کتابخانه تفاسیر
تفسير ابن عربى
الجزء الأول
سورة البقرة
سورة آل عمران
سورة النساء
سورة المائدة
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
سورة يونس(عليه السلام)
سورة هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم(عليه السلام)
سورة الحجر
سورة النحل
سورة بني إسرائيل
سورة الكهف
الجزء الثاني
سورة مريم
سورة طه عليه السلام
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة المؤمن و هي غافر
سورة حم السجدة
سورة حم عسق
سورة الزخرف
سورة حم الدخان
سورة حم الجاثية
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة الملك
سورة الطاغية
سورة المعارج
سورة نوح - عليه السلام -
سورة الجن
سورة الإنسان
سورة و المرسلات
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة التكوير
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الليل
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 5
الجزء الأول
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه الذي جعل مناظم كلامه مظاهر حسن صفاته، و طوالع صفاته مطالع نور ذاته، صفى مشارع مسامع قلوب أصفيائه لتحقق السماع، و روّق موارد مشاعر فهوم أوليائه لتيقن الاطلاع، و لطف أسرارهم بإشراق أشعة المحبة في أرجائها، و شوّق أرواحهم إلى شهود جمال وجهه بفنائها، ثم ألقى إليهم الكلام فاستروحوا إليه بكرة و عشيا، و قرّبهم بذلك منه حتى خلصوا لديه نجيا، فزكّى بظاهره نفوسهم فإذا هو ماء ثجاج، و روى بباطنه قلوبهم فإذا هو بحر موّاج، فلما أرادوا الغوص ليستخرجوا درر أسراره طغى الماء عليهم فغرقوا في تياره، لكن أودية الفهوم سالت من فيضه بقدرها، و جداول العقول فاضت من رشحه بنهرها، فأبرزت الأوادي على السواحل جواهر ثاقبة و دررا، و أنبتت الجداول على الشواطئ زواهر ناضرة و ثمرا، فأخذت القلوب عند مفيض مدّها واقفة على حدّها، تملأ الحجور و الأردان، عاجزة عن عدّها، و طفقت النفوس في اجتناء الثمار و الأنوار، شاكرة بوجدها، قاضية بها الأوطار.
و أما الأسرار، فإذا قرع سمعها قوارع الآيات تطلعت، فاطلعت منها على طلائع الصفات، فتحيرت في حسنها إذ رأتها، و طاشت و دهشت عند تجلياتها و تلاشت حتى إذا بلغ الروح منها التراقي طلع من ورائها جمال طلعة وجهه الباقي، و حكم الشهود عليها بنفي الوجود، و ألزمها الإقرار.
فسبحان من لا إله إلا هو الواحد القهار، سبحان من يتجلى في كلامه بحلل صفات جلاله و جماله على عباده في صورة بهاء ذاته و كماله، و الصلاة على الشجرة المباركة التي أنطقها بهذا الكلام و جعلها مورده و مصدره منها، و لها، و إليها، و عليها السلام و على آله الذين هم مخزن علمه و كتابه العزيز، و أصحابه الذين أصبح الدين بهم في حرز حريز.
(و بعد)، فإني طالما تعهدت تلاوة القرآن و تدبرت معانيه بقوّة الإيمان و كنت مع المواظبة على الأوراد حرج الصدر قلق الفؤاد، لا ينشرح بها قلبي و لا يصرفني عنها ربي، حتى استأنست بها فألفتها و ذقت حلاوة كأسها و شربتها، فإذا أنا بها نشيط النفس، فلج الصدر، متسع البال، منبسط القلب، فسيح السرّ، طيب الوقت و الحال، مسرور الروح بذلك الفتوح كأنه دائما في غبوق و صبوح، تنكشف لي تحت كل آية من المعاني ما يكلّ بوصفه لساني، لا القدرة تفي بضبطها و إحصائها، و لا القوة تصبر عن نشرها و إفشائها، فتذكرت خبر من أتى ما
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 6
ازدهاني مما وراء المقاصد و الأماني، قول النبيّ الأميّ الصادق عليه أفضل الصلوات من كل صامت و ناطق:
«ما نزل من القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و لكلّ حرف حدّ، و لكل حدّ مطلع»
. و فهمت منه أنّ الظهر هو التفسير، و البطن هو التأويل، و الحدّ ما يتناهي إليه الفهوم من معنى الكلام، و المطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام.
و
قد نقل عن الإمام المحق السابق جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال : «لقد تجلى اللّه لعباده في كلامه، و لكن لا تبصرون»
. و
روي عنه عليه السلام أنه خرّ مغشيا عليه و هو في الصلاة، فسئل عن ذلك، فقال: «ما زلت أردّد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها»
. (فرأيت) أن أعلق ببعض ما يسنح لي في الأوقات من أسرار حقائق البطون و أنوار شوارق المطلعات دون ما يتعلق بالظواهر و الحدود، فإنه قد عين لها حدّ محدود. و قيل من فسر برأيه فقد كفر. و أما التأويل فلا يبقي و لا يذر، فإنه يختلف بحسب أحوال المستمع و أوقاته في مراتب سلوكه و تفاوت درجاته. و كلما ترقى عن مقامه انفتح له باب فهم جديد و اطلع به على لطيف معنى عتيد.
(فشرعت) في تسويد هذه الأوراق بما عسى يسمح به الخاطر على سبيل الاتفاق، غير حائم بقعة التفسير و لا خائض في لجة من المطلعات ما لا يسعه التقرير، مراعيا لنظم الكتاب و ترتيبه، غير معيد لما تكرّر منه أو تشابه في أساليبه. و كلّ ما لا يقبل التأويل عندي أو لا يحتاج إليه فما أوردته أصلا و لا أزعم أني بلغت الحدّ فيما أوردته. كلا، فإنّ وجوه الفهم لا تنحصر فيما فهمت، و علم اللّه لا يتقيد بما علمت، و مع ذلك فما وقف الفهم مني على ما ذكر فيه، بل ربما لاح لي فيما كتب من الوجوه ما تهت في محاويه و ما يمكن تأويله من الأحكام الظاهر منها إرادة ظاهرها فما أوّلته إلا قليلا ليعلم به أن للفهم إليه سبيلا، و يستدل بذلك على نظائرها إن جاوز مجاوز عن ظواهرها إذ لم يكن في تأويلها بدّ من تعسف.
و عنوان المروّة ترك التكلف، و عسى أن يتجه لغيري وجوه أحسن منها طوع القياد فإن ذلك سهل لمن تيسر له من أفراد العباد. و للّه تعالى في كلّ كلمة كلمات ينفد البحر دون نفادها، فكيف السبيل إلى حصرها و تعدادها، لكنها أنموذج لأهل الذوق و الوجدان يحتذون على حذوها عند تلاوة القرآن، فينكشف لهم ما استعدوا له من مكنونات علمه، و يتجلى عليهم ما استطاعوا له من خفيات غيبه، و اللّه الهادي لأهل المجاهدة إلى سبيل المكاشفة و المشاهدة، و لأهل الشوق إلى مشارب الذوق، إنه وليّ التحقيق و بيده التوفيق.
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 7
فاتحة الكتاب
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
اسم الشيء ما يعرف به، فأسماء اللّه تعالى هي الصور النوعية التي تدلّ بخصائصها و هوياتها على صفات اللّه و ذاته، و بوجودها على وجهه، و بتعينها على وحدته، إذ هي ظواهره التي بها يعرف. و اللّه اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها بالصفات، و لا باعتبار لا اتصافها.
و الرَّحْمنِ هو المفيض للوجود و الكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة و تحتمل القوابل على وجه البداية. و الرَّحِيمِ هو المفيض للكمال المعنويّ المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، و لهذا قيل: يا رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامّة و الخاصة، التي هي مظهر الذات الإلهي و الحق الأعظمي مع جميع الصفات أبدأ و أقرأ، و هي الاسم الأعظم و إلى هذا المعنى
أشار النبي صلى اللّه عليه و سلم بقوله : «أوتيت جوامع الكلم، و بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
، إذ الكلمات حقائق الموجودات و أعيانها. كما سمي عيسى عليه السلام كلمة من اللّه، و مكارم الأخلاق كمالاتها و خواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. و هاهنا لطيفة و هي أن الأنبياء عليهم السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. و قد وجدت في كلام عيسى عليه الصلاة و السلام و أمير المؤمنين علي عليه السلام و بعض الصحابة ما يشير إلى ذلك. و لهذا قيل: ظهرت الموجودات من باء بسم اللّه إذ هي الحرف الذي يلي الألف الموضوعة بإزاء ذات اللّه. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق اللّه المخاطب بقوله تعالى:
«ما خلقت خلقا أحب إليّ و لا أكرم عليّ منك، بك أعطي، و بك آخذ، و بك أثيب، و بك أعاقب ...»
الحديث.
و الحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، و المكتوبة تسعة عشر. و إذا انفصلت الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين و عشرين، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها بثمانية عشر ألف عام، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أمّ المراتب الذي لا عدد فوقه، فعبر بها عن أمّهات العوالم التي هي عالم الجبروت، و عالم الملكوت، و العرش، و الكرسي، و السموات السبع، و العناصر الأربعة، و المواليد الثلاثة التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته.
و التسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه و إن كان داخلا في عالم الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه و جامعيته للكل و حصره للوجود عالم آخر له شأن و جنس برأسه له برهان،
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 8
كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ «1» .
و الألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين و العشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهيّ الحقّ، باعتبار الذات، و الصفات، و الأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل، و عالم واحد عند التحقيق، و الثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظميّ الإنسانيّ و لاحتجاب العالم الإلهي.
حين
سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن ألف الباء من أين ذهبت؟ قال صلى اللّه عليه و سلم: «سرقها الشيطان».
و أمر بتطويل باء بسم اللّه تعويضا عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية و ظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها، و لهذا نكرت في الوضع.
و قد
ورد في الحديث : «إنّ اللّه تعالى خلق آدم على صورته»
، فالذات محجوبة بالصفات، و الصفات بالأفعال، و الأفعال بالأكوان و الآثار. فمن تجلّت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل، و من تجلّت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي و سلّم. و من تجلّت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحدا مطلقا فاعلا ما فعل و قارئا ما قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، فتوحيد الأفعال مقدّم على توحيد الصفات و هو على توحيد الذات و إلى الثلاثة
أشار صلوات اللّه عليه في سجوده بقوله : «أعوذ بعفوك من عقابك، و أعوذ برضاك من سخطك، و أعوذ بك منك»
. [2- 5]
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 6]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر السورة، الحمد بالفعل و لسان الحال هو ظهور الكمالات و حصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة و مدح رائعة لموليها بما يستحقه. فالموجودات كلها بخصوصياتها و خواصها، و توجهها إلى غاياتها، و إخراج كمالاتها من حيز القوّة إلى الفعل، مسبحة، حامدة، كما قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «2» ، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك و صفات النقص و العجز باستنادها إليه وحده، و دلالتها على وحدانيته و قدرته، و تحميدها إظهار كمالاتها المترتبة، و مظهريتها لتلك الصفات الجلالية و الجمالية.
و خصّ بذاته بحسب مبدئيته للكل، و حافظيته و مدبريته له التي هي معنى الربوبية للعالمين، أي لكلّ ما هو علم للّه يعلم به كالخاتم لما يختم به، و القالب لما يقلب فيه، و جمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب، و بإزاء أفاضلة الخير العامّ
(1) سورة البقرة، الآية: 98.