له و لأمته كقوله‏ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏ [المائدة: 3] و قيل: النصر هو الظفر على المنى في الدنيا و الفتح في الآخرة وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر:

73] و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبدا منصورا بالدلائل و المعجزات إلا أن الغلبة على قريش بل على أكثر العرب لما حصلت في هذا التاريخ صح التقييد به. ثم إن جمهور المفسرين و منهم ابن عباس ذكروا أن الفتح هو فتح مكة الذي يقال له فتح الفتوح. يروى أن فتح مكة كان سنة ثمان و نزول السورة سنة عشر و لم يعش رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد نزولها إلا سبعين يوما و لذلك تسمى سورة التوديع، و قد اتفق أكثر الصحابة على أنها دلت على نعي الرسول صلى اللّه عليه و سلم و فهمه بعض الصحابة منها،

و خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد نزولها فقال: إن عبدا خيرّه اللّه بين الدنيا و بين لقائه في الآخرة فاختار لقاء اللّه.

قالوا: و مما يدل عليه أنه ذكر مقرونا بالنصرة و قد كان يجد النصر دون الفتح كبدر، و الفتح دون النصر كإجلاء بني النضير فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم. أما يوم فتح مكة فاجتمع له الأمران، و صار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم و ذلك‏

أنه صلى اللّه عليه و سلم وقف على باب المسجد و قال: لا إله إلا اللّه وحده صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خير، أخ كريم و ابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

فسموا بذلك. و قيل: فتح خيبر. و قيل: فتح الطائف. و عن أبي مسلم: النصر على الكفار و فتح بلاد الشرك على الإطلاق. و قيل:

انشراح الصدر للخيرات و الأعمال الفاضلة، و الفتح انفتاح أبواب المعارف و الكشوف. أما الذين قالوا إن الفتح فتح مكة و كان نزول السورة قبله على ما يدل عليه ظاهر صيغة إذا فالآية من جملة المعجزات لأنها إخبار بالغيب و قد وقع. و اللام في الفتح بدل من الإضافة كأنه قيل: و فتح اللّه. قوله‏ وَ رَأَيْتَ‏ ظاهره أنها رؤية القلب، و جوز أن تكون رؤية البصر فيكون‏ يَدْخُلُونَ‏ حالا. و ظاهر لفظ الناس يقتضي العموم فيجب أن يقدر غيرهم كالنسناس بدليل قوله‏ أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ‏ [الأعراف: 179]

و سئل الحسن بن عليّ فقال: نحن الناس و أشياعنا أشباه الناس و أعداؤنا النسناس، فقبّله عليّ بين عينيه و قال‏ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ‏ [الأنعام: 124]

قيل: إنهم لما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة و تقصير كثير فكيف استحقوا المدح بأنهم الناس؟ و أجيب بأنه إشارة إلى سعة رحمة اللّه فإن العبد بعد أن أتى بالكفر و المعصية سبعين سنة فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره قبل إيمانه كأن الرب تعالى يقول: ربيته سبعين سنة فإن مات على كفره وقع في النار و ضاع إحساني إليه في سبعين سنة. و

يروى‏ أن الملائكة تقول لمثل هذا الإنسان: أتيت و إن كنت قد أبيت.

و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 586

«للّه أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد و الظمآن الواردة» «1»

و يجوز أن يكون المراد بالناس أهل اليمن على ما

روي عن أبي هريرة انه لما نزلت السورة قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: اللّه أكبر جاء نصر اللّه و الفتح.

و جاء «أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم»

الإيمان يمان و الفقه يمان و الحكمة يمانية» «2»

و قال‏ «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «3»

قال جمهور الفقهاء و كثير من المتكلمين: إن إيمان المقلد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج و جعله من أعظم المنن على نبيه. ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدلائل و لا صفات الكمال و نعوت الجلال، و كونه سبحانه متصفا بها منزها عن غيرها و لا ثبوت المعجز التام على يد محمد صلى اللّه عليه و سلم و لا وجه دلالة المعجزة على النبوة. و عن الحسن: لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة قالت العرب: لا يدي لنا به فقد ظفر بأهل مكة و قد كان اللّه أجارهم من أصحاب الفيل و كل من أرادهم بسوء فأخذوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال. و لا شك أن هذا القدر مما يفيد غلبة الظن فقط. و الفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا و اثنين اثنين. و

روي‏ أن جابر بن عبد اللّه بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: دخل الناس في دين اللّه أفواجا و سيخرجون منه أفواجا.

ثم إنه أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار فكأنه صلى اللّه عليه و سلم ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال‏ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ‏ [البقرة: 214] فأمر بالتسبيح تنزيها للّه عما لا يليق بكماله و حكمته و عنايته بخلقه، و أمر أن يكون التسبيح مقرونا بالحمد لأن المقام يستدعي تذكير النعمة و هي الفتح و النصر و دخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد و مؤن القتال، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو و يدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال، و كما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق فالاستغفار عكسه و هو التفات عن الخلق إلى الحق. و إنما قهمت الصحابة من السورة نعي النبي صلى اللّه عليه و سلم لأن كل كمال فإنه يدل على زوال كما قيل:

إذا تم أمر يدا نقصه‏

توقع زوالا إذا قيل تم‏

و يمكن أن يقال: إنه أمر بالتسبيح و الحمد و الاستغفار مطلقا. و لا يخفى أن الاشتغال بهذه الأعمال يمنع من الاشتغال بأعباء التبليغ و بأداء ما كان يواظب عليه من رعاية مصالح‏

(1، 2) رواه البخاري في كتاب المغازي باب 74. مسلم في كتاب الإيمان حديث 82، 84، 89. الترمذي في كتاب المناقب باب 71. الدارمي في كتاب المقدمة باب 14. أحمد في مسنده (2/ 235، 252) (3/ 105) (4/ 154).

(3) رواه أحمد في مسنده (2/ 541).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏6، ص: 587

الأمة، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر الرسالة قد تم و كمل بسبب الموت و الإلزام العزل.

روت عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم و بحمدك أستغفرك و أتوب إليك.

و في رواية: كان يكثر أن يقول في ركوعه: سبحانك اللهم و بحمدك اللهم اغفر لي.

و في رواية أخرى‏ كان نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجي‏ء إلا قال: سبحان اللّه و بحمده. فقلت: يا رسول اللّه إنك تكثر من قول «سبحان اللّه و بحمده» قال: إني أمرت بها و قرأ السورة.

و عن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان صلى اللّه عليه و سلم يكثر أن يقول: سبحانك اللهم و بحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم.

و في الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله و أنذره الشيب أقبل على التوبة و الاستغفار و تدارك بعض ما فات في أوان الغفلة و الاغترار و في معنى الباء في قوله‏ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏ وجوه للمفسرين منها: أن المراد قل سبحان اللّه و الحمد للّه تعجبا مما أراك من مقصودك. يقال: شربت اللبن بالعسل أي خلطتهما فشربت المخلوط. و منها أن الباء للآلة أي سبحه بواسطة تحميده لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص، و الدليل عليه أنه صلى اللّه عليه و سلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلا الحمد للّه الذي نصر عبده. و منها أن المراد فسبح متلبسا بالحمدلة لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظا فاجمعهما نية. و قيل: سبحه مقرونا بحمد اللّه على ما هداك إلى تسبيحه كما

روي أنه صلى اللّه عليه و سلم كان يقول: الحمد للّه على الحمد للّه.

و قيل:

صفحه بعد