کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

جامع البيان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

مقدمة المؤلف

(القول فى البيان عن اتفاق معانى آي القرآن و معانى منطق من نزل بلسانه من وجه البيان و الدلالة على أن ذلك من الله جل و عز هو الحكمة البالغة مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام) (القول فى البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب و ألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم) (القول فى اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب) القول فى البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة و ذكر الاخبار المروية بذلك القول فى الوجوه التي من قبلها يوصل الى معرفة تأويل القرآن ذكر بعض الاخبار التي رويت بالنهى عن القول فى تأويل القرآن بالرأى ذكر بعض الاخبار التي رويت فى الحض على العلم بتفسير القرآن و من كان يفسره من الصحابة ذكر بعض الاخبار التي غلط فى تأويلها منكر و القول فى تأويل القرآن ذكر الاخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير و من كان منهم مذموما علمه بذلك (القول فى تاويل أسماء القرآن و سوره و آيه) القول فى تأويل أسماء فاتحة الكتاب القول فى تأويل الاستعاذة
تفسير سورة الفاتحة تفسير سورة البقرة

جامع البيان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 52

العالمين"، أمر من الله عبده بقيل ذلك كما ذكرنا قبل من الخبر عن ابن عباس: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم، عن الله: قل يا محمد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و قل أيضا يا محمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و كان عقل عن العرب أن من شأنها إذا حكت أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، و تخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب؛ لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب و المخاطب، كقولهم للرجل: قد قلت لأَخيك: لو قمت لقمت، و قد قلت لأَخيك:

لو قام لقمت؛ لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته من جر: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و من نظير" مالك يوم الدين" مجرورا، ثم عوده إلى الخطاب ب" إياك نعبد" لما ذكرنا قبل، البيت السائر من شعر أبي كبير الهذلي:

يا لهف نفسي كان جلدة خالد

و بياض وجهك للتراب الأَعفر

فرجع إلى الخطاب بقوله:" و بياض وجهك"، بعد ما قد قضى الخبر عن خالد على معنى الخبر عن الغائب. و منه قول لبيد بن ربيعة:

باتت تشكي إلي النفس مجهشة

و قد حملتك سبعا بعد سبعينا

فرجع إلى مخاطبة نفسه، و قد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب. و منه قول الله و هو أصدق قيل و أثبت حجة: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، و لم يقل:" و جرين بكم". و الشواهد من الشعر و كلام العرب في ذلك أكثر من أن تحصى، و فيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه. فقراءة:" مالك يوم الدين" محظورة غير جائزة، لإِجماع جميع الحجة من القراء و علماء الأَمة على رفض القراءة بها. القول في تأويل قوله تعالى: يَوْمِ الدِّينِ‏ قال أبو جعفر:

و الدين في هذا الموضع بتأويل الحساب و المجازاة بالأَعمال، كما قال كعب بن جعيل:

إذا ما رمونا رميناهم‏

و دناهم مثل ما يقرضونا

و كما قال الآخر:

و اعلم و أيقن أن ملكك زائل‏

و اعلم بأنك ما تدين تدان‏

يعني ما تجزي تجازى. و من ذلك قول الله جل ثناؤه: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ‏ يعني بالجزاء وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ‏ يحصون ما تعملون من الأَعمال. و قوله تعالى: فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ‏ يعني غير مجزيين بأعمالكم و لا محاسبين. و للدين معان في كلام العرب غير معنى الحساب و الجزاء سنذكرها في أماكنها إن شاء الله. و بما قلنا في تأويل قوله: يَوْمِ الدِّينِ‏ جاءت الآثار عن السلف من المفسرين، مع تصحيح الشواهد لتأويلهم الذي تأولوه في ذلك. حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ : يَوْمِ الدِّينِ‏ قال: يوم حساب الخلائق هو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير و إن شرا فشر، إلا من عفا عنه، فالأَمر أمره. ثم قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ و حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، فال: حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن أبي مالك، و عن أبي صالح، عن ابن عباس، و عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، و عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم‏ : ملك يوم الدين: هو يوم الحساب.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 53

قال: يوم يدين الله العباد بأعمالهم. و حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال:

حدثني حجاج، عن ابن جريج‏ : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ قال: يوم يدان الناس بالحساب. القول في تأويل قوله تعالى:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ قال أبو جعفر: و تأويل قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ اللهم نخشع، و نذل، و نستكين، إقرارا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ ، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه و سلم: قل يا محمد: إياك نعبد، إياك نوحد و نخاف و نرجو يا ربنا لا غيرك. و ذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا، و إنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع، و نذل، و نستكين، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو و نخاف، و إن كان الرجاء و الخوف لا يكونان إلا مع ذلة؛ لأَن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، و أنها تسمي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأَقدام و ذللته السابلة: معبدا. و من ذلك قول طرفة بن العبد:

تباري عتاقا ناجيات و أتبعت‏

وظيفا وظيفا فوق مور معبد

يعني بالمور: الطريق، و بالمعبد: المذلل الموطوء. و من ذلك قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: معبد، و منه سمي العبد عبدا لذلته لمولاه. و الشواهد من أشعار العرب و كلامها على ذلك أكثر من أن تحصى، و فيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ قال أبو جعفر: و معنى قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و إياك ربنا نستعين على عبادتنا إياك و طاعتنا لك و في أمورنا كلها لا أحد سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الأَوثان دونك، و نحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة. كالذي: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثني بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ : وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ قال: إياك نستعين على طاعتك و على أمورنا كلها. فإن قال قائل: و ما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته؟ أو جائز و قد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا و هو على قوله ذلك معان، و ذلك هو الطاعة، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه؟ قيل: إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه؛ و إنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داع أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته، دون ما قد تقضى و مضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره. و جازت مسألة العبد ربه ذلك لأَن إعطاء الله عبده ذلك مع تمكينه جوارحه لأَداء ما كلفه من طاعته و افترض عليه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضل به عليه، و لطف منه لطف له فيه؛ و ليس في تركه التفضل على بعض عبيده بالتوفيق مع اشتغال عبده بمعصيته و انصرافه عن محبته، و لا في بسطه فضله على بعضهم مع إجهاد العبد نفسه في محبته و مسارعته إلى طاعته، فساد في تدبير و لا جور في حكم، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله، و أمره عبده بمسألته عونه على طاعته. و في أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر، الذين أحالوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 54

أو يكلفه فرض عمل إلا بعد إعطائه المعونة على فعله و على تركه. و لو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا؛ لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته، إذ كان على قولهم مع وجود الأَمر و النهي و التكليف حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبده ذلك أو ترك مسألة ذلك؛ بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور. و لو كان الأَمر في ذلك على ما قالوا، لكن القائل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ إنما يسأل ربه أن لا يجور. و في إجماع أهل الإِسلام جميعا على تصويب قول القائل: اللهم إنا نستعينك؛ و تخطئتهم قول القائل: اللهم لا تجر علينا، دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفت قولهم، إن كان تأويل قول القائل عندهم: اللهم إنا نستعينك، اللهم لا تترك معونتنا التي ترككها جور منك. فإن قال قائل: و كيف قيل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ فقدم الخبر عن العبادة، و أخرت مسألة المعونة عليها بعدها؟ و إنما تكون العبادة بالمعونة، فمسألة المعونة كانت أحق بالتقديم قبل المعان عليه من العمل و العبادة بها. قيل: لما كان معلوما أن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه، و كان محالا أن يكون العبد عابدا إلا و هو على العبادة معان، و أن يكون معانا عليها إلا و هو لها فاعل؛ كان سواء تقديم ما قدم منهما على صاحبه، كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إليك في قضائها: قضيت حاجتي فأحسنت إلي، فقدمت ذكر قضائه حاجتك. أو قلت: أحسنت إلي فقضيت حاجتي، فقدمت ذكر الإِحسان على ذكر قضاء الحاجة؛ لأَنه لا يكون قاضيا حاجتك إلا و هو إليك محسن، و لا محسنا إليك إلا و هو لحاجتك قاض. فكذلك سواء قول القائل: اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على عبادتك، و قوله: اللهم أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد. قال أبو جعفر: و قد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، كما قال امرؤ القيس:

و لو أن ما أسعى لأَدنى معيشة

كفاني و لم أطلب قليل من المال‏

يريد بذلك: كفاني قليل من المال و لم أطلب كثيرا. و ذلك من معنى التقديم و التأخير، و من مشابهة بيت امرئ القيس بمعزل؛ من أجل أنه قد يكفيه القليل من المال و يطلب الكثير، فليس وجود ما يكفيه منه بموجب له ترك طلب الكثير. فيكون نظير العبادة التي بوجودها وجود المعونة عليها، و بوجود المعونة عليها وجودها، و يكون ذكر أحدهما دالا على الآخر، فيعتدل في صحة الكلام تقديم ما قدم منهما قبل صاحبه أن يكون موضوعا في درجته و مرتبا في مرتبته. فإن قال: فما وجه تكراره: إِيَّاكَ‏ مع قوله: نَسْتَعِينُ‏ و قد تقدم ذلك قبل نعبد؟ و هلا قيل: إياك نعبد و نستعين، إذ كان المخبر عنه أنه المعبود هو المخبر عنه أنه المستعان؟ قيل له: إن الكاف التي مع" ايا"، هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل، أعني بقوله: نَعْبُدُ لو كانت مؤخرة بعد الفعل. و هي كناية اسم المخاطب المنصوب بالفعل، فكثر ب" ايا" متقدمة، إذ كان الأَسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد، فلما كانت الكاف من" إياك" هي كناية اسم المخاطب التي كانت تكون كافا وحدها متصلة بالفعل إذا كانت بعد الفعل، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به، فيقال: اللهم إنا نعبدك و نستعينك و نحمدك و نشكرك؛ و كان ذلك أفصع في كلام العرب من أن يقال: اللهم إنا نعبدك و نستعين و نحمد؛ كان كذلك إذا قدمت كناية اسم المخاطب قبل الفعل موصولة ب" ايا"، كان الأَفصح‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 55

إعادتها مع كل فعل. كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلة به، و إن كان ترك إعادتها جائزا. و قد ظن بعض من لم يمعن النظر أن إعادة" إياك" مع" نستعين" بعد تقدمها في قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ بمعنى قول عدي بن زيد العبادي:

و جاعل الشمس مصرا لا خفاء به‏

بين النهار و بين الليل قد فصلا

و كقول أعشى همدان:

بين الأَشج و بين قيس باذخ‏

بخ بخ لوالده و للمولود

و ذلك جهل من قائله؛ من أجل أن حظ" إياك" أن تكون مكررة مع كل فعل لما وصفنا آنفا من العلة، و ليس ذلك حكم" بين" لأَنها لا تكون إذا اقتضت اثنين إلا تكريرا إذا أعيدت، إذ كانت لا تنفرد بالواحد.

و أنها لو أفردت بأحد الاسمين في حال اقتضائها اثنين كان الكلام كالمستحيل؛ و ذلك أن قائلا لو قال: الشمس قد فصلت بين النهار، لكان من الكلام خلفا لنقصان الكلام عما به الحاجة إليه من تمامه الذي يقتضيه" بين". و لو قال القائل:" اللهم إياك نعبد" لكان ذلك كلاما تاما. فكان معلوما بذلك أن حاجة كل كلمة كانت نظيرة" إياك نعبد" إلى" إياك" كحاجة" نعبد" إليها، و أن الصواب أن تكرر معها" إياك"، إذ كانت كل كلمة منها جملة خبر مبتدأ، و بينا حكم مخالفة ذلك حكم" بين" فيما وفق بينهما الذي وصفنا قوله. القول في تأويل قوله تعالى‏

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال أبو جعفر: و معنى قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ في هذا الموضع عندنا: وفقنا للثبات عليه، كما روي ذلك عن ابن عباس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ قال:

قال جبريل لمحمد: و قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم"، يقول: ألهمنا الطريق الهادي. و إلهامه إياه ذلك هو توفيقه له كالذي قلنا في تأويله. و معناه نظير معنى قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ في أنه مسألة العبد ربه التوفيق للثبات على العمل بطاعته، و إصابة الحق و الصواب فيما أمره به و نهاه عنه فيما يستقبل من عمره دون ما قد مضى من أعماله و تقضى فيما سلف من عمره، كما في قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ مسألة منه ربه المعونة على أداء ما قد كلفه من طاعته فيما بقي من عمره. فكان معنى الكلام: اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك، مخلصين لك العبادة دون ما سواك من الآلهة و الأَوثان، فأعنا على عبادتك، و وفقنا لما وفقت له من أنعمت عليه من أنبيائك و أهل طاعتك من السبيل و المنهاج. فإن قال قائل:

و أنى وجدت الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق؟ قيل له: ذلك في كلامها أكثر و أظهر من أن يحصى عدد ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد، فمن ذلك قول الشاعر:

لا تحرمني هداك الله مسألتي‏

و لا أكونن كمن أودى به السفر

يعنى به: وفقك الله لقضاء حاجتي. و منه قول الآخر:

و لا تعجلني هداك المليك‏

فإن لكل مقام مقالا

فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإِصابة الحق في أمري. و منه قول الله جل ثناؤه: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏ في غير آيه من تنزيله. و قد علم بذلك أنه لم يعن أنه لا يبين للظالمين الواجب عليهم من فرائضه.

و كيف يجوز أن يكون ذلك معناه، و قد عم بالبيان جميع المكلفين من خلقه؟ و لكنه عنى جل و عز، أنه‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 56

لا يوفقهم، و لا يشرح للحق و الإِيمان صدورهم. و قد زعم بعضهم أن تأويل قوله: اهْدِنَا زدنا هداية.

و ليس يخلو هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكون قائله قد ظن أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بمسألة ربه الزيادة في البيان، أو الزيادة في المعونة و التوفيق. فإن كان ظن أنه أمر بمسألة الزيادة في البيان فذلك ما لا وجه له؛ لأَن الله جل ثناؤه لا يكلف عبدا فرضا من فرائضه إلا بعد تبيينه له و إقامة الحجة عليه به. و لو كان معنى ذلك معنى مسألته البيان، لكان قد أمر أن يدعو ربه أن يبين له ما فرض عليه، و ذلك من الدعاء خلف؛ لأَنه لا يفرض فرضا إلا مبينا لمن فرضه عليه، أو يكون أمر أن يدعو ربه أن يفرض عليه الفرائض التي لم يفرضها. و في فساد وجه مسألة العبد ربه ذلك ما يوضح عن أن معنى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ غير معنى بين لنا فرائضك و حدودك، أو يكون ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في المعونة و التوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلو مسألته تلك الزيادة من أن تكون مسألة للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدث. و في ارتفاع حاجة العبد إلى المعونة على ما قد تقضى من عمله ما يعلم أن معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألته الزيادة لما يحدث من عمله. و إذا كان ذلك كذلك صار الأَمر إلى ما وصفنا و قلنا في ذلك من أنه مسألة العبد ربه التوفيق لأَداء ما كلف من فرائضه فيما يستقبل من عمره. و في صحة ذلك فساد قول أهل القدر الزاعمين أن كل مأمور بأمر أو مكلف فرضا، فقد أعطي من المعونة عليه ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجته إلى ربه؛ لأَنه لو كان الأَمر على ما قالوا في ذلك لبطل معنى قول الله جل ثناؤه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و في صحة معنى ذلك على ما بينا فساد قولهم. و قد زعم بعضهم أن معنى قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ : أسلكنا طريق الجنة في المعاد، أي قدمنا له و امض بنا إليه، كما قال جل ثناؤه: فَاهْدُوهُمْ إِلى‏ صِراطِ الْجَحِيمِ‏ أي أدخلوهم النار؛ كما تهدى المرأة إلى زوجها، يعني بذلك أنها تدخل إليه، و كما تهدى الهدية إلى الرجل، و كما تهدي الساق القدم؛ نظير قول طرفة بن العبد:

لعبت بعدي السيول به‏

و جرى في رونق رهمه‏

للفتى عقل يعيش به‏

حيث تهدي ساقه قدمه‏

أي ترد به الموارد. و في قول الله جل ثناؤه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل مع شهادة الحجة من المفسرين على تخطئته؛ و ذلك أن جميع المفسرين من الصحابة و التابعين مجمعون على أن معنى" الصراط" في هذأ الموضع غير المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، و أن قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ مسألة العبد ربه المعونة على عبادته، فكذلك قوله" اهدنا"، إنما هو مسألة الثبات على الهدى فيما بقي من عمره. و العرب تقول: هديت فلانا الطريق، و هديته للطريق، و هديته إلى الطريق: إذا أرشدته إليه و سددته له. و بكل ذلك جاء القرآن، قال الله جل ثناؤه: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا و قال في موضع آخر: اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ و قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و كل ذلك فاش في منطقها موجود في كلامها، من ذلك قول الشاعر:

أستغفر الله ذنبا لست محصيه‏

رب العباد إليه الوجه و العمل‏

يريد: أستغفر الله لذنب، كما قال جل ثناؤه: وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏ و منه قول نابغة بني ذبيان:

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 57

فيصيدنا العير و المدل بحضره‏

قبل الونى و الأَشعب النباحا

يريد: فيصيد لنا. و ذلك كثير في أشعارهم و كلامهم، و فيما ذكرنا القول في تأويل قوله تعالى: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال أبو جعفر: أجمعت الأَمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. و كذلك ذلك في لغة جميع العرب؛ فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوج الموارد مستقيم‏

يريد على طريق الحق. و منه قول الهذلي أبي ذؤيب:

صبحنا أرضهم بالخيل حتى‏

تركناها أدق من الصراط

و منه قول الراجز:

فصد عن نهج الصراط القاصد

و الشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، و فيما ذكرنا غنى عما تركنا. ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول و عمل وصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، و المعوج باعوجاجه. و الذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ أن يكونا معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته و وفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول و عمل. و ذلك هو الصراط المستقيم، لأَن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين و الصديقين و الشهداء، فقد وفق للإِسلام، و تصديق الرسل، و التمسك بالكتاب، و العمل بما أمر الله به، و الانزجار عما زجره عنه، و اتباع منهج النبي صلى الله عليه و سلم، و منهاج أبي بكر و عمر و عثمان و علي، و كل عبد لله صالح. و كل ذلك من الصراط المستقيم. و قد اختلفت تراجمة القرآن في المعني بالصراط المستقيم، يشمل معاني جميعهم في ذلك ما اخترنا من التأويل فيه. و مما قالته في ذلك، ما روي عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال و ذكر القرآن فقال:" هو الصراط المستقيم". حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا حسين الجعفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه و سلم. و حدثنا عن إسماعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه و سلم‏ مثله. و حدثنا أحمد بن إسحاق الأَهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن أبن أخي الحارث الأَعور، عن الحارث، عن علي، قال:" الصراط المستقيم كتاب الله تعالى". حدثنا أحمد بن إسحاق الأَهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان ح. و حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال. حدثنا مهران، عن سفيان، عن منصور عن أبي وائل، قال: قال عبد الله‏ : و الصراط المستقيم كتاب الله". حدثني محمود بن خداش الطالقاني، قال: حدثنا حميد بن عيد الرحمن الرواسي، قال: حدثنا علي و الحسن ابنا صالح جميعا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله‏ : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال: الإِسلام، قال:

هو أوسع مما بين السماء و الأَرض. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال:

حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ ، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد: اهدنا الصراط المستقيم، يقول ألهمنا الطريق الهادي و هو دين الله الذي لا عوج له. و حدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفرات بن السائب،

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 58

عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس‏ في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال: ذلك الإِسلام. و حدثني محمود بن خداش، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي، عن إسماعيل الأَزرق، عن أبي عمر البزار، عن ابن الحنفية في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال: هودين الله الذي لا يقبل من العباد غيره. و حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة القناد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، و عن أبي صالح عن ابن عباس، و عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، و عن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم‏ : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال: هو الإِسلام. و حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس‏ في قوله:

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال: الطريق. حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآملي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن أبي المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال: هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحباه من بعده: أبو بكر و عمر. قال: فذكرت ذلك للحسن، فقال: صدق أبو العالية و نصح. و حدثني يونس بن عبد الأَعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم‏ : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ قال: الإِسلام. حدثنا المثنى، قال:

حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، أن عبد الرحمن بن جبير، حدثه عن أبيه، عن نواس بن سمعان الأَنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم‏ قال: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما".

و الصراط: الإِسلام. حدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه عن نواس بن سمعان الأَنصاري، عن النبي صلى الله عليه و سلم‏ بمثله. قال أبو جعفر: و إنما وصفه الله بالاستقامة، لأَنه صواب لا خطأ فيه.

و قد زعم بعض أهل الغباء أنه سماه مستقيما لاستقامته بأهله إلى الجنة، و ذلك تأويل لتأويل جميع أهل التفسير خلاف، و كفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه. القول في تأويل قوله:

صفحه بعد