کتابخانه روایات شیعه
مقدّمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوكّل عليه، و نعوذ به من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا، و نسأله تعالى أن يهدينا سبل الرشاد؛ فإنّه من يهد اللّه فلا مضلّ له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أمين وحيه، و خاتم رسله، و الصلاة و السلام عليه و على وصيّه و خليفته من بعده، و على ذرّيته الطاهرين الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، و لا سيّما بقيّة اللّه الأعظم، عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف.
و بعد؛ فإنّ القرآن العظيم هو المصدر الأوّل للهداية، و الحديث هو المصدر الثاني و العدل الواضح له، و مكانته- شرفا- بعد القرآن، و لا ريب أنّ علم الحديث من أهمّ العلوم الشرعية التي تبتنى عليها سعادة الإنسان في حياته الدنيويّة قبل الاخروية، و لذلك احتاجت غوامض القرآن و مجملاته إلى البيان و التفسير، فكان الحديث هو الشارح و المفصّل و المبيّن للكتاب الكريم، فلا عجب أن يقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أوتيت القرآن و مثله معه» 1 ، و هذه العبارة تدلّ- و بمنتهى الدقّة و الوضوح- على أنّ حكم حديثه حكم القرآن من جهة المصدر
وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى 2 ، و أنّه بيان له، و الشاهد له قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ 3 .
و البيان: هو إخراج الشيء عن حيّز الخفاء إلى حيّز الظهور و الوضوح، و هو إمّا موافق للقرآن و مؤكّد له، مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه تعالى ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» 4 ، إذ هو موافق لظاهر قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ 5 .
أو مفصّل له، و مثاله قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، و الْبِئْرُ جُبَارٌ، و الْمَعْدِنُ جُبَارٌ 6 .
و فِي الرِّكَازِ 7 الخُمْسُ» 8 ، في مقابل قوله تعالى: وَ آتُوا الزَّكاةَ* 9 .
أو مخصّص له، و مثاله قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» 10 ، في قضية الّتي فيه ظهور إلى إشارة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيها بقوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا 11 .
أو مقيّد له، و مثاله كثير، و لا سيّما في مسألة الوصيّة.
أو بيان له، و أمثال ذلك أيضا في القرآن كثير، خصوصا في آيات الفرائض.
و لمّا كان هذا موقف الحديث من الكتاب، قدّمه بعض على الكتاب في الاستدلال و إن تقدّمت رتبة الكتاب، كما هو واضح.
و على أيّ تقدير: لا يشكّ إنسان و لا يرتاب في أنّ فصاحة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تقابلها فصاحة و لا يقارب أسلوبه في الحديث و البلاغة أسلوب؛ إلّا أسلوب أئمّة الهدى؛ فإنّهم، نور واحد، و حديثهم حديث جدّهم رسول اللّه صلوات اللّه عليهم أجمعين.
و الأحاديث كما أنّها المصدر الثاني للتشريع، فكذلك هي المصدر النحوي و البلاغي، ذهب إلى ذلك كثير من علماء البلاغة و الأدب، مؤكّدين على أنّ كلام النبوّة دون كلام الخالق، و فوق كلام فصحاء المخلوقين، و فيه جوامع الكلام، و إعجاز البلاغة و الفصاحة، و أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفصح العرب قولا، و أبينهم كلاما، و أعلاهم بلاغة، فقد وصف الجاحظ كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قائلا:
«هو الذي قلّ عدد حروفه، و كثر عدد معانيه، و جلّ عن الصنعة، و نزه عن التكلّف، و كان كما قال اللّه تبارك و تعالى: قل يا محمّد: وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ 12 ، فكيف و قد عاب التشديق 13 ، و جانب أهل التعقيب 14 ، و استعمل المبسوط في موضع البسط، و المقصور في موضع القصر، و هجر الغريب الوحشي، و رغب
الهجين السوقي، فلم ينطق إلّا عن ميراث حكمة، و لم يتكلّم إلّا بكلام قد حفّ بالعصمة، و شيّد بالتأييد، و يسّر بالتوفيق، و هو الكلام الذي ألقى اللّه عليه المحبّة، و غشّاه بالقبول، و جمع له بين المهابة و الحلاوة، و بين حسن الإفهام و قلّة عدد الكلام، و هو مع استغنائه عن إعادته و قلّة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، و لا زلّت به قدم، و لا بارت 15 له حجّة، و لم يقم له خصم، و لا أفحمه خطيب، بل يبذّ 16 الخطب الطوال بالكلم القصار، و لا يلتمس إسكات الخصم إلّا بما يعرفه الخصم، و لا يحتجّ إلّا بالصدق، و لا يطلب الفلج 17 إلّا بالحقّ، و لا يستعين بالخلابة 18 ، و لا يستعمل المواربة 19 ، و لا يهمز 20 ، و لا يبطئ، و لا يعجل، و لا يسهب، و لا يحصر 21 .