کتابخانه تفاسیر
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى
المجلد الاول
المجلد الثانى
المجلد الثالث
المجلد الرابع
المجلد الخامس
المجلد السادس
سورة آل عمران
المجلد السابع
سورة النساء مدينة و آيها مائة و سبعون و خمس آيات
سورة المائدة مائة و عشرون آية
المجلد الثامن
سورة الأنعام مكية و هي مائة و خمس و ستون آية
سورة الأعراف و هي مكية غير ثمان آيات
المجلد العاشر
سورة هود مكية و هي مائة و ثلاث و عشرون آية
سورة يوسف مكية و آيها مائة و إحدى عشر آية قيل إلا ثلاث آيات من أولها
سورة الرعد و هي خمس و أربعون آية
المجلد الحادى عشر
سورة إبراهيم
سورة الحجر مكية و هي تسع و تسعون آية
سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في آخرها و هي مائة و ثمان و عشرون آية
سورة الإسراء مكية قيل إلا قوله و إن كادوا إلى آخر ثمان آيات و هي مائة و عشر آيات
المجلد الثانى عشر
سورة الكهف مكية و هي مائة و إحدى عشر آية
سورة مريم مكية إلا آية السجدة و هي ثمان أو تسع و تسعون آية
سورة طه مكية و هي مائة و أربع و ثلاثون آية
سورة الأنبياء
المجلد الثالث عشر
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
المجلد الرابع عشر
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
المجلد الخامس عشر
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبأ
المجلد السادس عشر
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
المجلد السابع عشر
سورة المؤمن و تسمى سورة غافر و سورة الطول مكية
سورة فصلت
سورة الشورى(حم عسق)
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
المجلد الثامن عشر
سورة محمد
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق و القرآن المجيد
سورة و الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
المجلد التاسع عشر
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة المنافقين
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم
سورة الملك
سورة ن
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
المجلد العشرون
سورة النبا
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانفطار
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة البروج
سورة الطارق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
سورة الليل
سورة العلق
سورة العاديات
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى، ج2، ص: 363
قوله: (أو لتمكنهم من العلم به) فيكون إخراجا للكلام على مقتضى خلاف الظاهر موافقا لمقتضى الحال فإن غير العالم قد ينزل منزلة العالم لوضوح الدليل القائم أشار إليه بقوله (بأدنى نظر) أي بنظر سهل غير عميق فيلقى إليه الكلام الذي يليق أن يلقى إلى العالم بالفعل و أنت خبير بأنه لما دل الآيتان المذكورتان على علمهم بذلك فما الباعث إلى التنزيل المذكور إلا أن يقال إن هذا بالنسبة إلى من لا يعلم من الدهري كما قيل «1» في قوله تعالى: قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] فإن الكلام مع فرعون و هو دهري غير عارف فنزل تمكنه من العلم به منزلته فكذا هنا لكن وجود الدهري في المخاطبين المشركين محل تأمل فالاكتفاء بالأول أحسن و أولى و القول بأنهم غير معترفين بغاية الخلق و إن اعترفوا بنفسه كما ينطق به قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ [التوبة: 65] الآية قليل الجدوى فإنه لا معنى لغاية الخلق و نفسه و إن أراد كيفية الخلق فكل الناس سواء فيه فإذا اعترفوا بأنه تعالى خالق الكل كما نطق به الآيتان أو لتمكنهم من العلم به حسن إخراج الجملة يخرج المفرد عندهم و أما التوحيد فلا تعرض له في هذه الجملة صريحا و إن لزم فلا معنى للإشكال بأن تمكنهم بأدنى نظر إنما هو العلم بوجود الصانع و أما كونه واحد أو خالق الكل فيحتاج حصول العلم به إلى مزيد تأمل على أن الفرق تحكم لأن المراد بالتمكن لقوة برهانه و ترك التعقيب و التمسك بالإنصاف و النظر الصحيح في ترتيب مقدماته فلا ريب أن لا فرق بينهما.
قوله: (و قرىء من قبلكم) بفتح الميم القراءة المشهورة بمن المكسورة الجارة و التقدير و الذين خلقهم قبل خلقكم فحذف الفعل الذي صلته و أقيم متعلقه مقامه كما قاله أبو البقاء يعني أن من قبلكم ظرف مستقر و قد مر أن الفعل الخاص يليق بالتقدير في الظرف المستقر إذا قامت قرينة عليه و هنا كذلك فلا وجه لاشكال البعض بأن من قبلكم ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة «2» .
بخلاف وَ الَّذِينَ [البقرة: 21] في الآية فإنه غير مفيد فكيف يجوز تأكيده أقول و لعل هذا هو جهة إشكال هذه القراءة عنده ثم قال و الجواب إن الذين مفيد أيضا فائدة الإشارة و إن كان المشار إليه مبهما و لهذا يرجع الضمير إليه و الضمير إنما يرجع إلى المفيد فإنك تقول الذي فعلته و قال الشيرازي و أنا لا استحسن هذا الكلام سؤالا و جوابا فإن ذلك بمنزلة التأكيد اللفظي فإنه قد يكون بإعادة عين اللفظ الأول و قد يكون بذكر مرادفه و ذلك جار في الحروف فضلا عن الموصولات ثم الجواب أن تيم و هو الذي يقول في المفصل و الموصول ما لا بد له في تمامه اسما من جملة تردفه من الجمل التي تقع صفات و لعمري إن في الاعتراف بإشكاله تسامحا لأن التأكيد اللفظي بمرادف كثير و بإعادة عينه أكثر و قد ذهب الأخفش في نحو ما إن زيد قائم إلى أن إن للتأكيد.
(1) إلا أن يقال إن الخطاب عام للمشركين قاطبة غير مختص بأهل مكة و لا شك في وجود الدهري حين النزول في اقطار الأرض.
(2) قيل و قد أشكل بأن الجار و المجرور لا يصح أن يكون صلة إذا جاز أن يخبر به عن المبتدأ و من قبلكم ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة فلا يصح أن يقع إلا بتأويل فكذلك حكمه في الصلة و تأويله-
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى، ج2، ص: 364
قوله: (على اقحام الموصول الثاني بين الأول و صلته) دفع إشكال بأن فيها موصولين و الصلة واحدة أو بأن الموصول الثاني مع صلته مفرد فلا يصلح أن يكون صلة للأول و الأظهر هو الأول فدفعه بأن الموصول الثاني مقحم أي زائد و أصل معنى الإقحام إدخال شيء في آخر بعنف ثم استعمل في الزيادة لأنها من قبيل الإدخال المذكور بدون ملاحظة عنف.
قوله: (تأكيدا) أي تأكيدا لفظيا «1» بمرادفه كتأكيد الضمير «2» المرفوع المتصل بالضمير المنصوب و أما قوله قدس سره إنه تأكيد لفظي إلا أنه عدل عن اللفظ الأول إلى ما هو بمعناه احترازا عن بشاعة التكرار فيؤدي إلى السخافة لأنه يستلزم أن لا يقع التأكيد بتكرير اللفظ الأول في كلام الفصحاء لا سيما في كلام اللّه الأعلى قال المصنف في سورة المرسلات مع أن التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب نعم يرد عليه أن الموصول بدون صلته لا يفيد شيئا فكيف يؤكد و لو بمرادفه أو بالتأكيد المعنوي و من ههنا اختار بعضهم أن من موصولة أو موصوفة و هي خبر مبتدأ مقدر فما بعده صلة أو صفة و هو مع المقدر صلة الموصول الأول أي الذين هم أشخاص كائنون قبلكم و جوابه على ما نقل عن صاحب الكشاف أن الموصول يفيد الإشارة و إن كان المشار إليه مبهما و لهذا يرجع الضمير إليه و الضمير إنما يرجع إلى المفيد فإنك تقول الذي فعلته و الحروف يجري فيها التأكيد مع أنها غير مفيدة بدون متعلقه و لو كان عدم الإفادة مانعا من التأكيد لم يجز ذلك فيها فالموصول لكونه اسما أولى بذلك و إلى هذا التفصيل أشار صاحب الكشف إجمالا فقول البعض إن النحاة قد نصوا على امتناع تأكيد الموصول قبل تمامه بصلته «3» غير مسلم عند الشيخين.
قوله: (كما أقحم جرير في قوله:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم
تيما الثاني بين الأول و ما أضيف إليه )
تأييد لصحة كون الموصول قبل صلته مؤكدا لأنه مستبعد لما عرفت بقول الشاعر حاصله أن المضاف إليه بمنزلة جزء المضاف و مع ذلك يؤكد فكذا هنا و تيم بفتح التاء الفوقية و سكون الياء التحتية أصله العبد و منه تيم اللّه ثم سمي به عدة قبائل و منها تيم عدي منها عمر المذكور و هو عمر بن لجاء أي يا تيم تيم عدي لا أبا لكم لا يلقينكم في سوأ عمر و لا أبا لكم كلمة مدح و المعنى لا يوقعنكم عمر في مكروه لأجل تعرضه لمهاجاتي فامنعوه عن مهاجاتي حتى تأمنوا عن شري فخاطب جرير قبيلته لما بلغه عنه أنه هجأ و قال لهم لا تتركوا عمر أن يهجوني فيصيبكم شري بأن أهجوكم بسببه فمراده بالشر و المكروه
- أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة الواضحة صح الإخبار به و الوصل فتقول نحن في يوم طيب و ما هنا بتقدير في زمان قبل زمانكم و جوابه ما ذكر في أصل الحاشية.
(1) و جوز كون المراد مجرد التقرير لأن الزياة تفيد تقوية الكلام في كلامهم لكن الحمل على التأكيد الاصطلاحي حسبما أمكن أحسن و قد عرفت الإمكان.
(2) و مثل هنيئا مريئا كما نقل عن الشيخ الرضي.
(3) سواء كان تأكيدا اصطلاحيا أو غير اصطلاحي.
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى، ج2، ص: 365
الهجو و يجوز في تيم الأول الضم و الفتح و الثاني مفتوح فقط و تفصيله مذكور في النحو قوله الثاني مفعول أقحم أي تيم الأول مضاف إلى عدي و الثاني مقحم بينهما للتأكيد.
قوله: (حال من الضمير في اعْبُدُوا [البقرة: 21]) فحينئذ يجعل قوله تعالى:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] مبتدأ خبره فلا تجعلوا بتأويل كما سيأتي فلا يرد اعتراض المحقق التفتازاني بأنه على هذا التقدير يلزم توسيط بين وصفي مفعول العامل في الحال فإن الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] موصول بربكم صفة أو مدحا منصوبا أو مرفوعا رجح هذا الاحتمال لأن كونه حالا من مفعول خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] يحتاج إلى التأويل كما ستعرفه فلهذا السر اختار الأبعد أولا ثم الإشارة إلى الأقرب فلا يقال إنه قطع من الأقرب إلى الأبعد بلا جهة.
قوله: (كأنه قال اعبدوا ربكم راجين) حمل لعل على الترجي و هو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع و لما كان هذا محالا عليه تعالى شأنه حمل على الرجاء للمخاطب فإنه كما يجيء لرجاء المتكلم يجيء لرجاء المخاطب و لرجاء غيرهما و الظاهر أنه حقيقة في الكل كما صرح به بعض المحشيين «1» و الأظهر أنه حقيقة في رجاء المتكلم و يؤيده قولهم إنه لإنشاء الترجي و الإنشاء لا يكون إلا من المتكلم و قال الرضي إن لعل إذا وقعت في كلام علام الغيوب تكون لرجاء المخاطبين عند سيبويه و هو الحق لأن الأصل في الكلمة أن لا تخرج عن معناها بالكلية انتهى. فهو أيضا مؤيد لما قلنا لكن الإنشاء لما لم يقع حالا أوله براجين كما قيل أو لما لم يكن لعل هنا لإنشاء الترجي لأنه ليس من المتكلم و لا معنى لإنشاء المتكلم رجاء المخاطب تمحض لمعنى الرجاء و تأويله براجين لكون الجملة في معنى المفرد و لذا اكتفى بالضمير عن الواو مع أن الجملة اسمية و الضمير المستتر في راجين ضمير الخطاب و لا يلزم وجوب القيد من وجوب المقيد فلا إشكال بأن الحال قيد لعاملها و هو الأمر هنا و الأصل فيه الوجوب فيقتضي وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها مع أن ذلك الرجاء ليس بواجب على أن الأمر هنا أعم من الوجوب كما قوله: راجين أن ينخرطوا هذا على حمل معنى الترجي في لعل على الحقيقة بخلاف جعله حالا من مفعول خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] فإنه على المجاز المستعار و لا يجوز حمله على الحقيقة بأن يكون المعنى خلقكم راجين للتقوى لأنهم في وقت خلقهم لم يكن لهم شعور بالرجاء و لا بالتقوى و اعترض عليه بأنه لم لا يجوز أن يكون حالا مقدرة لا يقال لأنهم في حال الخلق ليسوا بمقدرين الرجاء كما أنهم ليسوا براجين لأنا نقول هب أنه لا يجوز أن يكونوا مقدرين للرجاء بكسر الدال فيكونوا مقدرين للرجاء بالفتح كما في قوله تعالى: وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا [الصافات: 112] فإن معناه على ما في الكشاف و بشرناه بوجود إسحاق نبيا أي بأن يوجد مقدرا نبوته.
(1) و هو السيالكوتي حيث قال يعني إن لعل على حقيقتها و هي الترجي سواء من المتكلم أو المخاطب أو غيرهما انتهى و العهدة عليه.
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى، ج2، ص: 366
هو الظاهر و فيه كلام في الأصول كذا قيل و لمتانة الاشكال رجح الاحتمال الأخير و إن كان فيه إشكال آخر كما ستعرفه و بعضهم حمل الأمر على الاستحباب لكن لا يلائم قول المصنف فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به فإنه يقتضي حمله على الوجوب و إن لم يحمل عليه فلا أقل من حمله على أعم من الوجوب فالتعويل على ما ذكرناه من أنه لا يلزم من وجوب المقيد وجوب القيد بل الفائدة من التقييد الإرشاد إلى ما هو أكمل العبادات و أفضل الطاعات فإنه أفضل المناجاة.
قوله: (أن تنخرطوا في سلك المتقين) الانخراط بمعنى النظم و لهذا اقترنه بالسلك و هو الخيط الذي ينتظم فيه الدرر و فيه استعارة بديعة فكن على بصيرة و مثل هذا لا يلزم أن يسمع بخصوصه من العرب بل لا بدّ من أن يسمع نوعه و في قوله (الفائزين بالهدى) إشارة إلى أن المراد بالتقوى هنا هي المرتبة الثالثة فلا وجه للإشكال بأنه لا معنى لتقييد العبادة برجاء التقوى لأن الرجاء ينافي الحصول و هذا عجب إذ أرباب التقوى بالمرتبة الأولى و الثانية مأمورون بالعبادة راجين بوصول هذه المرتبة الثالثة و أما أصحاب المرتبة الثالثة و إن كان الأمر المذكور يتناولهم لكنه ليس مخصوصا بهم بل يتناول أهل المرتبتين كما سلف فأسند ما هو لأغلب الافراد من الرجاء إلى الكل و هو شائع في كلامهم أو بالنسبة إليهم رجاء ثباتهم إذ قد عرفت في توضيح قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] أن السير في معرفة اللّه تعالى غير متناه بل السير إلى معرفة اللّه تعالى أيضا غير متناه و من هذا ينكشف أن حمل التقوى على المرتبة الثانية بل الأولى صحيح هنا بالحمل على رجاء دوامها و ثباتها فكأن أرباب الحواشي ذهلوا عن التحقيق في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] و أطنبوا الكلام ههنا بلا طائل الفائزين بالهدى في الدنيا آية مرتبة من الهداية قال المصنف في تفسير قوله تعالى: اهْدِنَا [الفاتحة: 6] الآية فإذا قاله العارف الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك انتهى. و إذا نظر إلى أن العارف الواصل داخل تحت الأمر هنا فالمعنى بالنسبة إليهم اعبدوا ربكم راجين طريق السير في العرفان في كل حين و زمان و أما بالنسبة إلى غير العارفين فالمعنى اعبدوا ربكم راجين الوصول إلى مرتبة العارفين فإن الوصول إليها مطلوب المقربين (و الفلاح) في العقبى و إنما ذكره لدفع ما قيل «1» إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادة ربهم ما هو لذة لهم و هو الثواب الجزيل و إن كان التقوى مفضيا إليه وجه الدفع هو أن التعرض إلى السبب تعرض إلى المسبب و هو الثواب المسبب عن التقوى و بهذا علم غاية متاعبهم التي لأجلها يستحقر مشاقها مع الإشارة الخفية العلية إلى أن العابد ينبغي أن يرجو بعبادته الوصول إلى المرتبة العليا من التقوى و هي أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق و يتبتل إليه بشراشره و هذه لذة الروحانية التي ينسى في جنبها جميع لذة الجسمانية و غفل عن هذه النكتة الأنيقة كثير
(1) غايته يلزم الجمع بين الحقيقة و المجاز إن قيل إن الدوام في الشيء يكون اطلاق الشيء عليه مجازا و هو جائز عند المصنف ذلك أن تقول لعموم المجاز.
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى، ج2، ص: 367
من المهرة و ظنوا أن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر ما هو لذة لهم الخ.
قوله: (المستوجبين) بصيغة التثنية صفة للهدى و الفلاح موضحة أو مادحة أي المقتضيين (لجوار اللّه تعالى) بمقتضى وعده تعالى و جوز كونه بصيغة الجمع صفة للمتقين و الميل إلى القرب أقرب و المراد بالجوار التقرب المعنوي منه تشبيها للمعقول بالمحسوس استعارة مصرحة و يحتمل التمثيل.
قوله: (نبه على أن التقوى منتهى درجات السالكين) و أول منازل الواصلين العارفين لما عرفت في سورة الفاتحة من أن العارف لا نهاية في سيره كلما ألقى عصاه بدا له سفر و المراد بالتقوى المرتبة الثالثة و من هذا قال (و هو التبرؤ من كل شيء سوى اللّه إلى اللّه) حتى من نفسه و إذا أراد أن يرى شيئا رأى اللّه قبله أو معه وجه التنبيه هو أنه تعالى لما أمر بالعبادة و هي نفس المرتبة الثانية من التقوى و هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك علم أن المراد بالتقوى المرجو حصولها هو التقوى الحقيقي و هي المرتبة الأولى و كونه منتهى درجات السالكين فإنه لو كان مرتبة فوق تلك المرتبة لقيد الأمر بالعبادة بتلك المرتبة و التعبير بالتنبيه للاشعار بأن ذلك مما يمكن بالالتفات إليه أن يعلم فيكون بمنزلة البديهي و ما سبق في بيانه كالتنبيه عليه قيل و بقوله نبه الخ اندفع ما قاله قدس سره في شرح المفتاح من أنه لا فائدة في جعله حالا من فاعل اعْبُدُوا [البقرة: 21].
قوله: (و أن العابد) أي نبه به على أن العابد كله على أن اللام للاستغراق و لاستغراق المفرد أشمل كما قيل اختاره (ينبغي) أي يجب (أن لا يغتر بعبادته) حيث إنه تعالى أمره بالعبادة راجيا دخوله في سلسلة المتقين الفائزين غير جازم إياه إذ الاعتبار بالخواتم و هي غير معلومة و إلى هذا أشار بقوله (و يكون ذا خوف و رجاء) و أريد ذلك حيث قال (كما قال تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً [السجدة: 16] وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: 57]) داعين إياه خوفا من سخطه و إن كان محسنا في عبادته فإن كثيرا من الأولياء فضلا عن سائر الأتقياء أدركهم الشقاء المؤيد نعوذ باللّه الذي غمر عباده باللطف المخلد فكيف ينبغي لهم أن يغتر بعبادتهم و يعد ظهور الفائدة الرشيقة اندفع ما قاله المحقق التفتازاني و تبعه غيره من أن تقييد العبادة بترجي التقوى (و ما يترتب عليها من المثوبة الحسنى ليس له كثير فائدة و معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى و اقترانها برجاء ثواب التقوى و الاندفاع ظاهر و مراده تزييف كون لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] حالا من ضمير قوله: نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين هذا المعنى مستفاد من جعل رجاء التقوى علة غائية للعبادة يجعل جملة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] حالا من فاعل اعْبُدُوا فإن الحال قد تجيء في مقام التعليل كما في قولك ضربت زيدا مؤدبا فإن معناه منسحب إلى معنى ضربته للتأديب.
قوله: و أن العائد ينبغي أن لا يغتر بعبادته هذا المعنى مفاد من كلمة لعل الموضوعة للترجي الدال على عدم القطع بحصول المرجو.
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى، ج2، ص: 368
اعْبُدُوا و كذا مراده قدس سره ثم المراد بالخوف الخوف من سخطه و عقابه وجه انفهامه من النظم الجليل هو أنه لما كان حصول تلك المرتبة من التقوى و ما يترتب عليها من المثوبة الحسنى مرجوا غير مقطوع به كان حصول الخوف من العقاب منفهما من ذلك إذ لو لم يكن ذلك منفهما لكان الثواب المترتب على التقوى مقطوعا به و الملازمة و انتفاء اللازم واضحان و القول بأن ذلك غير منفهم و إن المنفهم خوف عدم حصول المرجو و كونه مرادا لا يلائم قوله كقوله تعالى: وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ [الإسراء: 57] الآية من سوء الفهم).
قوله: (أو من مفعول خَلَقَكُمْ [البقرة: 21]) عطف على قوله من الضمير في اعْبُدُوا [البقرة: 21] قوله (و المعطوف عليه) و هو الذين من قبلكم عطف على مفعول خَلَقَكُمْ و هذا مختار الزمخشري أخره المصنف لأن فيه إخراج لعل عن حقيقتها بالكلية و لا يصار إليه إلا عند التعذر و ما أورد على المصنف في الوجه الذي اختاره قد عرفت دفعه.
قوله: (على معنى أنه خلقكم و من قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى) أشار به إلى أنه على هذا الوجه لا يمكن حمل لعل على الترجي أما بالنسبة إلى المتكلم لاستحالة الترجي على علام الغيوب و أما بالنسبة إلى المخاطبين لأنهم في ابتداء الخلق لم يكونوا من أهل الرجاء و أما حين العبادة فهم من أهل الرجاء فلذا حمل عليه في ذلك الوجه و أما جعلها حالا مقدرة فلا مساغ له لأن المقدر في ابتداء الخلق التقوى لا رجاؤها كذا قيل لكن قوله لأن القدر في ابتداء الخلق التقوى لا رجاؤها ضعيف لأنه قد عرفت أنهم لم يكونوا من أهل الرجاء فيصح أن يقال إنهم حين الخلق مقدر رجاؤهم لعدم تحقق الرجاء منهم بالفعل و هو شرط الحال المقدرة غاية الأمر أنهم مقدر تقويهم كما قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] و هذا لا ينافي تقدير رجاء التقوى أيضا لكن الشيخين لم يلتفتا إليه لقلة الجدوى بل جنحا إلى الاستعارة التمثيلية و لهذا قال المصنف في صورة من يرجى منه التقوى و هذا اللفظ صريح في الاستعارة التمثيلية قيل فلا وجه لمن جعله حقيقة شبه صورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم من التقوى و تركها مع رجحانها منهم بحال الراجي و المرجو منهم و رجاؤه إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه و هو كلمة لعل كما مر نظيره في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الآية وجه التشبيه أيضا صورة منتزعة و هي كون متعلقهما غير معلوم أن يقع و أن لا قوله: أو عن مفعول خَلَقَكُمْ و المعطوف عليه أي أو حال عنه و عن الذي عطف هو عليه و هو الموصول الثاني أعني وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21].
قوله: على معنى أنه خلقكم و من قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى بيان لوجه استعارة لعل على وجه التمثيل كما قال صاحب المفتاح فشبه حال المكلف الممكن من فعل الطاعة و المعصية بحال المرتجي المتحير بين أن يفعل و أن لا يفعل ثم استعير لجانب الشبه لعل و قرينة الاستعارة علم الذي لا يخفى عليه خافية.
حاشية القونوى على تفسير البيضاوى، ج2، ص: 369
يقع مع رجحان «1» جانب الفعل و جوز أرباب الحواشي أن يكون استعارة تبعية بأن يقال استعمل كلمة لعل الموضوعة للترجي في طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه و دواعيه و الجامع ما ذكره المصنف بقوله لترجح أمره الخ أي كون متعلق كل واحد منهما غير بين أن يفعل و أن لا يفعل مع رجحان جانب الفعل و أنت خبير بأن قوله في صورة من يرجى منه التقوى صريح في الاستعارة «2» التمثيلية كما سلف نعم إنه حسن في حد ذاته لكن شرح كلام المصنف بهذا ليس بحسن قيل قال صاحب الكشاف لعل في الآية واقعة موقع المجاز لا الحقيقة لأن اللّه تعالى: خلق عباده لتعبدهم بالتكليف و ركب فيهم العقول و الشهوات و أزال العلة في إقدارهم و تمكينهم و هداهم النجدين و وضع في أيديهم زمان الاختيار و أراد منهم الخير و الشر و التقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم و هم مختارون بين الطاعة و العصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل و أن لا يفعل و لما كان هذا مبنيا على قاعدة الاعتزال لأنا لا نسلم أنه وضع زمام الاختيار في أيديهم و أراد منهم الخير و التقوى بل طلب و الإرادة غير الطلب عدل عنه المصنف فقال على معنى أنه خلقكم الخ انتهى. فإن الإرادة لا يتخلف عنها المراد عند مشايخنا أهل السنة فلا يصح أن يقال و أراد منهم الخير و التقوى فإن كثيرا من الناس لم يفعلوا الخير و التقوى فيلزم التخلف المذكور و هو محال في حقه تعالى لاستلزامه النقص و العجز و أما الطلب فيجوز تخلف المطلوب عنه إذ لا نقص فيه و أما المعتزلة فقد جوزوا تخلف المراد عن الإرادة فوقعوا في هذه الورطة العظيمة.
قوله: (لترجح أمره) «3» أي التقوى بتأويل الاتقاء أو ما ذكر أي كما أن شأن المرجو قوله: لترجح أمره أي لتردد أمر من يرتجي منه التقوى بين أن يكون و بين أن لا يكون و هذا المعنى هو الجامع بين المستعار له و المستعار منه المصحح لاستعارة لعل للمشبه أو المعنى لرجحان أمره في حصول المرجو نظرا إلى تعاقد أسبابه و دواعيه و الظاهر أن مراده من لفظ الترجح هذا المعنى الأخير لذكره الأسباب و الدواعي دون الصوارف و الأول هو الأنسب لأن يكون جامعا إذ غالب أمر الراجي التردد بين حصول مرجوه و بين لا حصوله لغلبة ظنه في الحصول دل عليه كلام صاحب الكشاف حيث قال إن قوله خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] لا يجوز أن يحمل على رجاء اللّه تقواهم لأن الرجاء لا يجوز على عالم الغيب و الشهادة و حمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد و لكن لعل في الآية واقعة موقع المجاز لا الحقيقة لأن اللّه عز و جل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ركب فيهم العقول و الشهوات و ازاح العلة في اقدامهم و تمكنهم و هداهم النجدين و وضع في أيديهم زمام الاختيار و أراد منهم الخير و التقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا الترجح أمرهم و هم مختارون بين الطاعة و العصيان كما ترجحت حال
(1) مع رجحان الفعل سواء كان بحسب الوقوع في نفس الأمر أو بنظر الراجي.
(2) و منه ظهر ضعف ما قيل و إذا تحققت جواز الوجهين أي الاستعارة التبعية و التمثيلية عرفت أن من قصر على الأول فقد قصر و كذا من قصر على الثاني أيضا.