کتابخانه روایات شیعه
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود فقال الأكثرون ثلاثون سنة و قال الأقلون أربعون سنة و قال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة و هي ألف الحمل و ألف الثور و ألف الجوزاء ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى و هي ألف السرطان و ألف الأسد و ألف السنبلة.
ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب و خصام بينه و بين أهرمن حتى هلك 314 .
و اختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التي بينه و بين أهرمن فقتله بابن أهرمن و قال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما قهره فيه أهرمن و علاه و أكله 315 .
و ذكروا في كيفية ذلك الصراع أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال و أنه ركبه و جعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن أي الأشياء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه و لم يستمسك فعلاه و سأله عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل فقال من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه فبلغ إلى موضع الخصي و أوعية المني من الصلب فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان 316 في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع و تمت في آخره فتصور منهما بشران ذكر و أنثى و هما ميشى و ميشانه و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليين و يقال لهما أيضا ملهى و ملهيانه و يسميهما مجوس خوارزم مرد و مردانه
و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام و الشراب متنعمين غير متأذيين بشيء إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على التناول من فواكه الأشجار و أكل منها و هما يبصرانه شيخا فعاد شابا فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا و الشرور و ظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا و ولد لهما ولد فأكلاه حرصا ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن كل بطن ذكر و أنثى و أسماؤهم في كتاب أپستا و هو الكتاب الذي جاء به زرادشت معروفة ثم كان في البطن السابع سيامك و فرواك فتزاوجا فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك و هو أوشهنج و هو الذي خلف جده كيومرث و عقد له التاج و جلس على السرير و بنى مدينتي بابل و السوس. فهذا ما يذكره لمجوس في مبدأ الخلق
تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود و يفضله على آدم و هو بشار بن برد المرعث 317 و من الشعر المنسوب إليه
النار مشرقة و الأرض مظلمة
و النار معبودة مذ كانت النار 318 .
و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ 319 أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي قاصا لطيفا و واعظا مفوها و هو من خراسان من مدينة طوس و قدم إلى بغداد و وعظ بها و سلك في وعظه مسلكا منكرا لأنه كان يتعصب لإبليس و يقول إنه سيد الموحدين و قال يوما على المنبر من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق أمر أن يسجد لغير سيده فأبى
و لست بضارع إلا إليكم
و أما غيركم حاشا و كلا .
و قال مرة أخرى لما قال له موسى أَرِنِي فقال لن 320 قال هذا شغلك 321 تصطفي آدم ثم تسود وجهه و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب 322 فكيف تصنع بالأعداء 323 .
و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت و أن قسي القدر إذا رمت أصمت ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس
و كنت و ليلى في صعود من الهوى
فلما توافينا ثبت و زلت .
و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره و لكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل فأنا أصدق منك في التوحيد.
و كان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ أنه قال على المنبر معاشر الناس إني كنت دائما أدعوكم إلى الله و أنا اليوم أحذركم منه و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه و لا أديت الجزية إلا في عشقه.
و قال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده فقال له لا تسلم فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا 324 لا المنافقين ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله منشور ولايته ذا منشور عزله 325 و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح.
و يروى عن أبي يزيد البسطامي 326 منه كثير.
و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله
فمن آدم في البين
و من إبليس لولاكا
فتنت الكل و الكل
مع الفتنة يهواكا .
و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه و يقال إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته
اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار
فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا و سيخلقان
عند قيام الأجسام و قد دل القرآن العزيز و نطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها.
قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى بدليل قوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ 327 و قوله هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ 328 فلما كان أولا بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال و بآيات كثيرة أخرى و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة و النار قبل أوقات الجزاء فائدة لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع كان في الجنة و أخرج منها على بستان من بساتين الدنيا قالوا و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض.
و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا إنهما مخلوقتان الآن و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه
القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل
فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة أيهما أفضل.
قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياء
ع و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ 329 لكفى.
و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ 330 و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير و كذلك قوله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى. و مما احتجوا به قولهم إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا ع في معرض المدح مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ 331 فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد ع و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين.
فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر قيل قد اختلف في ذلك فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ 332 و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ 333 .
و أجاب الأولون عن هذا فقالوا إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ
وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً 334 و الجنة هاهنا هم الملائكة لأنهم قالوا إن الملائكة بنات الله بدليل قوله أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً 335 و كتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره.
فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت و هذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره.
و قال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم.
و قال الوصول جمع وصل و هو العضو و كل شيء اتصل بشيء فما بينهما وصلة و الفصول جمع فصل و هو الشيء المنفصل و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو و لا قيل هذا.
و قوله بعد ذلك و كل شيء اتصل بشيء فما بينهما وصلة لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير و الصحيح أن مراده ع أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف و مراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة كعظم الساق أو عظم الساعد و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ.