کتابخانه تفاسیر
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 175
[سورة البقرة (2): الآيات 123 الى 124]
الرسل إليكم، و إهلاك عدوكم، و جعلكم ملوكا و توسيع الدنيا لكم وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ في زمانكم، التي هي من أعظم النعم- و قد تقدم الكلام في مثل هذه الآية-.
[124] وَ اتَّقُوا يَوْماً أي يوم القيامة، الموصوف بأنه لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً هناك و إنما ترى كل نفس جزاؤها العادل، فلا يحمل أحد وزر أحد وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية تعادله، فيفك نفسه بالفدية و المال وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ بدون رضى اللّه سبحانه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ فلا ينصر أحد أحدا، و قد تقدمت مثل هذه الآية، لكن أريد الانتقال إلى موضوع آخر كرر المطلب السابق تذكيرا و تركيزا.
[125] وَ حيث تم بعض الكلام عن اليهود و النصارى و المشركين، انتقل السياق للكلام حول إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام و بناء البيت مما يشترك فيه الجميع، و إن تاريخهم قبل تاريخ اليهودية و النصرانية، و قد اعتاد أن يتكلم المتكلم عن الظروف المعاصرة، ثم ينتقل إلى التواريخ الغابرة، و اذكر يا رسول اللّه إِذِ ابْتَلى امتحن إِبْراهِيمَ عليه السّلام رَبُّهُ فاعل ابتلى، أي امتحن اللّه إبراهيم بِكَلِماتٍ أي بأمور، فإن الكلمة تقال للأمر، و لا يبعد أن يكون المراد بالكلمة نفس معناها العرفي، فالمعنى ابتلاه بكلمات تكلم اللّه أو الملك معه عليه السّلام حولها لينفذها، و يأتي بمعناها، و لعل الكلمات كانت حول ذبح
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 176
[سورة البقرة (2): آية 125]
إسماعيل عليه السّلام، أو حول مجابهة نمرود الطاغي فَأَتَمَّهُنَ بأن أطاع الأمر كاملا غير منقوص قالَ اللّه تعالى بعد إتمام الكلمات إِنِّي جاعِلُكَ يا إبراهيم لِلنَّاسِ إِماماً و الإمام هو المقتدى، و حيث أن «الناس» كالجمع المحلى باللام أفاد العموم، و لا منافاة بين كونه عليه السّلام سابقا نبيا و رسولا، و لم يكن إماما عاما، ثم صار كذلك جزاء إتمام الكلمات قالَ إبراهيم عليه السّلام سائلا اللّه تعالى وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي هل تجعل يا رب إماما؟ و هذا طلب المتأدب يأتي به في لسان الاستفهام قالَ لا يَنالُ عَهْدِي بالإمامة الظَّالِمِينَ و هذا جواب مع زيادة، إذ المفهوم منه، نعم أجعل بعض ذريتك، لكن غير الظالم منهم، و إنما خص هذا بالذكر، لبيان عظم مقام الإمامة.
[126] وَ اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الحرام بمكة المكرمة مَثابَةً بمعنى مرجعا فإن الناس يرجعون إليه كل عام، و الرجوع بمناسبة مجموع الناس، و إن لم يرجع إليه كل فرد لِلنَّاسِ وَ أَمْناً فلا يحل القتال فيه، و إن من التجأ إليه يكون آمنا، فلا يجري عليه الحد، ثم صار في الكلام التفات إلى الخطاب قائلا وَ اتَّخِذُوا أيها المسلمون مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ و هو الحجر الذي كان يضعه إبراهيم عليه السّلام تحت رجله لبناء أعالي الكعبة، الذي هو الآن بالقرب من الكعبة مُصَلًّى أي محل للصلاة، فإنه تجب الصلاة للطواف
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 177
[سورة البقرة (2): آية 126]
حول مقام إبراهيم في الحج وَ عَهِدْنا أي ذكرنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ عليهما السّلام: الأب و الابن أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ طهارة معنوية، بعدم السماح لنصب الأصنام فيه و طهارة ظاهرية بالنظافة لِلطَّائِفِينَ أي الذين يطوفون حول البيت وَ الْعاكِفِينَ الذين يعتكفون في المسجد الحرام، و للاعتكاف مسائل و أحكام مذكورة في كتب الفقه «1» وَ الرُّكَّعِ جمع راكع السُّجُودِ جمع ساجد، أي المصلين.
[127] وَ اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ في دعائه للّه تعالى رَبِّ اجْعَلْ هذا البلد و هو مكة، التي بنى فيها البيت بَلَداً آمِناً عن الأخطار، أو محكوما بحكم الأمن حكما شرعيا، و إن كان السياق يؤيد الأول وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن دعاء إبراهيم عليه السّلام كان خاصا بهم قالَ اللّه سبحانه في جواب إبراهيم عليه السّلام ما يدل على استجابة دعائه مع الزيادة، و هي وَ مَنْ كَفَرَ من أهل هذا البلد، لا نقطع عنه الثمار بل فَأُمَتِّعُهُ أي أعطيه المتاع من الحياة و الرزق و الأمن، و سائر الأمور قَلِيلًا فإن
(1) راجع موسوعة الفقه ج 77 ص 151، في أحكام الاعتكاف.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 178
[سورة البقرة (2): الآيات 127 الى 128]
عمر الدنيا قصير، و أمدها قليل ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي أدفعه إلى النار باضطرار منه، فما من أحد يرضى بالنار إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المأوى و المرجع.
[128] وَ أذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ أي كان يبني أساس البيت الحرام، و يرفعه من الأرض، و يعاونه في ذلك وَ إِسْماعِيلُ ابنه، و هما يقولان في حال البناء رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا بناء البيت إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ دعاءنا الْعَلِيمُ بما نعمله و نقصده.
[129] رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ في جميع أمورنا، و الدعاء بالإسلام، لا ينافي كونهما كذلك قبل الدعاء إذ الإسلام كسائر العقائد، و الأعمال بحاجة إلى الاستمرار، مما لا يكون إلا بهداية اللّه و توفيقه، فكما أن الابتداء لا يكون إلا بعونه سبحانه، كذلك الاستمرار، كما في اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» وَ اجعل مِنْ ذُرِّيَّتِنا و أولادنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ و الإسلام هو تسليم الأمور إلى اللّه سبحانه في الاعتقاد و القول و العمل وَ أَرِنا أي عرفنا مَناسِكَنا جمع منسك، أي المواضع التي
(1) الفاتحة: 6.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 179
[سورة البقرة (2): آية 129]
تتعلق النسك بها، و النسك العبادة، يقال رجل ناسك، أي عابد، و قد استجاب اللّه دعاءهما، حيث أراهما جبرائيل عليه السّلام موضع الصلاة، و الوقوف، و غيرها وَ تُبْ عَلَيْنا أي أرجع إلينا بالمغفرة و الرحمة، فإن التوبة بمعنى الرجوع، و لذا يقال اللّه «التواب» أي كثير الرجوع إلى عبيده، و من ذلك تعرف أنه لا دلالة للآية، على أنهما عليهما السّلام، كانا قد أذنبا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ بعبادك الرَّحِيمُ بهم.
[130] رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ أي في الأمة المسلمة- التي طلبناها منك- رَسُولًا مِنْهُمْ من نفس الأمة، لا من سائر الأمم، حتى يكون لهم الشرف بكون الرسول منهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ دلائلك، و براهينك، و أحكامك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ إما المراد: القرآن، أو المراد:
«كتابك» على نحو الكلي وَ الْحِكْمَةَ هي وضع كل شيء موضعه و المراد بتعلمهم إياها، تعليمهم العلوم الكونية و التشريعية، فإن الجاهل لا يتمكن، من وضع الأشياء مواضعها لجهله بها وَ يُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الأدناس و القذارات الأخلاقية و الأعمالية إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ حقيقة، فإن العزة لا تكون إلا بقلة الوجود، و كثرة الاحتياج، و اللّه واحد لا شريك له، و جميع الاحتياجات إليه و تخصيص العزة هنا بالذكر، للتلميح إلى كون الاحتياج إليه الْحَكِيمُ فأفعالك صادرة عن حكمة، و ما طلباه إنما كان عين الحكمة.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 180
[سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 132]
[131] هذه هي طريقة إبراهيم عليه السّلام وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ أي من يعرض عن هذه الطريقة في التوحيد و التسليم و سائر ما ذكر مما يدل على أنها من أفضل الطرق إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي لا يترك هذه الملة، إلا من ضرب نفسه بالسفاهة و الحمق، و هل هناك طريقة أفضل من هذه الطريقة؟ و الاستفهام في قوله «من يرغب» استنكاري وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ جملة حالية، أي إنا بسبب هذه الطريقة المستقيمة، التي كانت لإبراهيم عليه السّلام اخترناه نبيا فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الفائزين بالدرجات الرفيعة.
[132] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ هذا متعلق بقوله «اصطفيناه» أي اخترناه لما قلنا له أَسْلِمْ في جميع أمورك للّه قالَ إبراهيم عليه السّلام أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وحده لا شريك له، و معنى أسلم استقم على الإسلام، و اثبت على التوحيد، كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ «1» و كما يقول أحدنا لمن كان جالسا في مكان: أجلس هنا حتى الساعة العاشرة- مثلا-.
[133] وَ وَصَّى بِها أي بالملة و الطريقة التي كانت لإبراهيم عليه السّلام
(1) محمد: 20.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 181
[سورة البقرة (2): آية 133]
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أولاده، و خصهم بالذكر، مع أن دعوة إبراهيم عليه السّلام كانت عامة، إشارة إلى لزوم دعوة الأهل بصورة خاصة إلى الحق، كما قال سبحانه قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «1» وَ وصى بها يَعْقُوبُ حفيد إبراهيم من إسحاق، بنيه أيضا و خص يعقوب لأنه جد اليهود، و كانت الوصية يا بَنِيَ أي يا أبنائي، فهو جمع ابن، و أصله بنيني إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار لَكُمُ الدِّينَ حتى تكونوا متدينين، و معنى اختار اللّه الدين لهم، أنه سبحانه أعطاهم الدين، و أراد ذلك منهم مقابل بعض الأمم الوحشية الذين تركوا و شأنهم، فلم تبلغهم دعوة الأنبياء فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي لا تتركوا الإسلام، فيصادفكم الموت على تركه، و إنما خص الموت، لأنه لو كان غير مسلم قبل ذلك، ثم أسلم و مات مسلما لم يكن عليه بأس.
[134] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أيها المدعون إن الأنبياء كانوا يهودا أو نصارى، فإن اليهود كانوا يقولون أن يعقوب النبي عليه السّلام أوصى بنيه باليهودية، فأنكر اللّه تعالى عليهم ذلك بأنكم لم تكونوا حضورا إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ و اقترب من الوفاة إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي على طريقة الاستفهام التقريري