کتابخانه روایات شیعه
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
قلت لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت و إنما أراد أن صاحب الدين مهجور عندهم لأن صاحب الدين مهجور و صاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنو عليه و الحب له لأنه صاحب فجور.
ثم قال كان الولد غيظا أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء و صار المطر قيظا يقال إنه من علامات الساعة و أشراطها.
و أوساطه أكالا أي طعاما يقال ما ذقت أكالا و في هذا الموضع إشكال لأنه لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة كقولهم ما بها صافر فالأجود الرواية الأخرى و هي آكالا بمد الهمزة على أفعال جمع أكل و هو ما أكل كقفل و أقفال و قد روي أكالا بضم الهمزة على فعال و قالوا إنه جمع أكل للمأكول كعرق و عراق و ظئر و ظؤار إلا أنه شاذ عن القياس و وزن واحدهما مخالف لوزن واحد أكال لو كان جمعا يقول صار أوساط الناس طعمة للولاة و أصحاب السلاطين و كالفريسة للأسد.
و غار الماء سفل لنقصه و فاض سال.
و تشاجر الناس تنازعوا و هي المشاجرة و شجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم و اشتجروا مثل تشاجروا.
و صار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق حتى يكون ذلك كالنسب بينهم و حتى يعجب الناس من العفاف لقلته و عدمه.
و لبس الإسلام لبس الفرو و للعرب عادة بذلك و هي أن تجعل الخمل إلى الجسد و تظهر الجلد و المراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان
108 و من خطبة له ع
كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَ كُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا [مُنْجِيَ] مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ مَا أَصْغَرَ كُلِّ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآْخِرَةِ.
قال كل شيء خاضع لعظمة الله سبحانه و كل شيء قائم به و هذه هي صفته الخاصة أعني كونه غنيا عن كل شيء و لا شيء من الأشياء يغني عنه أصلا.
ثم قال غنى كل فقير و عز كل ذليل و قوة كل ضعيف و مفزع كل ملهوف .
جاء في الأثر من اعتز بغير الله ذل و من تكثر بغير الله قل.
و كان يقال ليس فقيرا من استغنى بالله.
و قال الحسن وا عجبا للوط نبي الله قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ 5581 أ تراه أراد ركنا أشد و أقوى من الله.
و استدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه بما دل عليه فحوى قوله ع و مفزع كل ملهوف و ذلك أن النفوس ببدائها تفزع عند الشدائد و الخطوب الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها و بارئها أ لا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس قال سبحانه وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ 5582 .
ثم قال ع من تكلم سمع نطقه و من سكت علم سره يعني أنه يعلم ما ظهر و ما بطن.
ثم قال و من عاش فعليه رزقه و من مات فإليه منقلبه أي هو مدبر الدنيا و الآخرة و الحاكم فيهما.
ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب فقال لم ترك العيون
فصل في الكلام على الالتفات
و اعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى الغيبة باب كبير من أبواب علم البيان و أكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم بذلك المعنى المنتقل إليه كقوله سبحانه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فأخبر عن غائب ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قالوا لأن منزلة الحمد دون منزلة العبادة فإنك تحمد نظيرك و لا تعبده فجعل الحمد للغائب و جعل العبادة لحاضر يخاطب بالكاف لأن كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه من الأخبار بلفظ الغيبة قالوا و لما انتهى إلى آخر السورة قال صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر و قال في الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فأسنده إلى فاعل غير مسمى و لا معين و هو أحسن من أن يكون قال لم تغضب عليهم و في النعمة الذين أنعم عليهم.
و من هذا الباب قوله تعالى وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً فأخبر بقالوا عن غائبين ثم قال لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا 5583 فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للأمر كالمنكر على قوم حاضرين عنده.
و من الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ... 5584 الآية.
و فائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين إلى أخبار قوم آخرين بحالهم كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم و يشرح لهؤلاء بغيهم و عنادهم الحق و يقبح عندهم ما فعلوه و يقول أ لا تعجبون من حالهم كيف دعونا فلما رحمناهم و استجبنا دعاءهم عادوا إلى بغيهم و هذه الفائدة لو كانت الآية كلها على صيغة خطاب الحاضر مفقودة
قال ع ما رأتك العيون فتخبر عنك كما يخبر الإنسان عما شاهده بل أنت أزلي قديم موجود قبل الواصفين لك.
فإن قلت فأي منافاة بين هذين الأمرين أ ليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له و مع ذلك يدرك بالأبصار إذا خلق خلقه ثم يصفونه رأي عين قلت بل هاهنا منافاة ظاهرة و ذلك لأنه إذا كان قديما لم يكن جسما و لا عرضا و ما ليس بجسم و لا عرض تستحيل رؤيته فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة.
ثم ذكر ع أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه و تفرده و لا استعملهم بالعبادة لنفعه و قد تقدم شرح هذا.
ثم قال لا تطلب أحدا فيسبقك أي يفوتك و لا يفلتك من أخذته .
فإن قلت أي فائدة في قوله و لا يفلتك من أخذته لأن عدم الإفلات هو الأخذ فكأنه قال لا يفلتك من لم يفلتك قلت المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا أن يفلتوا بحيلة من الحيل.
فإن قلت أفلت فعل لازم فما باله عداه.
قلت تقدير الكلام لا يفلت منك فحذف حرف الجر كما قالوا استجبتك أي استجبت لك قال
فلم يستجبه عند ذاك مجيب 5585 .
و قالوا استغفرت الله الذنوب أي من الذنوب و قال الشاعر
أستغفر الله ذنبا لست محصيه
رب العباد إليه الوجه و العمل
قوله ع و لا يرد أمرك من سخط قضاءك و لا يستغني عنك من تولى عن أمرك تحته سر عظيم و هو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة لو وقع منا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه إنه لا نقص في ذلك لأنه لا يريد الطاعات منا إرادة قهر و إلجاء و لو أرادها إرادة قهر لوقعت و غلبت إرادته إرادتنا و لكنه تعالى أراد منا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه و ضعفه كما لا يدل بالاتفاق بيننا و بينكم عدم وقوع ما أمر به على ضعفه و نقصه.
ثم قال ع كل سر عندك علانية أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر و السر لأنه عالم لذاته و نسبة ذاته إلى كل الأمور واحدة.
ثم قال أنت الأبد فلا أمد لك هذا كلام علوي شريف لا يفهمه إلا الراسخون في العلم و فيه سمة من
قول النبي ص لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله.
و في مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا و هو قولهم أنت الأزل السرمد و أنت الأبد الذي لا ينفد بل قولهم أنت الأبد الذي لا ينفد هو قوله أنت الأبد فلا أمد لك بعينه و نحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر فنقول إن له في العربية محملين أحدهما أن المراد به أنت ذو الأبد كما قالوا رجل خال أي ذو خال و الخال الخيلاء و رجل داء أي به داء و رجل
مال أي ذو مال و المحمل الثاني أنه لما كان الأزل و الأبد لا ينفكان عن وجوده سبحانه جعله ع كأنه أحدهما بعينه كقولهم أنت الطلاق لما أراد المبالغة في البينونة جعلها كأنها الطلاق نفسه و مثله قول الشاعر
فإن المندى رحلة فركوب 5586
و قال أبو الفتح في الدمشقيات استدل أبو علي على صرف منى للموضع المخصوص بأنه مصدر منى يمني قال فقلت له أ تستدل بهذا على أنه مذكر لأن المصدر إلى التذكير فقال نعم فقلت فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه لأنه لا ينكر أن يكون مذكر سمي به البقعة المؤنثة فلا ينصرف كامرأة سميتها بحجر و جبل و شبع و معي فقال إنما ذهبت إلى ذلك لأنه جعل كأنه المصدر بعينه لكثرة ما يعاني فيه ذلك فقلت الآن نعم.
و من هذا الباب قوله
فإنما هي إقبال و إدبار 5587 .
و قوله
و هن من الإخلاف قبلك و المطل .
و قوله فلا منجى منك إلا إليك قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية
إليك فررت منك و من زياد
و لم أحسب دمي لكما حلالا 5588