کتابخانه روایات شیعه

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

التمحيص


صفحه قبل

التمحيص، ص: 2

[مقدمة المحقق‏]

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم‏

التمحيص و الابتلاء في كتاب اللّه‏

تَبارَكَ ... الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا 1 .

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏ 2 .

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ‏ 3 .

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ ...

لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ‏ 4 ...

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا 5 ...

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏ 6 .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ 7 ...

أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ‏ 8 .

وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ، وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ...

وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ‏

وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 9 .

التمحيص، ص: 3

المقدّمة

الحمد للّه الذي جعل البلايا تمييزا للطيّبين عن الخبيثين‏ 10 ، و نكالا للظالمين، و جعل تقلّبات الأحوال، اختبارا لطويّات الرجال، فمن دار فناء و زوال، قد ملئت بالهموم و الغموم، و عجّت بالمحن و الآلام، إلى ارتحال و انتقال، «وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» 11 ، فالشقيّ من غرّته و لم يعتبر بمن سكنها قبله من الماضين، كانوا أطول أعمارا، و أبقى آثارا، و أبعد آمالا، و السعيد من اعتبر بها، و استفاد من تجاربها، فصغرت في عينه و هانت عليه، و أحبّ مجاورة الجليل في داره، و سكنى الفردوس في جواره،

و صلّى اللّه على أشدّ الناس ابتلاء، و أكثرهم صبرا على إيذاء، و أوفرهم شكرا على ما جرى به القضاء، محمّد و آله الأوصياء الأصفياء، الحجج على العباد، و الهادين للرشاد، و العدّة للمعاد «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ» 12 ،

و اللعنة الدائمة على أعدائهم الأخسرين‏ «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» 13 ، و في الآخرة «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ» 14 .

عبر تاريخ الإنسانيّة الطويل، و منذ فجر النبوّات، بدأ الصراع المرير، بين الحقّ و جيوش الأباطيل، بين الخير و قوى الشرّ و الضلال، بين النور و جحافل الظلام، فعاش الإنسان طوال آلاف السنين، تحت سياط الجلّادين، و في دياجير السجون، قد اثقلت كواهل المساكين و المستضعفين، بالحروب و الويلات، و الخراب و الدمار، فابيدت امم و شعوب، و استعبدت أجيال تلو أجيال، فضجّت الأرض تستصرخ بارئها بما تئنّ من جراح، و تستغيث من مباضع الحراب و السيوف و الرماح، و لو لا بوارق أمل و ومضات، تشعّ بين الحين و الحين من هدي السماء عبر الرسالات، و إمداد التابعين بالصبر و الإيمان و سيل الشحنات، لما كان للحياة مذاق فتطاق، و لا للعيش طعم و اشتياق.

فأصحاب الشرائع كانوا دوما محاربين، و أتباعهم مضطهدين مسحوقين، إلّا

التمحيص، ص: 4

أنّهم لما يصابون من مصائب صابرون، و بما يرميهم الأعداء من نوائب قانعون، بل فرحون بما آتاهم اللّه من فضله و هم يستبشرون، و للجنّة يشتاقون، لما تكشّفت في قلوبهم حقائق الإيمان، و تجلّت لهم بدائع آيات الرحمن، و ما أعدّ لهم من الخيرات في الجنان،

فالدنيا للمؤمنين ليست بدار بقاء و مقام، إنّما دار تمحيص و امتحان‏ «أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» 15 .

فكلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم، كانت المثوبة و الجزاء أجزل، أ لم يأت عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله: «ما اوذي أحد مثل ما اوذيت» 16 و ورد عن الصادق عليه السلام: «إنّ أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الأمثل فالأمثل» 17 من الأوصياء و الأولياء، الذين نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كما نزلت في الرخاء، فهم بالغنى غير فرحين، و بالفقر غير مغتمّين.

ثمّ إنّ البلاء على أنواع و أحوال:

فمرّة يكون للعقاب و النكال لما اقترفه المرء من الموبقات، فيبتلى بالأمراض و العاهات، أو تلف الأهل و الأولاد، و جار سوء و تنغيص اللذّات، أو تسلّط سلطان فيفرّق الأحباب و يشتّت الجماعات، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ اللّه يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات، و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات ...» 18 مشيرا إلى ما ورد في الذكر الحكيم: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ ...» 19 أو في قوله سبحانه: «وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ...» 20 و هذا ديدن الدنيا، فكم جمحت بطالبها و أردت راكبها، و خانت الواثق بها، و ازعجت المطمئنّ إليها، فلا تدوم أحوالها، و لا يسلم نزّالها، فجمعها إلى انصداع، و وصلها إلى انقطاع.

و مرّة يكون البلاء تمحيصا للذنوب و رفعا للدرجات‏ «وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ» (7) و قد قال الإمام عليّ عليه السلام: «الحمد للّه الذي جعل تمحيص‏

التمحيص، ص: 5

ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم، لتسلم بها طاعاتهم و يستحقّوا عليها ثوابها» 21 .

و قال أيضا: «و لكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، و يتعبّدهم بأنواع المجاهد، و يبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتكبّر من قلوبهم، و إسكانا للتذلّل في نفوسهم، و ليجعل ذلك أبوابا إلى فضله» 22 .

و لهذا استخلص الجليل سبحانه المؤمنين للآخرة، و اختار لهم الجزيل ممّا لديه من النعيم المقيم، الّذي لا زوال له و لا اضمحلال، لصبرهم على البلاء، و رضاهم بالقضاء، و شكرهم النعماء، إذ أنّ الصبر أوّل درجات الإيمان، فإذا ترقّى العبد في إيمانه بلغ منزلة الرضا بالقضاء، و إذا ازداد في سلّم الإيمان علوّا و سموّا و صعودا، أصبح شاكرا لربّه على البلاء،

فالأولياء الصالحون لن يكونوا مؤمنين إلّا كما وصفهم الإمام الكاظم عليه السلام مخاطبا: «حتى تعدّوا البلاء نعمة، و الرخاء مصيبة، و ذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء» 23 ،

و هذه منزلة من خبر الدنيا و عرف أحوالها، فعلم أنّها سوق، ربح فيها قوم يبتغون فيما آتاهم اللّه الدار الآخرة، و خسر آخرون ممّن كانوا «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» 24 ف «لما الدنيا و الآخرة إلّا ككفّتي ميزان، فأيّهما رجح ذهب بالآخر» 25 أو كما جاء عن الهداة عليهم السلام «إنّ الدنيا و الآخرة عدوّان متفاوتان، و سبيلان مختلفان فمن أحبّ الدنيا و تولّاها أبغض الآخرة و عاداها، و هما بمنزلة المشرق و المغرب ... كلّما قرب من واحد بعد عن الآخر» 26 فلا يستقيم حبّهما في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء و النار في إناء واحد.

و لهذا كان الإمام الباقر عليه السلام يدعو بهذا الدعاء: «و لا تجعل الدنيا عليّ سجنا، و لا تجعل فراقها عليّ حزنا» 27 .

صفحه بعد