کتابخانه تفاسیر
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 260
يبدأ المقطع بالكلام عن إبراهيم، و ينتهي بالكلام عن إبراهيم، و من أدنى تأمل للمقطع يرى أن المقطع يتألف من ثلاث فقرات واضحة المعالم تضمها وحدة جامعة، و الفقرتان الثانية و الثالثة تنتهيان بآية واحدة هي قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ* و هذا هو المقطع في فقراته الثلاث.
الفقرة الأولى:
[سورة البقرة (2): الآيات 124 الى 129]
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 261
الفقرة الثانية:
[سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 134]
الفقرة الثالثة:
[سورة البقرة (2): الآيات 135 الى 141]
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 262
كلمة في هذا المقطع و سياقه:
1- ختمت قصة آدم عليه الصلاة و السلام بالقاعدة:
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 263
و جاء مقطع بني إسرائيل ليعرض علينا نموذجا لأمة أنزل عليها هدى فانحرفت عنه، و يأتي الآن مقطع إبراهيم عليه الصلاة و السلام، ليقص علينا قصة النموذج الكامل لإنسان أنزل عليه هدى فقام به قياما كاملا وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ قال البيضاوي: فأداهن كملا و قام بهن حق القيام لقوله تعالى وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (سورة النجم) لاحظ الآن الصلة بين قوله تعالى في أول آية في مقطع آدم عليه السلام: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
و بين قوله تعالى في أول آية من مقطع إبراهيم عليه السلام: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. فالذي جعل ادم خليفة، جعل إبراهيم إماما فهو النموذج الكامل على الخليفة الكامل.
2- و قبل مقطع آدم في سورة البقرة يأتي مقطع الدعوة إلى التوحيد يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
و في مقطع إبراهيم نرى النموذج الأعلى على التوحيد متمثلا بإبراهيم و إسماعيل و إسحق و يعقوب إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ .... أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فمقطع إبراهيم يعمق سياقه المعاني التي وردت في مقطع الدعوة إلى العبادة و التوحيد.
3- و من قبل المقطع الأول في هذا القسم جاءت مقدمة سورة البقرة و فيها: قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ و في مقطع إبراهيم عليه الصلاة و السلام يأتي الأمر المفصل: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
4- و من قبل جاءت الفاتحة و كانت الفقرة الخاتمة فيها: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ* غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ. و قد رأينا في مقطع بني إسرائيل بعض صراط المغضوب عليهم و الضالين، و في مقطع إبراهيم نرى صراط الذين أنعم الله عليهم. و مع ذلك كله الحوار مع المغضوب عليهم و الضالين و إقامة الحجة.
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 264
5- و كما أن مقطع إبراهيم عليه السلام يخدم في سياقه ما مر من السورة، فإنه الأساس و المقدمة للمقطع اللاحق من السورة، و هو مقطع القبلة، إن القبلة التي هي مرتكز من مرتكزات العبادة لله ستتحدد في المقطع اللاحق، و لكن مقطع إبراهيم جاء بمثابة الترشيح للكلام في شأنها، و جاء بمثابة المقدمة لتقريرها أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ .. وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ .. وَ أَرِنا مَناسِكَنا ....
و هكذا نرى أن مقطع إبراهيم عليه السلام في محله يخدم سياق الفاتحة، و مقدمة سورة البقرة، و مقطع التوحيد، و مقطع آدم، و المقطع اللاحق، فماصلته بالمقطع السابق عليه مباشرة مقطع بني إسرائيل؟
6- قلنا من قبل: إن الحوار مع بني إسرائيل لازال مفتوحا، و إن ختم مقطع بني إسرائيل، ذلك لأنه لا زال لليهود. كلام يقولونه، متكئين عليه في رفض الإيمان بالإسلام، و في مقطع إبراهيم يستكمل جزء من الحوار، إذ الإمامة في ذرية إبراهيم مشروطة، و قد أخل اليهود بالشرط فلا حجة لهم في أن تستمر الإمامة فيهم، و لذلك تنتقل الإمامة إلى أمة تقوم بحق الله، و ذلك مقتضى دعوة إبراهيم و إسماعيل وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... و بعثة محمد صلى الله عليه و سلم مقتضى دعوة إبراهيم عليه السلام لأبناء إسماعيل وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... و المقطع يقرر أن دين إبراهيم و إسماعيل و إسحق و يعقوب هو الإسلام، فأن يرغب بنو إسرائيل عن الإسلام فذلك سفه فيهم.
و كما أنه في مقطع بني إسرائيل أعطيت أمتنا دروسا، فكذلك في مقطع إبراهيم، و كما أن أمتنا قد علمت كيف ترد على الدعوات الباطلة في المقطع السابق فكذلك الحال هنا في هذا المقطع.
7- في مدخل الكلام عن بني إسرائيل رأينا أنه وجهت لبني إسرائيل أوامر و نواه، و أن المقطع جاء بعد ذلك بمثابة تعليل لتوجيه هذه الأوامر و النواهي، و رأينا أن الفصل الثاني من مقطع بني إسرائيل مرتبط بقوله تعالى في المدخل وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ و أن الحوار في الفقرتين الأخيرتين من الفصل الثاني انصب على هذه المعاني، و قلنا في هذه الكلمة إن مقطع إبراهيم عليه السلام يكمل الحوار في هذا الشأن، و الآن نقول إن مقطع إبراهيم زيادة على تكملة الحوار فإنه يضع أساسا لنقطة تعرض لها مدخل مقطع بني
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 265
إسرائيل، و هي القضية المذكورة بعد الآية التي ذكرناها آنفا، إن الآية اللاحقة لهذه الآية هي قوله تعالى وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إذ الملاحظ أن مقطع إبراهيم يرد فيه قبل الآية الأخيرة وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ و سنرى أن مقاطع لاحقه ستتعرض بشكل أوسع لموضوع كتمان ما أنزل الله
إن تعانق المقطع مع ما قبله و مع ما بعده كثير كبير شديد، و تعانق فقراته مع بعضها كثير شديد كما سنرى.
و لنطرز هذه المقدمة عن سياق المقطع بخاتمة ما قدم سيد قطب لهذا المقطع. يقول:
و في ثنايا هذا العرض التاريخي (الذي عرضه النص و تحدث عنه سيد) يبرز السياق أن الإسلام بمعنى إسلام الوجه لله وحده، كان هو الرسالة الأولى و كان هو الرسالة الأخيرة، هكذا اعتقد إبراهيم، و هكذا اعتقد من بعده إسماعيل و إسحق و يعقوب و الأسباط حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى و عيسى، ثم آلت أخيرا إلى ورثه إبراهيم من المسلمين، فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها و وريث عهودها و بشاراتها، و من فسق عنها و رغب بنفسه عن ملة إبراهيم، فقد فسق عن عهد الله، و قد فقد وراثته لهذا العهد و بشارته. عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود و النصارى في اصطفائهم و اجتبائهم لمجرد أنهم أبناء إبراهيم و حفدته، و هم ورثته و خلفاؤه، لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة، و عندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام و شرف القيام عليه و عمارته، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثه باني هذا البيت و رافع قواعده؛ بانحرافهم عن عقيدته، ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون، فالكعبة هي قبلتهم و قبلة أبيهم إبراهيم، كل ذلك في نسق من العرض و الأداء و التعبير عجيب حافل بالإشارات الموحية، و الوقفات العميقة الدلالة، و الإيضاح القوي التأثير».
و لنبدأ عرض و تفسير المقطع:
الفقرة الأولى و تفسيرها:
وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي: و اذكر إذ اختبر إبراهيم ربه بأوامر و نواه فَأَتَمَّهُنَ أي: قام بهن حق القيام و أداهن أحسن التأدية، من غير تفريط و لا توان، و الابتلاء: هو الاختبار و الاختبار منا لظهور ما لم نعلم، و من الله لإظهار ما قد
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 266
علم، و عاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد و الغائب جميعا، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى، و للمفسرين في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام كلام كثير، و كل أقوالهم استنباط، إما من خلال السياق، أو من خلال قصة إبراهيم في القرآن، أو من خلال ما قصه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أبينا إبراهيم و هو كلام مفيد و لذلك سنعقد له فصلا. أما ههنا فنقول: «لقد وردت كلمة (بكلمات) منكرة للإشعار بأن الهدف من السياق هو تبيان قيام إبراهيم بما كلف به لا تبيان التكليف، على أنه من الفقرة، سنرى نموذجا على قيام إبراهيم بما يكلف به من خلال قيامه ببناء البيت قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً الإمام هو: من يؤتم به و يقتدى، و إمامة إبراهيم مؤبدة يجمع عليها حتى المختلفون من أبناء الديانات الكتابية، و الظاهر أن إتمام إبراهيم عليه الصلاة و السلام الكلمات سبب الإمامة، فكأنه كان نبيا ثم بإتمامه الكلمات أعطي منصب الرسالة مكافأة، فالقيام بأمر الله كاملا هو الذي يرشح لمنصب الإمامة في دين الله، فما أكثر خطأ الذين يتصدرون للإمامة عن غير طريقها. قالَ إبراهيم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي و اجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم، و ذرية الرجل: أولاده ذكورهم و إناثهم فيه سواء قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ اختلف المفسرون في تفسير العهد و الظلم في هذه الآية، فقد فسر الظلم: هنا بالكفر و الشرك، و فسر:
بالظلم الذي هو مخالفة الشريعة، فعلى الأول يكون المعنى لا ينال عهدي كافر. و على الثاني: لا ينال عهدي فاسق، و فسر العهد: بالنبوة و الدين و الأمر و الطاعة و النجاة في الآخرة، كما فسر بالوعد بالإمامة و هو أحقها بالاعتماد. فالمعنى: أنه لا ينال الإمامة فى الدين ظالم، و الظلم نوعان: ظلم يتعدى الإنسان إلى غيره، و ظلم لنفسه، و سنعقد من أجل إبراز ما يدخل في هذا النص أو من أجل رد الفهوم الخاطئة فيه فصولا.
قال ابن كثير: و قال ابن خويز منداد المالكي: «الظالم لا يصلح أن يكون خليفة، و لا حاكما، و لا مفتيا، و لا شاهدا، و لا راويا».
فالمعنى العام للآية كما يفهم من مجموع كلام ابن كثير: