کتابخانه تفاسیر
تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج1، ص: 55
و اما اضافة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، فمن قبيل اضافة الصفة المشبّهة، الى غير معمولها. كما في «رب العالمين». فتكون حقيقية، لا لفظية. فان اللفظية، اضافتها الى الفاعل. لا غير. فيصح جعله صفة للّه.
و أما اضافة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [فمن قبيل اضافة اسم الفاعل الى الظرف، على سبيل التجويز. و هي أيضا حقيقية. لان المراد به الاستمرار أو الماضي لا الحال أو الاستقبال. و يصح جعل مالكية اليوم مستمرة، مع أن يوم الدين] «1» و ما فيه، ليس مستمرا في جميع الأزمنة، لكونه لتحقق وقوعه و بقائه أبدا، كالمتحقق المستمر كما يصح جعله لتحقق وقوعه. كالماضي. و تخصيص «اليوم»، بالاضافة، اما لتعظيمه أو لتفرده تعالى، بنفوذ الأمر فيه.
و لما دل بلامي التعريف و الاختصاص، على أن جنس الحمد، مختص به، و حق له، أجرى عليه تلك الأوصاف العظام، ليكون حجة قاطعة، على انحصار الحمد فيه، و استحقاقه إياه، فذكر أولا: ما يتعلق بالابداء، من كونه ربّا مالكا للأشياء، كلها، بافاضة الوجود عليها، و أسباب الكمالات لها.
و ثانيا: ما يتعلق بالبقاء، من اسباغه عليها، نعما ظاهرة و باطنة جليلة و دقيقة.
و ثالثا: ما يتعلق بالاعادة من كونه مالكا للأمر، كله، يوم الجزاء. فلا يستأهل غيره أن يحمد فضلا عن أن يعبد.
(و في تفسير علي بن ابراهيم «2» : في الموثق، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام - انه بعد أن شرح الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قال: يوم الحساب.
(1) ليس في أ.
(2) تفسير القمي 1/ 28.
تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج1، ص: 56
و في مجمع البيان «1» : و قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله -: ان اللّه تعالى، منّ عليّ بفاتحة الكتاب- الى قول مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ - قال جبرئيل: ما قاله مسلم الا صدّقه اللّه و أهل سمائه.
و فيه «2» : و قيل: «الدين»: الحساب.
و هو المروي عن أبي جعفر- عليه السلام.
و في أصول الكافي «3» : بإسناده الى الزهري، قال : كان علي بن الحسين- عليهما السلام- إذا قرأ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، يكررها حتى كاد «4» أن يموت.
و في من لا يحضره الفقيه «5» : و فيما ذكره الفضل من العلل، عن الرضا- عليه السلام-، انه قال : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، اقرار له بالبعث [و الحساب] «6» و المجازاة. و إيجاب ملك الاخرة له، كإيجاب ملك الدنيا.
و في شرح الآيات الباهرة: «7» قال الامام الحسن العسكري عليه السلام «8» :
قال، أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه -: يوم الدين، هو يوم الحساب.
سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- يقول: ألا أخبركم بأكيس الكيسين و أحمق الحمقى؟.
قالوا: بلى يا رسول اللّه!
(1) مجمع البيان 1/ 31.
(2) نفس المصدر 1/ 24.
(3) الكافي 2/ 602، ح 13.
(4) النسخ: يكاد، و المتن موافق المصدر.
(5) من لا يحضره الفقيه 1/ 203، ضمن ح 927، عيون الاخبار 2/ 107.
(6) يوجد في المصدر.
(7) ما بين القوسين ليس في أ.
(8) تفسير العسكري 17.
تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج1، ص: 57
قال: أكيس الكيسين، من حاسب نفسه، و عمل لما بعد الموت. و ان أحمق الحمقى، من اتبع نفسه هواها، و تمنى على اللّه تعالى الأماني.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! فكيف يحاسب الرجل نفسه؟
قال: إذا أصبح ثم أمسى، رجع الى نفسه، فقال: يا نفس! ان هذا يوم مضى عليك، لا يعود اليك، أبدا. و اللّه تعالى يسألك عنه «1» ، بما أفنيته و ما الذي عملت فيه. أذكرت اللّه؟ أحمدته «2» ؟ أقضيت «حق أخ» «3» مؤمن؟ أ نفّست عنه كربته؟ أ حفظته بظهر الغيب في أهله و ولده؟ أ حفظته بعد الموت في مخلفيه؟
أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك؟ أ أعنت مسلما؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه. فان ذكر أنه جرى منه خير، حمد اللّه تعالى و شكره «4» ، على توفيقه.
و ان ذكر معصية أو تقصيرا، استغفر اللّه تعالى. و عزم على ترك معاودته. و محى ذلك عن نفسه، بتجديد الصلاة على محمد و آله الطيبين، و عرض بيعة أمير المؤمنين علي- عليه السلام- على نفسه و قبولها «5» لها، و اعادة لعن أعدائه و شانئيه و دافعيه عن حقوقه. فإذا فعل ذلك، قال اللّه- تعالى عز و جل-: لست أناقشك في شيء من الذنوب، مع موالاتك أوليائي و معاداتك أعدائي.
و في تفسير العياشي «6» : عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد اللّه- عليه السلام - أنه كان يقرأ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، عن فرقد.
قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السلام - يقرأ ما لا أحصى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
(1) أ: منه.
(2) المصدر: حمدته.
(3) المصدر و أ: حوائج، و هو الظاهر.
(4) المصدر: كبره.
(5) المصدر: قيوله.
(6) تفسير العياشي 1/ 22. و هي ليس في أ.
تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج1، ص: 58
و في الحديث «1» : إذا قال العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قال اللّه تعالى: أشهدكم كما اعترف بأني مالك يوم الدين، لأسهّلن يوم الحساب، حسابه. و لأثقّلن حسناته.
و لأتجاوزن عن سيّئاته) «2» .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : ذهب الزجاج، الى أن «ايّا»، مظهر مبهم، أضيف الى الشيء بعده، ازالة لابهامه. و كان «إياك» بمعنى، نفسك.
و الخليل، الى أنه مضمر مضاف الى ما بعده. و احتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين، فإياه و أيا الشواب.
ورد بأن الضمير لا يضاف، و ما نقل عن بعض العرب، شاذ. لا يعتمد عليه.
و ابن كيسان و بعض الكوفيّة، الى أن الكاف و أخواته، هي الضمائر التي كانت متصلة. و «أيا» دعامة لها، لتصيّرها منفصلة.
و قوم من الكوفة، الى أن «إياك» بكماله هو الضمير.
و الأخفش، الى أن «أيا» ضمير منفصل، و لواحقه حروف، لا محل لها من الاعراب، تدل على أحوال ما أريد به من الخطاب و التذكير و الافراد و ما يقابلها «3» .
و قرئ «إياك»، بتخفيف الياء. و «أياك»، بفتح الهمزة، و تشديد الياء.
و «هياك» بقلبها هاء.
و «العبادة»، هي أقصى غاية الخضوع و التذلل. و منه. طريق معبد، أي:
مذلل. و ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفاقة. و لذلك لا يستعمل الا في الخضوع للّه.
«و الاستعانة»، طلب المعونة. و هي اما ضرورية، لا يتأتى الفعل بدونه.
(1) عيون الاخبار 1/ 301.
(2) ما بين القوسين مشطوب في المتن و غير موجود في ر.
(3) ر. الكشاف 1/ 13، مجمع البيان 1/ 25.
تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج1، ص: 59
كاقتدار الفاعل و تصوّره و حصول آلة و مادة يفعل بها فيها. و عند استجماعها، يوصف الرجل بالاستطاعة. و يصح أن يكلف بالفعل و غير ضرورية، يسهل الفعل به، كالراحلة في السفر، للقادر على المشي. أو يقرب الفاعل الى الفعل. و يحثّه عليه. و هذا القسم، لا يتوقف عليه، صحة التكليف. هكذا قيل، يقال: استعانه و استعان به، بمعنى. و انما اختبر استعماله بلا واسطة الحرف اشارة الى أن العبد ينبغي أن لا يرى بينه و بين الحق سبحانه، واسطة، في الاستعانة، بأن يقصر نظره عليه، أو يرى الوسائط منه.
و تقديم المفعول، لقصد الاختصاص.
و تكريره، ليكون نصا في اختصاص كل من العبادة و الاستعانة به سبحانه.
و في إيراد «إياك» دون «إياه»، كما هو مقتضى الظاهر، التفات من الغيبة الى الخطاب. و من النكتة الخاصة، في الالتفات من الغيبة الى الخطاب، في هذا المقام، بعد اشتماله على فائدة عامة، من جهة المتكلم، و هي التصرف و الافتنان في وجود الكلام و اظهار القدرة عليها، و من جهة المخاطب، و هي تطرية نشاطه في سماع الكلام، و ايقاظه للإصغاء اليه. أنه لما قيل: «إياك» بدل «إياه»، فقد نزل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة التي أوجب تميزه و انكشافه، حتى صار كأنه تبدل خفاء غيبته، بجلاء حضوره، منزلة المخاطب في التمييز و الظهور.
ثم أطلق عليه، ما هو موضوع للمخاطب. ففي إطلاقه ملاحظة لتلك الأوصاف فصار الحكم، مرتبا على الأوصاف. كأنه قيل: أيها الموصوف المتميز بهذه الأوصاف! نخصك بالعبادة، و الاستعانة.
فيفهم منه، عرفا، أن العبادة و الاستعانة، لتميزه بتلك الصفات.
و منها: التنبيه على أن القراءة، انما يعتد بها، إذا صدرت عن قلب حاضر و تأمل وافر، يجد القارئ، في ابتداء قراءته، محركا. نحو الإقبال على منعمه،
تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج1، ص: 60
الذي أجرى حمده على لسانه. ثم يزداد قوة ذلك المحرك، بحسب اجراء تلك الصفات العظام، حتى إذا آل الأمر الى خاتمتها، أوجب إقباله عليه، و خطابه بحصر العبادة و الاستعانة فيه.
و منها: الاعلام بأن «الحمد» «و الثناء»، ينبغي أن يكون على وجه، يوجب ترقّي الحامد، من حضيض، بعد الحجاب و المغايبة، الى ذروة قرب المشاهدة و المخاطبة.
و منها: الاشارة الى أن العبادة المستطابة و الاستعانة المستجابة، في مقام العبودية، انما يليق بهما، ان تعبد ربك كأنك تراه و تخاطبه.
و منها: الاشارة الى أنه ينبغي أن يكون تالي كلامه سبحانه، بحيث يتجلى له المتكلم فيه، و يصير مشهودا له. فيخاطبه بتخصيص العبادة و الاستعانة به.
كما روي عن الصادق- عليه السلام- «1» ، أنه قال : لقد تجلى اللّه تعالى لعباده «2» في كلامه. و لكن لا يبصرون.
و عنه «3» - أيضا -: انه خرّ مغشيا عليه- و هو في الصلاة- فسئل عن ذلك.
فقال: ما زلت أردد الاية، حتى سمعتها من المتكلم بها.
و الضمير المستكن في الفعلين، للقارئ و من معه، من الحفظة أو حاضري الجماعة، أو له و لسائر الموحدين، أو له، فقط، لاستجماعه القوى و الحواس.
فكان «4» لكل منها عبادة و استعانة. (أو لأن العبادة، وسيلة) «5» .
قيل: أو لوصوله الى مقام الجمع. فيرى العبادات و الاستعانات، كلها،
(1) المحجة البيضاء 2/ 247، نقلا عن أسرار الصلاة، للشهيد/ 204.
(2) المصدر: لخلقه.
(3) بحار الأنوار 84/ 247 ح 39 نقلا عن فلاح السائل.
(4) ر: فكأنه.
(5) ما بين القوسين يوجد في أ.
تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج1، ص: 61
صادرة عنه.
و تقديم العبادة على الاستعانة، لرعاية الفاصلة. أو لأن العبادة، وسيلة الى الاستعانة، ان كان المراد بها الاستعانة على ما عدا العبادة، من المهمات. و لا شك أن تقديم الوسيلة، أدخل في استيجاب الاجابة، و ان كان المراد بها، الاستعانة على العبادة، أو الاستعانة، مطلقا، بحيث يدخل فيه العبادة، أيضا.
فوجه تقديمها ظاهر، أيضا. لأنها مقصودة بالنسبة الى الاستعانة. و ان كان طلب المعونة على الشيء، مقدّما عليه.
و قيل: لا يبعد أن يجعل العبادة، اشارة الى الفناء في اللّه. لأن غاية الخضوع، هي الرجوع الى العدم الأصلي. و الاستعانة، اشارة الى طلب البقاء، بعد الفناء، لتيسر السير في اللّه. و حينئذ وجه التقديم، ظاهر، كما لا يخفى. و فيه ما لا يخفى.
و انما أطلق الاستعانة، و لم يقيدها بكل مستعان فيه و لا ببعض، ليحتمل الكل، و يحمله القارئ على ما يناسب حاله.
«و قرئ «نستعين»، بكسر النون، و هي لغة تميم. فإنهم يكسرون حروف المضارعة، سوى الياء، إذا لم ينضم ما بعدها» «1» .
«و قيل: الواو للحال. و المعنى نعبدك: مستعينين بك» «2» .
فأقول: لما نسب المتكلم العبادة الى نفسه، أو هم ذلك تبجّحا و اعتدادا منه، بما صدر عنه. فعقّبه بقوله: «و إياك نستعين»، ليدل على أن العبادة: أيضا- مما لا يتم و لا يستتب، الا بمعونة اللّه.
(و في من لا يحضره الفقيه «3» : و فيما ذكره الفضل من العلل عن الرضا-
(1) ر. أنوار التنزيل 1/ 9.
(2) نفس المصدر.