کتابخانه تفاسیر
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 500
[سورة النساء (4): الآيات 64 الى 65]
[65] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ فليس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمجرد الوعظ حتى يراجعه الناس مهما شاءوا و يراجعوا غيره إذا لم يشاءوا مراجعته، بل إن الرسول أرسل لإطاعة الناس له في جميع شؤونهم فهو المأذون من قبل اللّه سبحانه في أن يطاع، أي ليس لأحد أن يطيع أحدا جبرا إلا إذا كانت السلطة ناشئة من قبل اللّه و إذنه، و إلا فأية سيطرة لأحد على أحد، مع العلم أن الأشياء كلها ملك اللّه سبحانه.
ثم إن اللّه سبحانه لا يقطع صلته بهؤلاء المنافقين بل يفتح لهم مجال الرجوع و الإنابة وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي هؤلاء المنافقون و العصاة إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالنفاق و المعصية، فإن العصيان يعود ضرره إلى العاصي جاؤُكَ تائبين معتذرين فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي طلبوا غفرانه و عفوه وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بأن وجدهم أهلا لطلب المغفرة من اللّه لهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أي كثير التوبة. و قد تقدم أن معنى كون اللّه توابا: أنه كثير الرجوع على عبده العاصي كلما تاب العبد و رجع رَحِيماً يرحمهم و يغفر ذنوبهم.
[66] و هنا يتردد سؤال هو أنه: كيف يقال عن هؤلاء أنهم «يزعمون أنهم آمنوا بك»؟ أ ليس إيمانهم حقيقيا، فإنهم آمنوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و التزموا بشرائع الإسلام من صلاة و زكاة و صيام؟ و الجواب:
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 501
فَلا وَ رَبِّكَ أي ليسوا بمؤمنين- قسما بربك- يا رسول اللّه لا يُؤْمِنُونَ إيمانا مرضيا أمر به اللّه و رتب عليه الجنة و الثواب حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حاكما فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما وقع بينهم من الخصومة ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي لا يجدوا في قلوبهم صعوبة من قضائك، كما هو شأن المغلوبين في القضاء حيث لا يتقبلون الحكم بسهولة بل يظنون أن الحاكم بخسهم حقهم مِمَّا قَضَيْتَ و حكمت وَ يُسَلِّمُوا أي ينقادوا لقضائك و حكمك تَسْلِيماً مطلقا بلا صعوبة و لا حرج يجدونه في نفوسهم.
فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال : «لو أن قوما عبدوا اللّه و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا شهر رمضان و حجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول اللّه: ألا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم، لكانوا مشركين، ثم تلا هذه الآية»
«1» .
و في بعض التفاسير: إن الآية نزلت في الزبير و ابن أبي بلتعة حيث تنازعا فحكم الرسول للزبير فخرجا و قال ابن أبي بلتعة متهما الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنه قضى لابن عمته، و عيّرهم بذلك يهودي فقال: كيف تعتقدون أنه رسول اللّه ثم تتهمونه في قضاء قضاه «2» ؟
(1) الكافي ج 2 ص 398.
(2) مجمع البيان: ج 3 ص 121.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 502
[سورة النساء (4): الآيات 66 الى 67]
[67] كيف أنهم يجدون حرجا من قضاء قضاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أنه يجب إطاعة الرسول في كل شيء حتى لو أمر بأن يقتلوا أنفسهم، كما أمر موسى قومه: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» فتابوا و فعلوا ما أمرهم به وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا أي أوجبنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الذين يجدون حرجا في أنفسهم مما قضيت أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن يقتل بعضكم بعضا أو يقتل الشخص نفسه أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ بأن تهجروا مساكنكم إلى بلاد الغربة، كما خرج قوم موسى إلى التيه من منازلهم التي كانت في مصر ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ لما في ذلك من إهلاك النفس و المشقة وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من عدم الحرج في قضاء رسول اللّه و اتباع أوامره و أحكامه لَكانَ فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و آخرتهم وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً فإن الإنسان كلما أطاع ثبّت دينه و قوّى ملكة عقيدته، فإن العقيدة بتكرار التعقّل و تكرار التذكّر و الاستسلام تقوى و تشد، فما أمروا به ليس فيه جهد قتل النفس و إخراجها من الديار، و مع ذلك فهو خير لهم و تثبيت لعقيدتهم المؤدية لكل سعادة.
[68] وَ إِذاً أي إذا فعلوا ما يوعظون به لَآتَيْناهُمْ أي أعطيناهم مِنْ لَدُنَّا أي لدن أنفسنا. و هذه الكلمة تفيد تأكيد الوعد، إذ أن اللّه تعالى
(1) البقرة: 55.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 503
[سورة النساء (4): الآيات 68 الى 69]
ليس عاجزا لا يتمكن من إنجاز وعده و لا بخيلا أو مخلفا لوعده حتى لا يفي بما قال أَجْراً عَظِيماً أي كبيرا. و
في الأحاديث: إن نعيم الجنة بنحو «لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر» «1» .
[69] وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ثبّتناهم، و قد تقدم في سورة الحمد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أن المعنى «ثبتنا»- بالتقريب الذي سبق- أو المراد هدايتهم صراط يوم القيامة الذي هو جسر على جهنم.
[70] ثم ينتهي السياق إلى القاعدة العامة التي توجب خير الدنيا و الآخرة وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ باتباع أوامرهما و نواهيهما بصورة عامة فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الدنيا في المكانة الرفيعة في القلوب و الذكر الرفيع و النصرة، كما قال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «2» مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ الصديق هو الملازم للصدق في أقواله و أعماله، أو هو المداوم على التصديق بما يوجبه الحق وَ الشُّهَداءِ الذين استشهدوا في سبيل اللّه، و يسمى الشهيد شهيدا لشهادة الملائكة و الناس له بأنه من أهل الجنة وَ الصَّالِحِينَ الفاعلين للصلاح الملازمين له وَ حَسُنَ أُولئِكَ
(1) بحار الأنوار: ج 8 ص 92.
(2) غافر: 52.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 504
[سورة النساء (4): الآيات 70 الى 72]
الأشخاص رَفِيقاً أي مرافقين لمن يطع اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[71] ذلِكَ التوفيق للإطاعة المعقب لكون رفقاء الإنسان النبيين و سائر من ذكر الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ أي تفضّل منه سبحانه لمن اهتدى بمثل هذه الهداية وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً أي يكفي اللّه سبحانه عالما بما يفعله الإنسان من خير و شر، فإنه إذا علم شيئا رتّب عليه الأثر.
[72] و إذا انتهى الكلام حول الإطاعة المطلقة لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلتفت السياق إلى حكم شاق من أحكام الإسلام هو القتال لتدريب المؤمنين على هذا العمل الجهادي العظيم، و تقرير الواجب عليهم فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا - ذكرنا سابقا أن أحكام الإسلام عامة لكل شخص، و تخصيص المؤمنين بالخطاب لأنهم المستفيدون من ذلك- خُذُوا حِذْرَكُمْ يقال: خذ حذرك، أي احذر و تأهب لملاقاة الأمر بالمكروه، أو المراد بالحذر: الأسلحة- مجازا- لأنه آلة الحذر فيكون من باب المجاز فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي أخرجوا إلى الجهاد. و «ثبات» جمع مفرده «ثبة» الجماعة في فرقة، أي ليكن خروجكم فرقة بعد فرقة، كما تخرج السرايا سرية إلى هنا و سرية إلى هناك، أو جماعة إثر جماعة أَوِ انْفِرُوا و اخرجوا جَمِيعاً في عسكر واحد.
[73] وَ إِنَّ مِنْكُمْ أيها المسلمون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ أي يتأخر عن الخروج استثقالا من الجهاد، و إرادة للفرار، كما كان ذلك حال المنافقين فإنهم
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 505
[سورة النساء (4): الآيات 73 الى 74]
كانوا لا يريدون الجهاد، و لذا كانوا يستثقلونه رجاء الفرار فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من هزيمة أو قتل لبعض أفرادكم قالَ ذلك المنافق المبطئ و هو مسرور جذلا: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي شاهدا حاضرا في القتال، حتى يصيبني ما أصابهم، و هذا دائما عادة المنافقين في كل حركة، أنهم يبطّئون حتى يذهب الناس، و يترقبون الأنباء حتى إذا وجدوا في الذاهبين كسرا سرّوا بأنهم كانوا بعداء عن المعركة.
[74] وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ في جهادكم فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ بالفتح و الغنيمة لَيَقُولَنَ ذلك المبطئ متحسّرا- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة معترضة ليست مقولة للقول، و إنما هي حكاية حال المنافق الذي لا يريد إلا النفع و المادة، و لا يخلص للدين و الدعوة-: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ حاضرا في الجهاد، لأنال مالا و فخرا فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فإنه يتمنى الحضور لا لنصرتكم بل لأن يفوز هو بشرف الجهاد و غنيمة الفاتحين.
[75] لما تقدم ذكر المنافقين الذين يبطّئون عن القتال، بيّن سبحانه ما هو واجب المسلم بالنسبة إلى هذا الأمر المهم فقال: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لأجل أمره و إعلاء كلمته الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج1، ص: 506
[سورة النساء (4): آية 75]
أي يبيعون الحياة القريبة الفانية بالحياة الآخرة الباقية، فإن من أقدم على الحرب، كان كمن باع نفسه و كل ما يملك لأجل الآخرة وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن تكون مقاتلته لأجل إعلاء أمر اللّه و تنفيذ حكمه فَيُقْتَلْ يستشهد أَوْ يَغْلِبْ يظفر على الأعداء فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً فهو بين إحدى الحسنيين، الاستشهاد و الجنة، أو الغلبة و الفتح.